Blog Layout

أبطأ من فند
أ تظن أنك لا تُعاني من مشكلة ؟!

أبطأ من فند

أ تظن أنك لا تُعاني من مشكلة ؟!

كانت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص تمتلك عبداً شجي الصوت عَذب الغناء يُسمى "فند"، فقالت له ذات يوم اقبس لنا من الجيران ناراً واعجل علينا كي نطبخ الطعام، فقال لها على أمرك مولاتي، وخرج يتسكع في الأحياء باحثاً عن نار، وكان يمشي ويغني طرباناً، فرأى قافلة تريد السفر فوقف أمامها متطفلاً واستمر في غنائه.

استحسن أهل القافلة غناءه وأثنوا عليه، فقال لهم إلى أين تريدون السفر؟، فقالوا إلى مصر.، فقال أ تأخذوني معكم أُغني لكم وأخدمكم؟، فرحبوا به واستأنسوا بالفكرة.

فسافر معهم وقضى عاماً كاملاً في مصر، وبعد أن عاد إلى المدينة ذهب مباشرة إلى بيت أحد الجيران واقتبس ناراً، وحملها وجاءً مهرولاً إلى بيت مولاته عائشة، ولما دخل الدار مسرعاً تعثر وأسقط النار بالقرب منها فانطفأت، فالتفت إليها وقال: بئساً والله للعجلة. (أي والله يا فند يستعجلون الواحد ويخلونه يتعثر... خو نطرو سنه سنتين اشفيكم مستعجلين على بطونكم؟! 😜)

فقالت له عائشة بنت سعد:

بَـعَثـتُـكَ قابِـساً فَـلَـبِثـتَ حَولاً * متى يَـأتي غِـياثُـكَ يا مُـغيـثُ

وأصبح العرب يقولون مثلاً (أبطأ من فند) على الذي يتأخر في قضاء الحاجة.

"فند" لم يفكر في نقاش خطئه والتأخر لمدة سنة دون إذن مولاته، ولم يرى أن تصرفه كان فيه حماقة وغباء وأنه عبد أبق، بل وكأنه بالتفاته إليها يُعاتبها على استعجالها له منزهاً نفسه عن الخطأ.

"فند" نموذج حاد لحالة يمر فيها كل البشر بدرجات متفاوتة... نحن البشر عموماً ننكر في كثير من الأحيان وجود مشكلة في شخصياتنا أو سلوكنا، ولحسن حظك سيدي القارئ أنني هنا اليوم لأُنكِّد عليك وأوضح لك ذلك. 😜

الحياة كما ترى ليست عالماً وردياً، فنحن نمر بمواقف كثيرة تُخلِّف فينا مشاعر مؤلمة، وأحياناً تكون المشاعر أقسى من أن تـتحملها أدمغتنا، وغالباً ما يكون ذلك عندما يحدث لك تَغيُّر مفاجئ أو كبير في حياتك، كتعرضك لخسارة كبيرة أو انفصال عاطفي لعلاقة تخللتها أيام رائعة.

الدماغ عندما يُكابد تلك المشاعر المؤلمة يحاول أن يخفف عن نفسه وطأتها، فيلجئ إلى خداع نفسه ليتجنب مشاعر القلق والألم العاطفي أو ليرى نفسه أنه مقبول من المجتمع، أو كي لا يرى نفسه ضعيفاً بالأخص إن كان يؤمن أنه شخص قوي جداً.

ويخادع الدماغ نفسه عبر الكثير من الأفكار التي تُسمى في علم النفس بـ"الآليات الدفاعية" وأحد تلك الآليات تُسمى "الإنكار" وهي موضع نقاشنا اليوم....

إن للإنكار وجوهاً عدة، فتارة ينكر الإنسان بكل بساطة وجود مشكلة ما، أو لا يعتقد بأنه مخطئ في تصرفاته، فمثلاً ينكر الشخص الكسول أن جزءاً كبيراً من مآسي حياته ترتَّبت عليه بسبب كسله، بل ينظر للحياة على أنها غير عادلة وسيئة.

وأحياناً يكون الإنكار بالتقليل من حجم المشكلة، فالشخص سريع الانفعال بسبب مشاعره -أو سمه إن شئت حساساً- لا يرى أن لهذه الصفة أثر بالغ على الانتكاسات العاطفية التي يمر فيها ببعض علاقاته الاجتماعية، بل يرجعها لتصرفات الآخرين أو سوء التفاهم وما أشبه.

وأخيراً قد يرى الإنسان بعينيه المشكلة ويعلم الصفة السيئة التي تـتخلله لكنه ينكر حاجته لتغييرها، أو أن الأمر أكبر من أن يقوم هو بتغييره، أو يتقاعس عن حلها لثقل ما ستخلفه المواجهة من مشاعر سلبية، كشخصٍ يتخذ الكثير من القرارات السيئة في حياته ويعلم أن هناك خطئاً في شخصيته وطريقة تفكيره، بَـيـدَ أنَّـه لا يحاول أصلاً تطوير شخصيته أو استصلاح عثراتها، سواء بمساعدة معالج نفسي أو بتفكر عميق.

وإن أردت أن تسأل نفسك هل تقوم بالإنكار في حياتك أم لا... فالجواب نعم أنت حتماً تقوم بذلك ولكن يتفاوت البشر في حجم ذلك، فمنهم من مثل "فند" ومنهم من أقل من ذلك، ففي الدماغ منطقتين تُسمى (DACC - Left SMST) مسؤولتين عن ذلك، أي أن الإنكار جزء أصيل من أدمغتنا.

وفي دراسة شرح علماء النفس لـ600 شخص انحرافات التفكير وأن الإنسان قد ينكر وجود مشاكل في حياته أو سلوكه فيرى نفسه أجمل مما هي عليه في الواقع، فرأى 85% منهم أنهم بعيدون عن هذا ولم يقعوا بذلك من قبل، ومن أولئك الـ600 فقط شخصٌ واحد اقتنع وقال نعم إنه سقط في ذلك.

فلا تكن سيدي القارئ مثلهم بل كان ذلك الواحد أرجوك... بنفسي أنت.

والآن أرجو أن تـتجول في ذاكرتك وتجيبني على بعض الأسئلة.

هل شعرت بعد أزمة عاطفية أو أحد مشاكل الحياة أنك عالق أو ضائع لا تدري إلى أين يجب عليك المسير أو ماذا تريد من نفسك؟

هل ترفض الحديث عن المشكلة التي واجهتك مع أشخاص قريبون منك؟

هل تحاول أن تشغل نفسك بالكثير من العمل كي لا تفكر بالمعضلات التي تمر بها؟

هل سألك أحدهم عن شعورك فأجبته أنك بخير حتى دون التفكير في الأمر؟

حل تحاول أن تتجنب المشاعر الكبيرة كالحب أو الشغف والحماس؟

هل مررت بأشياء سلبية متكررة كخوض علاقات ضارة مراراً أو المعاناة من خسائر عدة في ذات المجال؟

هل استخدمت عبارات من نوع "جميع الأشخاص (تذكر صفة) هم (تذكر سلبية) ؟ مثلاً (جميع الرجال خونة) (جميع النساء مزاجيات) (جميع المدراء متعجرفين) ( الأمهات لا يرضيهن شيء)... إلخ

حسناً إن أجبت عن سؤالين وأكثر بنعم... فأنت تُعاني من إنكار يستوجب عليك فعلاً إعادة التفكير بعمق في اصلاح الحياة أو طلب المساعدة في ذلك، وأعني من مختص أو قراءة كتب علمية نفسية وليس من نصائح خالتك.

ولعلك سيدي تقول أنك الآن بخير وحتى إن كنت تمارس الإنكار فذلك لم يُميتك... وذلك صحيح الإنكار لن يقتلك حتماً ولكن سيربك شعورك في الكثير من الأحيان وسيقلل جودة حياتك، وسيجعلك تشعر بالكثير من الخوف أو الحزن مرارا وتكراراً دون توقف، فمن يخاف الموت سيموت في الميدان مئة مرة من القلق قبل أن يموت حقاً.

البشر تخاف من مواجهة المشكلة لذلك تلجأ لآليات الدفاع، ولكن مخاوفك لن تبتعد عنك وإن حاولت تجنبها، فما إن يخطر أمام عينيك ما يذكرك بمشاكلك، سينقض عليك الخوف ومشاعر سلبية جمة لا تتمنى أن تشعر بها... لذلك ورحمة بنفسك يجب عليك أن تتخلص من الإنكار... لذا أرجوك اعرني انتباهك.

في دراسة أقيمت في جامعة أوهايو لعالما النفس روي ليويك و ليا بولين وجدا أن من الأسهل على الناس أن يقولوا "أنا آسف لأنني آذيتك" بدلاً من قول "أنت على حق لقد ارتكبت بحقك خطأ".

أي أن البشر يحاولون تصحيح الوضع عاطفياً دون تحمل المسؤولية التامة للخطأ والاعتراف صراحة به.

لذا فأول نصيحة ممكن أن أسيدها لك هي... تحمل المسؤولية.

غالباً ما يكون الإنكار لإلقاء اللوم على شيء خارج أنفسنا، أو أن المشكلة ليست مشكلة حقاً أو إنها مشكلة لكنها ليست نهاية الحياة، فنتنزه عن مسؤوليتنا ودورنا في ظروفنا.. وذلك سخافة... والاعتراف بالمشكلة أول الحل.

أضف لذلك لكي تتحمل المزيد من المسؤولية يجب أن تقبل أنه لا يمكنك التحكم في الطريقة التي يتصرف بها الآخرون، لكن يمكنك التحكم في الطريقة التي تتفاعل بها كردة فعل على تصرفهم، يمكنك التحكم في عواطفك... وهذا هو الفرق بين أولئك الذين يتركون الحياة تحدث لهم وبين الذين يجعلون الحياة حدثاً يُعاش.

ونصيحتي الثانية لك هي كن أكثر وعياً بنفسك.

آليات الدفاع هي وسيلة لتجنب مشاعرك الحقيقية، تميل إلى الظهور كوسيلة لحماية أنفسنا عندما نشعر بالضعف أو القلق أو التوتر، لذا كان واعياً أنك تستخدمها، وحاول أن تسمح لتلك المشاعر المكسورة فيك للتعبير عن نفسها... استمع لحزنك وخوفك وقلقك بإنصات، ولا تسمح للّاوعي أن يتغلب عليك ويخرسها.

سيدي هل تتذكر تلك المنطقتين في الدماغ المسؤولتين عن الإنكار (DACC - Left SMST) ؟

نعم هما يمارسان الإنكار لدى عامة الناس، إلا أنهما لا يمارسان نشاطهما المعتاد لمرضى الاكتئاب، ففي دراسة قام بها عالم الأعصاب الياباني ماكيكو يامادا Makiko Yamada وزملاء له عام 2013م وجد أن كِلا المنطقتين لا تمارسان نشاطهما عندما يكابد المرء الاكتاب، وكلما زاد استماع الفرد لحزنه وخوفه وقلقه كلما قل أداء المنطقتين.

ولا أدعوك هنا للدخول بحالة اكتئاب كي تحل مشاكلك، فالشخص إن استمع لحزنه ثم تعامل مع توتره ومشاكله وبدأ بتغيير حياته فإن ذلك سيمنحه شعوراً بالرضا، وبالتالي تتجه حياته نحو الأفضل، ويكون الحزن عصياً عليه.

وأضيف أيضاً... أحياناً ولِـما نمر به من ضغوط نفسية قد يتعذر على أدمغتنا الوصول للوعي بذاتها، لذا من الرائع قضاء بعض الوقت مع أشخاص مقربون منك يفكرون بشكل مختلف عنك، اسمح لهم بنقض تفكيرك في مختلف القضايا وكن على استعداد لتحطيم ما لا يتناسب مع نسختك من الواقع.

وثالثاً أقول... اكسر الأنماط.

نحن البشر يا سيدي القارئ مخلوقون من العادة، وكلنا نتعثر في الأنماط المتكررة، لذا فالدماغ إن تعلم الإنكار فإنه سيمتهنه إلى ما لا نهاية، وبمجرد أن تتحمل المسؤولية عن عواطفك، فأنت على استعداد لكسر روتين أفكارك السلبية والتوقف عن استخدام آليات الدفاع، وستتلذذ بشعور الشجاعة في مواجهة المشكلة بعد أول انتصار لك.

ولكن يا سيدي أرجو أن لا تنصدم أن عندما ترى أن الأمر صعب بعض الشيء في البداية، إنني أؤكد لك أنك لن تتخلص من الإنكار إلا بتحمل شقاق المشاعر السلبية وآلامها، وبشيء غير يسير من التفكير... إلا أن نتائجه تستحق العناء، فحالة السلام النفسي العاطفي والفكري الذي ستمر بها بعده جنة أُعدت للكادحين.

وأخيراً سيدي القارئ... ولأننا كلنا نعاني من الإنكار -بدرجات متفاوتة- فإني أنصحك -إن أجبت بنعم على بعض الأسئلة سابقة الذكر- أن تقرأ كتاب "كيف تُسيطر على قلقك" لعالم النفس آلبرت ألس (مكتبة جرير)، وكتابه الآخر والأهم "كيف تجعل حياتك سعيدة" والذي سأفوره لك هنا... فتفضل في تحميله.

تحميل كتاب اجعل حياتك سعيدة
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 27 Apr, 2024
سيدي القارئ... من أي برج أنت؟ وهل أنت مهتم بمعرفة ما يُخفيه برجك لك؟ لنعد بالتاريخ إلى الوراء... مع فجر التاريخ وفي الحضارة السومرية تحديداً عرف البشر الأوائل الزراعة وأصبحت هي غذاؤهم الذي يعتمدون عليه عوضاً عن الركض خلف الفرائس الذي قام به أجدادنا الأوائل، والمحاصيل الزراعية كما تعلم مواسم تعتمد على الشتاء والصيف والربيع والخريف، ولكن لم يكن لدى السومريين أي تقويم سنوي يمكنهم الاعتماد عليه لمعرفة فصول السنة والبدء بغرس البذور، لكنهم لاحظوا أن هناك أثني عشر مجموعة نجمية في السماء، وفي كل ثلاثين يوم تقريباً تختفي وتعود إحدى تلك المجموعات، وأماكنها في السماء ثابتة مع بداية كل موسم زراعي ونهايته، في دورة مدتها 365 يوم، فاعتمدوها وأصبحت هي تقويمهم السنوي. وأتى من بعدهم البابليون وطوروا تلك المجموعات النجمية، وتخيلوها على أشكال فأسموها الجدي والساقي والعصفور العظيم والفلاح والثور والتوأم والسرطان والأسد واخدود البذور والميزان والعقرب والرامي، ولكن لاحظ البابليون أن هناك خمس نجوم لامعة مميزة كانت تتحرك بسرعات متفاوتة ومكانها غير ثابت في السماء ولا تنتمي لأي مجموعة نجمية. وأخربهم الرهبان في ذلك الوقت أن هؤلاء النجوم المتجولة في السماء هي الآلهة الخمسة التي كانوا يعبدونهم ويقدسونهم في العراق، وهي تقدم لهم رسائل سماوية حول المستقبل، وفي الحقيقة لم تكن نجوم بل كانت الكواكب الشمسية عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل، لكن قلة المعرفة جعلتهم يعتقدون أنهم آلهة، ومن هنا بدأت الحكاية وأصبح الرهبان هم من يفسرون تلك الشفرات الغامضة ويتحدثون حول المستقبل من خلالها، فانتقلت الأبراج النجمية والكواكب الشمسية من علامات نجمية يهتدون بها للتاريخ إلى نبوءات وتحذيرات ومبشرات. وقد تأثرت حضارة الإغريق المتأخرة بالحضارة البابلية بشكل كبير واقتبسوا منهم أمر النجوم والاطلاع على المستقبل، ولكن الحضارة الإغريقية أكثر حضارة لديها آلهة وأبناء آلهة وزوجات آلهة وآلهة الآلهة وهلم جراً، لذا غيروا مسميات الأبراج وفقاً لقصصهم الخيالية عن زيوس وهيركوليس وبقية الآلهة وأسموها بالأسماء الموجودة اليوم. ومع مرور التاريخ تطورت محاولات تفسير الأبراج النجمية حتى ترسخ الاعتقاد بأن لمواليد كل برج شخصية معينة، ويتوافقون بالزواج والعلاقات مع الأبراج الفلانية.... وهلم جراً مما تقرأه اليوم في كتب الأبراج أو برامج التواصل الاجتماعي، فهل هذا صحيح؟ خاصة أننا عندما نقرأ ما كُتب عن أبراجنا الشخصية نراه ينطبق علينا بدرجة كبيرة؟ قبل الجواب أعتقد أن معرفة أصل الأشياء دليل على صحتها أو تهافتها، وشيء نابع من الاعتقاد بأن الكواكب آلهة طبعاً لا يمت للعلم بأي صلة، أما وجود العلامات النجمية في السماء والمقدرة على احتساب حركتها بدقة بواسطة علم الفلك فلا ربط بينه وبين التنجيم ومعرفة المستقبل أو شخصيات المواليد من خلال تلك النجوم، وليس في علم الأبراج عموماً شيء ثابت وقواعد راسخة، وباستطاعة أي إنسان شراء الكتب التي تتحدث عن ذلك ممن يدعون الاختصاص والقيام بمقارنة المحتوى وسترى التناقض بوضوح. أما عن تطابق المكتوب في الأبراج بدقة كبيرة مع واقعنا فإليك هذا المثال. ورد في كتاب " كل ما تحتاج معرفته عن شخصيات الأبراج الـ12 - Everything You Need To Know About Each Of The 12 Zodiac Personalities " عن برج العقرب: من الممكن أن ينفجر غضباً في وجه من يوجه إليه الانتقاد أو من يستهزئ به وبأفكاره، لأنه يعتز بأفكاره و سلوكياته. بربك!!! أليس هذا ينطبق على غالبية البشر؟! من منا لا يغضب لذلك؟! هذا أمر يشترك فيه 90% من البشر أو أكثر. إن الأشياء التي تكتب في الأبراج هي أشياء عامة تنطبق على الكثير من الناس، وعندما تقرأها ستقول في قرارة نفسك "أوه حتماً هذا أنا وهذا ينطبق علي"، بينما لو قرأت ما يُكتب عن الأبراج ستراه أيضاً ينطبق عليك بدرجة كبيرة، لكنك لا تقرأه بالعادة لأن الدماغ يريد معرفة ما يخصه فقط. إليك هذه التجربة.... وأرجوك تأمل بها جيداً. دكتور علم النفس برترام فورِر Bertram Forer دعا طلاب إحدى الجامعات الأمريكية إلى محاضرته، وسألهم عن أبراجهم وقسمهم إلى 12 مجموعة وفقاً لأبراجهم، وأعطى كل مجموعة ورقة فيها تحليل لشخصيتهم كُلاً وبرجه. الطلاب أكدوا صحة المكتوب في الورقة وقالوا إن ما ورد فيها عن برجهم يتوافق جداً مع شخصيتهم، ولا شك أن الورقة كتبت بطريقة علمية دقيقة. الظريف في الأمر أن الدكتور برترام وزع التحليل ذاته على جميع الطلبة وقام بتغيير اسم البرج فقط، وما دعا الطلبة للاعتقاد بأنه ينطبق عليهم كلياً هو لأن برترام كتب سمات عامة تنطبق على غالبية الناس. أضف لذلك هناك أمر في علم النفس يُسمى بـ"التحيز المتأخر - Hindsight Bias"، والذي يعني أن دماغك ينحاز بذكرياته ليثبت لك صحة ما تظن أنه صحيح وقد علمته من قبل أو حدث لك سابقاً، أي لو قلت أنك من البرج الفلاني الذي يحبون أصدقاءهم ورحيمين جداً، سيبدأ حينها دماغك بتذكر كل اللحظات التي قدمت فيها الحب لأصدقائك وأحبائك، وكل الأوقات التي كنت فيها عطوفاً رحيماً على الآخرين وستتأكد من صحة ما تميل للاعتقاد بصحته، وسيتغافل دماغك عن تذكر اللحظات التي تشاجرت فيها مع أصدقائك واللحظات الأخرى التي لم تظهر فيها الرحمة، بل حتى إن تذكرتها ستتحجج بعدة أشياء لتقول عن نفسك أنها ليست شخصيتك بل حدث عرضي. أيضاً لو قيل لك في برجك أنك ستتعرض للخيانة ثم تعرضت لها بعد أسبوع أو شهر، وهذا هو حال الدنيا وأمر وارد فيها، ستتذكر ما قرأته وسيحلو لدماغك أن يقول لنفسه نعم كنت أعرف ذلك قد قاله لي طالع برجي، بينما لو لم يحدث لك ذلك وكنت محفوفاً بأشخاص يصونون العهد لن تتذكر ذلك ولن تناقش كذب الطالع من عدمه.... هذا هو الانحياز المتأخر. أما عن الدليل النابع من البيانات ولغة الأرقام -والتي لا تكذب- فإليك هذه الدراسة. في كتابه الرائع Science as a candle the dark للدكتور كارل ساغان Carl Sagan طرح الكثير من الدراسات والأفكار حول الأبراج وخُدَعِها، إذ قام بدراسة على 25 ألف إنسان من البرج ذاته، وحسب ما تُروج له الأبراج أن السمات الشخصية ستكون متشابهة عندهم وحبهم لنمط وظيفي متشابه أيضاً، إلا أن الدراسة أخرجت ألا نمط متشابه في شخصياتهم بل إن هنالك تنوع كبير فيها... وهذا لو تفكر به أي عاقل لن يصدق الأبراج بعد ذلك. وهنالك معضلة سيتخبط بها دجلة الأبراج كثيراً ألا وهي "معضلة التوأم"، فلو كان لدينا توأم وبين ولادة الأول والآخر دقيقة يجب أن تكون هناك سمات مشتركة كثيرة بينهم، إلا أنه في دراسة كبيرة ومطول ينقلها كتاب كارل تابع العلماء 2000 توأم لمدة 30 سنة ورأوا أنه ليس هنالك تشابه في شخصيات التوائم ولا في حظهم ولا في الأمور الأخرى التي تدعيها الأبراج.... فهل من متعظ؟ أما لماذا يميل الناس للأبراج ويصدقونها؟ فالجواب لهذا علاقة تامة بشخصياتهم ودماغهم، وهناك عدة أجوبة لهذا السؤال ولكن سأقف على أهم سببين برأيي وأوعز ذلك لدراستين أكاديميتين. الأول/ هو الواقع المرير في بحث أجرته الدكتورة مارجا آن لينديمان Marjaana Lindeman على مجموعة ممن يعتقدون بالأبراج، تبين لها أن كلما كانت حياة الإنسان أكثر تأزماً ومأساوية كلما زاد إيمانه بالأبراج، فعندما يخذلك الواقع سيزداد تعلقك بهذه الخيوط التي قد تقدم لك شيئاً من الأمل الزائف أو تبرر سلوكيات من خذلك كونهم من البرج الفلاني سيء السمعة، أو أن الحظ خذلك لأنك الطيب من البرج الفلاني في عالم مليء بالأشرار... وهلم جراً. لذا من النادر جداً أن تجد شخصاً مرتاحاً نفسياً وحياتاً ويؤمن بهذه الترهات. السبب الثاني/ هو الذكاء والسمات الشخصية في دراسة حديثة من جامعة لوند السويدية أجرتها الدكتورة ايدا اندرسون والدكتورة جوليا بيرسون على عدد كبير غالبيتهم النساء، درسوا من خلالها شخيصات المشاركين ومستوى ذكائهم ومدى تعلقهم بالأبراج، خلصت الدراسة إلى أن الأشخاص الذين يؤمنون بالأبراج غالباً ما يكونوا نرجسيين ولديهم معدلات ذكاء منخفضة، وهناك صلة وثيقة جداً جداً بين اضراب الشخصية والايمان بالأبراج. ووفقاً لهذه الدراسة وعدة بحوث غيرها غالباً ما ستجد أن الشخص الذي يؤمن بالأبراج يؤمن أيضاً ببقية العلوم الزائفة كعلم الطاقة مثلاً وهلم جراً من الأشياء التي يؤمن بها عموماً أصحاب الذكاء المنخفض أو الشخصيات المضطربة. لذا إن كنت سيدي القارئ تؤمن بالأبراج دون معرفة منك بأصلها أو اعتقاداً منك بصحتها نظراً لتطابقها مع واقعك اليوم فأرجو أن يكون هذا المقال قد أنار في ذهنك ضياءً يدعوك لمزيد من البحث ومراجعة أفكارك، فلا عيب أو ضير أن يراجع الإنسان نفسه ليصحح معتقداته، وبالأخص إن كانت هذه المعتقدات تتناقض كلياً مع الدين.... أليس كذلك؟ أما بقاء اعتقاد عدد كبير من الناس بالأبراج وأن لها علاقة بحياتهم وشخصياتهم وسلوكهم -رغم ما تقدم ذكره- فهذا أمر متوقع ولا بأس به، فكما قال آينشتاين: شيئان لا حدود لهما، الكون وغباء الإنسان. وفي الحياة العديد من الأغبياء أو الشخصيات المضطربة الذين لن يتطوروا أو يتعالجوا ولن يراجعوا معتقداتهم انحيازاً لها، بل سيدافعون عنها بحماقة، وكم أتمنى لو يراجعون طبيباً نفسياً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 09 Feb, 2024
إلى أي مدى تظن أن معتقداتك وآراءك الفكرية والدينية والحياتية صحيحة؟ في الحرب العالمية الثانية احتلت اليابان جزيرة "كيسكا" الواقعة بين اليابان وألاسكا في شمال المحيط الهادي، وكانت ذات مكانة إستراتيجية لأمريكا، فاستنفر الأمريكان، واستعد أربعة وثلاثون ألف جندي أمريكي وكندي عام 1943 لاستعادة الجزيرة، رغم أنهم كانوا في مرحلة التعافي بسبب الخسائر والإصابات الفادحة التي لحقت بهم بسبب محاولتهم استعادة جزيرة "أتو" القريبة من هذه الجزيرة، لأن اليابانيين في الجزيرة استقتلوا وصمدوا وأوقعوا هزيمة نكراء فيهم، لذا كان قادة الجيش الأمريكي متأكدين كلياً أن المعركة ستكون حامية الوطيس، وشرسة إلى أبعد حد. عندما رست سفنهم الحربية على ضفاف الجزيرة وجدوها غارقة في ضباب صقيعي كثيف جداً يحجب الرؤية في جو من البرودة الشديدة، فتقدمت القوات الأمريكية والكندية بخطوات حذرة كرجل أعمى يطأ مكاناً للمرة الأولى، محاولين في ذات الوقت تفادي الألغام والأشراك التي نصبوها اليابانيين، وفجأة انهمرت عليهم الأعيرة النارية من كل حدب وصوب، ورغم ما يصاحب الطلقات من نار ونور إلا إنها لم تظهر لهم الأعداء من شدة الضباب، فدافعوا وردوا على الطلقات بطلقات وأكملوا مسيرهم رغم تلك الموجة العنيفة من النيران، واختبأوا خلف هضبة صغيرة في وسط الجزيرة. وبعد 24 ساعة وعندما انقشع الضباب وأسفر الصبح أتيح للأمريكان والكنديين عد خسائرهم، فكانت 78 ما بين قتيل وجريح، ويا للسخرية!! لقد اكتشفوا أن الجزيرة الصغيرة كانت خاوية بالكامل، ومنذ وصولهم كانوا وحدهم على تلك الجزيرة، وأن الأمريكان والكنديون كانوا يطلقون النار بعضهم على بعض بكل غباء. ولعلك تظن أن هذا الخطأ وارد جداً نظراً لوجود الضباب..... حسناً لم تحسن التخمين. كان فريق المراقبة والاستطلاع الجوي الأمريكي قد أخبر القادة الأمريكيين بالفعل قبل ثلاثة أسابيع من وصولهم إلى الجزيرة أنهم لا يُلاحظون أي نشاط ياباني فيها وأنهم يرجحون بأن اليابانيين قد غادروا الجزيرة بالفعل. لم يلتفت القادة لتقارير فريق الاستطلاع، بل قُبيل وصولهم للجزيرة بأيام رفضوا عرضاً من فريق الاستطلاع للقيام بجولة جديدة لرصد الجزيرة واليابانيين، لأنهم كانوا متأكدين تماماً من أن الزعماء اليابانيين الذين استقتلوا في "أتو" لن يتركوا هذه الجزيرة هكذا دون معركة تـتـناثر فيها الأشلاء. ونظراً لتمسكهم بآرائهم واعتقادهم بصحتها مات الكثيرون هباءً منثوراً..... هذا ليس تصرفاً فريداً من نوعه في تاريخ البشرية، بل إن أدمغتنا مفطورة على الميل للاعتقاد بصحة أفكارها والانحياز لها، وتفضيل المعلومات والأدلة التي تؤكد معتقداتنا أو قيمنا وآرائنا التي نؤمن بها حالياً، وازدراء كل الأدلة المناقضة والتقليل من قدرها، بل حتى ذاكرتنا تُقرب إلى أذهاننا ما يخدم رأينا ويدعمه مبعدةً عنا ما يخالفه. يُسمي علماء النفس هذا الميل بـ "الانحياز التأكيدي Confirmation bias"، وقد أقيمت عليه مئات الدراسات منذ عام 1977 وإلى يومنا هذا لفهمه ومعرفة ماذا يدور في أدمغتنا، ومحاولة تحذير الناس من الوقوع في شِراكه، وهبني دقائقاً من وقتك أوضح لك بعض تلك الدراسات. أجرى الدكتور كارليس لورد Charles Lord تجربة شيقة، إذ أحضر مجموعة مؤيدة بشدة لحكم الإعدام، وأخرى مناهضة له بقوة، ثم عرض على كل مجموعة الأدلة التي تخالف آراءهم، فلم يغير ذلك من معتقدهم، وشككوا في الأدلة، بل وزادتهم إصراراً وتمسكاً برأيهم. ثم أتى بمجموعتين جديدتين، وعرض عليهم أيضاً الأدلة التي تخالف معتقداتهم، بَـيـدَ أنَّـه شرح لهم الانحياز التأكيدي وطلب منهم وضع ذلك في الحسبان والتفكير بمنطقية وإنصاف دون تحيز، لكن ذلك لم يجدي نفعاً، وانحازوا لآرائهم، واستخفوا بالأدلة وضربوا بها عرض الحائط.... أي حتى معرفتنا بالانحياز التأكيدي لن تُـنجينا من الوقوع فيه. بل في دراسة أخرى تم شرح هذا الانحياز لما يدنو من 150 شخص، ثم سألوهم هل تعتقدون أنكم تقعون فيه، ولك أن تتخيل أن شخصاً واحد فقط من أولئك الـ 150 رجح أن يكون واقعاً فيه، بينما البقية كانوا واثقين من أن آراءهم مبنية على أدلة رزينة دون تعصب.... وهذه ترهات. كلنا نقع فيه... إن ذاكرتنا مصممة لمثل هذا الانحياز. قام بروفيسور علم النفس السيد مارك سنايدر Mark Snyder بدعوة عدد من الأشخاص إلى مختبره، وعرض عليهم سرداً شاملاً لأحداث وقعت في أسبوعٍ واحد من حياة امرأة تُدعى Jane، تحتوي على أنشطة انطوائية وأخرى منفتحة على المجتمع. وبعد يومين دعاهم مرة أخرى إلى مختبره، وطلب منهم اختيار وظيفة مناسبة لها وفقاً لما رأوه من حياتها، وخَـيَّـرهم بين وظيفة أمينة مكتبة -أي مهنة انطوائية نوعاً ما- وبين وظيفة بائعة عقارات -أي عمل يتطلب الاحتكاك بالمجتمع-. المجموعة التي اختارت (أمينة مكتبة) كانت تستدل بالأنشطة الانطوائية التي قامت بها ونسيت أعمالها الأخرى دون إدراك منها بذلك، كذلك المجموعة التي اختارت (بائعة عقارات) غفلت عن أعمالها الانطوائية وتذكرت المنفتحة فقط، أي في كِلا المجموعتين كانت الذاكرة تسعف الدماغ بالذكريات التي تثبت صحة رأيها دون الالتفات إلى ما يناقضها. لم يكن بين المشاركين من يقول إن المرأة تصلح لكِلا الوظيفتين أو يُطالب بالمزيد من التفاصيل ليتأخذ رأياً حاسماً، فأدمغتنا عادة ما تنحاز إلى رأيٍ ثم تحاول إثباته من خلال الأدلة المشابهة لرأيها والمتاحة أمامها، دون إرهاق نفسها بالتمحيص والتدقيق، فهذا يتطلب مجهوداً دماغياً كبيراً وأدمغتنا أكسل من أن تقوم بهذا لكل فكرة ستؤمن بها. والأمر يصبح أسوأ وأسوأ لو كانت هذه الفكرة التي نؤمن بها لها جانب عاطفي، كالولاء أو المحبة وما إلى ذلك من مشاعر مفعمة. في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2004 بين بوش الابن وجون كيري، أجرى علماء النفس تجربة حول الانحياز التأكيدي، إذ أحضروا لكِلا طرفي التنافس في الانتخابات مجموعة من محبي ومؤيدي ذلك الطرف. يعرض القائمين على التجربة لمحبي جون كيري مقاطع من كلامه تكون سخيفة نوعاً ما، وكذلك أنصار جورج بوش يُشاهدون شيئاً من كلامه بذات المستوى من الحماقة. ثم يتم مراقبة أدمغة المتطوعين للتجربة من خلال الأشعة الوظيفية للدماغ FMRI ليروا ما يتفاعل في أدمغتهم، وأثناء ذلك يُناقش محلل سياسي كل متطوع على حدة، ويقوم بتفنيد آراء مرشحه السياسي ويوضح له سفاهتها. لاحظ القائمون على التجربة أن المناطق الدماغية التي نشطت عند ذلك الحوار هي المناطق المناطة بالعواطف، ثم بعد برهة تنشط أجزاء التفكير المنطقي للدفاع عن مرشحهم، وكثير من المتطوعين لم تكن تنشط لديهم مناطق التفكير بمقدار كبير، بل يعتمدون على المشاعر كلياً في الدفاع عن مرشحهم، وكلما زاد نشاط مناطق العاطفة زادت قوة دفاعهم عن مرشحهم. وهذا يعني أننا البشر ندافع عن آرائنا بشراسة لأن مشاعرنا مندفعة إليها بقوة، هذا إن لم تكن قناعاتنا مبنية على أسباب عاطفية لا منطقية أصلاً، بل حتى إن كنا مؤمنين بها عن قناعة وتفكير فإن مشاعرنا تقودنا -دون وعي منا- للتحفظ على تلك الأفكار والآراء وتأييدها كأنها جزء منا.... هكذا تعمل أدمغتنا. ووفقاً لدراسة قام بها الدكتور ديفيد سيلفرمان David Silverman عام 2011 فإن غالبية الناس تعزز معتقداتها وتميل إليها بقوة عندما يتم تحديها بأدلة متناقضة. ولعله يتبادر إلى ذهنك الآن سؤال "إذاً كيف الخلاص؟!" كيف السبيل للتخلص من انحيازنا التأكيدي وانحياز الآخرين؟ في دراسة الدكتور كارليس لورد آنفة الذكر -حول الاقتناع بالإعدام- حاول بأكثر من طريقة ابتكار استراتيجية تحول بيننا وبين الانحياز التأكيدي، وقد نجح بالفعل، إذ أتى بمجموعة متعصبة لرأيها، وطلب منهم التدقيق في الأدلة بعناية، ويسألوا أنفسهم ويفكروا عميقاً قبل رفض أو قبول أي دليل إذا ما كانوا سيصلون إلى نفس التقييمات الداعمة أو الرافضة لو أظهر الدليل نتيجة مختلفة عما يؤمنون به مسبقاً. فعلى سبيل المثال إذا قُـدِّم لهؤلاء المتعصبين دراسة تشير إلى أن عقوبة الإعدام خفضت من معدلات الجريمة، كان يُطلب منهم تحليل منهجية الدراسة، وتخيل أن النتائج أشارت إلى عكس ذلك الاستنتاج. وقد حققت هذه الاستراتيجية نجاحاً يُعتد به، وغيرت آراء العديد من المشاركين في التجربة، وأزاحت عن خيالهم النقطة العمياء التي تحجب عنهم رؤية العالم على غير ما يفترضون، لكنَّ هذه الاستراتيجية مرهقة للتفكير وعلى الأرجح أننا لن نقوم بها لكل فكرة نؤمن بها... أدمغتنا كسولة، لكن حَري بنا استخدامها عند التدقيق في الأفكار التي سيترتب عليها مصير حياتنا أو جودتها. أما محاولة اقناع الآخرين بما تؤمن به دون أن يتحيزوا لآرائهم -إن كانت مخالفة لك- فتلك مهمة ثقيلة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، يقول الدكتور ديفيد سيلفرمان في دراسته أن نقاشاً واحداً من الأدلة الدامغة لا يُغير آراء الناس بل يُعززها، ولكن تدفق مستمر للتفنيد بالأدلة القاطعة يمكن أن يصحح المعلومات والمفاهيم الخاطئة. (يعني فيك وما حنيت... حن عليهم إلى وقت يقتنعون😜) وأيضاً بعض الدراسات التي حاولت تغيير رأي المنحازين لضرر التطعيم والمؤامرة المحاكة خلفه، استخدمت العاطفة كأسلوب للإقناع.... ونجحوا في ذلك، أي استمالة عواطف الناس واللعب على وتر المشاعر قد يُغير من آرائهم.... فالمشاعر لها قدرة هائلة على العبث في قراراتنا وآرائنا. والآن سيدي القارئ.... هل ما زلت تعتقد أن كل أفكارك ومعتقداتك صحيحة وأنك لم ترجح دليلاً على حساب دليل آخر عند إيمانك بها؟ أرجو أن يكون الجواب لا..... (تعال تعال ليش نعم.... شنو اسم الله عليك يوحى لك أنت؟! 😜)
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 02 Feb, 2024
نحن في ورطة حقيقية... قلبك أم عقلك يجب أن يتخذ القرار؟ قد لا أُقدم لك حلاً في هذا المقال، لكنني لن أسرق وقتك دون جدوى... سأشرح لك كيف تُدار الأمور في دماغك، وأنت من عليه أن يخترع الحل. هل سمعت بإمبراطورية "خوارزم" من قبل؟ غالباً لا.... والسبب لأنها مُحيت من الوجود. كانت من أهم إمبراطوريات العصور الوسطى أروعها بنياناً وأكثرها ثراءً وتقدماً في العلوم، ومركزاً للثقافة الإسلامية، تمتد من الهند جنوباً إلى أطراف روسيا والبحر الأسود، وإلى الخليج العربي غرباً، ضامة كل دول آسيا الوسطى. في عام 1217م تلقى إمبراطور خوارزم الشاه علاء الدين رسالة من جاره حاكم إمبراطورية المغول جنكيز خان مكتوب فيها "أنا سيد أرض مشرق الشمس، بينما تحكم أنت تلك الأراضي التي تغرب فيها الشمس، دعنا نبرم معاهدة من الصداقة والسلام". كان جنكيز خان قد وَحَّـد شمال الصين وكل الدويلات المحيطة بإمبراطوريته، مقاتل شرس لا يُستهان بقوته، خاض حروباً دموية لبناء إمبراطوريته، وقد كان عند كتابة هذه الرسالة قد بلغ الستين من العمر، وكبر على القتال ويريد قضاء آخر سنوات حياته في الراحة والاستجمام بعد ذلك العمر الطويل على صهوات الجياد، محاولاً تنمية تجارة إمبراطوريته وكسب مودة جيرانه. بعث جنكيز عدة مراسيل إلى علاء الدين، محملة بالهدايا، وقد أرسل ذات مرة كتلة ذهبية ضخمة جداً، ومعها رسالة مكتوب فيها: "لدي رغبة كبيرة في العيش في سلام معك، يجب أن أراك وجهاً لوجه يا بني". لم يستلطف علاء الدين رسائل جاره، وشعر وكأنه يستصغره بنعته بني وحاكم أرض المغرب، لذا كان علاء الدين كارهاً لشخص جنكيز غير آبه بالقيام بالتجارة معه رغم ما ستحققه من الانتعاش الاقتصادي والثروة لكِلا الطرفين، وهذا ما كان يفكر به جنكيز بكل منطقية. أرسل جنكيز مبعوثـه الشخصي، إلى خوارزم مع قافلة ضخمة جداً تضم 450 تاجراً مسلماً من اليغور و500 جمل يجرون عربات محملة بأروع البضائع والمعادن الثمينة. وصلت القافلة إلى إحدى مدن خوارزم، فاستبشر تجارها الذين سيتمكنون أخيراً من اقتحام السوق الصيني وتبادل التجارة مع المغول، إلا أن حاكم تلك المدينة أمر جيوشه بقتل كل من في القافلة، وسرق كل ما فيها، متحججاً أنه اشتبه بهم أنهم جواسيس. صدم خبر مقتلهم العالم فكيف تقتل جيوش مسلمة تجاراً مسلمين لم يرتكبون ذنباً!!! جنكيز رغم امتعاضه الشديد مما حصل قرر إعطاء علاء الدين فرصة ثانية، فأرسل ثلاثة مبعوثين، أحدهم مسلم واثنان من المغول، وطلبوا من علاء الدين أن يضع لدم المسلم حرمة وللتجارة احتراماً، فيُعاقب الجناة ويرجع السلع إلى أصحابها، ويدفع دية قتل المسلم للمسلم، كي يحل السلام. هل اتخذ علاء الدين قراراً منطقياً لحقن الدماء وإنماء التجارة؟ كلا... غالبته مشاعر الغرور والخيلاء فقتل المبعوث المسلم، وحرق لحية المغوليين وأعادهما إلى جنكيز خان مذللين مشوهين. فما كان من جنكيز إلا أن أرسل رسالة أخيرة إلى علاء الدين مكتوب فيها: "استعد للحرب أنا قادم". ولعلك تعرف الآن بقية التاريخ.... لقد أعمى الحقد قلب جنكيز ومحى تلك الإمبراطورية من الوجود، فأباد أي مدينة تقف في وجهه ولا تريد الاستسلام، حارقاً بيوتها قاتلاً كل من يتنفس فيها حتى الكلاب والقطط، لكنه ترك المساجد دون أي يلمسها احتراماً لدماء اليغور الذين قُتلوا في بادئ الأمر، والذين قاتلوا في صفوف جيشه أيضاً. مات جنكيز خان... لكن أكمل أبناؤه وأحفاده سلسلة القتل وتخريب البلدان وعاثوا في صفحات التاريخ فساداً وصبغوها بالدماء، إلى أن ضعفت إمبراطوريتهم وتلاشت. لماذا كل هذا؟ لأن هناك أحمق يُدعى علاء الدين عوضاً أن يتبع عقله والمنطق السليم في معاهدة الصداقة والتجارة راح يتبع مشاعره وغروره، والذي خَلف في قلب جنكيز مشاعر مقيتة أخرى أعمته عن أي صوت للعقل وأصبح وحشاً لا يمكن احتواءه. وأنت سيدي القارئ... هل تتبع قلبك أم عقلك في غالبية قراراتك؟ في الحقيقة -ومن ناحية علمية- القرارات العاطفية تُدار في الدماغ في الفص الجبهي لا القلب، بينما القرارات العقلانية في اللوزة الدماغية وبقية مناطق صنع القرار في الدماغ، ولا يوجد في الدماغ زِرَين (عاطفة – منطق) يمكن لنا ضغط أحدهما عندما نفكر في اتخاذ القرار... الدماغ لا يجري وفق هذه الطريقة. غالبية البشر عندما يكونون في منطقة الهدوء وبعيداً عن الأزمات والهيجان العاطفي تكون قراراتهم مَـيّـالةً للمنطق تجري وفق المبادئ العليا والأخلاقيات، وما إن يتعرضون لاستثارة عاطفية حتى يتبدل الأمر غير الذي كان، وينجرفون نحو القرارات العاطفية إلا من رحم ربي وقاوم مشاعره واتبع المنطق. في دراسة أجراها عالم الاقتصاد السلوكي الرائع دان آريلي Dan Ariely أحضر لمختبره مجموعة من الطلاب الأذكياء المميزين في الجامعة، فيوضع الطالب في غرفة لوحده ثم يتم سؤاله بعض الأسئلة -من خلال شاشة كمبيوتر- حول القرارات التي سيتخذها عندما تُعرض عليه إمكانية الدخول في علاقة عاطفية قد لا تحتوي على مقدار من الأمان، بل لربما تسبب له مشاكل اجتماعية أو حتى صحية كبعض الأمراض. جميع الطلبة أجابوا بمنطق ورجحوا عدم خوضهم في تلك العلاقات إلى حد ما. بعد أسبوع يُؤتى بذات الطلبة إلى المختبر مرة أخرى، ويُسأل بذات الكيفية أسئلة تشبه إلى حد كبير أسئلة المرة الأولى، ولكن هذه المرة قبل الأسئلة يتم إثارته عاطفياً وتهييج شعور الشهوة لديه من خلال بعض المحتويات التي تُعرض له في الغرفة. في خضم النشوة تغيرت أجوبة الطلبة بشكل مدهش، أصبح لديهم رغبة في الانخراط في مجموعة من الأنشطة المنحرفة وخوض تلك العلاقات، وتبدلت أجوبتهم بمقدار 72% نحو الأسوأ. لم يعودوا أولئك المنطقيون... لقد طاشت أدمغتهم بفعل تلك المشاعر المتهيجة، وهذا هو حال غالبية البشر، وسواء كانت المشاعر نبيلة أو مبتذلة حتماً ستُـغير من قراراتنا بشكل لا يُصدق، فحين نظن أننا سنختار العقل والمنطق دوماً ستأتي لحظات ونضعف أمام عاطفتنا فنختار ما تُمليه علينا، أول لعل عاطفتنا تُؤثر على قراراتنا المنطقية دون أن نشعر. وإليك هذه الدراسة التي قمت بها في الكويت عند مساعدتي لأحد طلبة علم النفس في كتابة رسالته للماجستير. في أحد المجمعات التجارية استوقفنا 50 شخصاً توالياً للمشاركة في الدراسة، في بادئ الأمور نقوم بسؤالهم خمس أسئلة حول المنتج الوطني، ويمكنهم الجواب من 1 إلى 10، هل هم راضون عن جودة تلك المنتجات وسعرها، وهل سيقررون يومياً الاكتفاء بالمنتج الوطني، وهم على استعداد لشرائها عوضاً عن المنتج الأجنبي لو فُرضت عليها المزيد من الضرائب وبالتالي يرتفع سعرها، بعد إجابتهم على تلك الأسئلة، نخوض معهم بعض الأحاديث الجانبية -أقل من خمسة دقائق- حول الغزو العراقي الغاشم وكيف قاومهم بعض أبناء هذا الوطن بكل شجاعة وقدموا الشهداء، وكيف أننا ككويتيون نعشق تراب هذا الوطن الذي يجمعنا.... وكنا نحاول بذلك إثارة روح الوطنية والأخوة فيهم. بعد ذلك نسألهم خمس أسئلة أخرى شبيهة إلى حد كبير بالأسئلة الأولى مع تغيير بعض مفرداتها وصيغة السؤال، وأظنك رجحت أن جوبتهم قد تغيرت فعلاً.... وأنت محق. قبل الحديث الجانبي كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 4.5، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 3.8، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 3.5. أما بعد الحوار الجانبي.... إليك هذه الصدمة، كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 7.6، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 8.2، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 6.1. كل هذا التغيير في ظرف خمس دقائق من الوطنية!!!!! حسناً.... إليك الصراحة، أنا شرير بعض الشيء، ولم أتوقف بالتجربة عند هذا الحد، لقد عدتها مرة أخرى مع 50 شخص آخرين، وسألتهم ذات الأسئلة ولكن هذه المرة كان حديثي الجانبي يدور حول خبث بعض التجار في الكويت وجشعهم والمبالغة بالأسعار، وكيف أفسد التجار السياسة ومجلس الأمة وكيف يختلسون الأموال ويستخدمون "الواسطة" للظفر بالمناقصات دون وجه حق... وكنت بذلك أريد إثارة الضغينة والشحناء وبعض العداوة. في الأسئلة الخمسة الأولى كانت متوسط الإجابة شبيه جداً بالمرة الأولى (4.5/ 3.9/ 3.4)، ولكن بعد هذا الحديث الجانبي وإعادة الأسئلة لك أن تتخيل الأجوبة..... كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 2.1، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 0.9، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 0.2. مضحك كيف تتلاعب بالإنسان مشاعره وكيف بحديث عاطفي جانبي ممكن أن تُـغير من قراراته وقناعاته دون وعي منه بذلك. وللأسف لم يفكر أحد من هؤلاء المئة شخص بعجلة الاقتصاد والتنمية وكيف أن تشجيع المنتج الوطني سينصب لاحقاً في مصلحة المشتري... وهذا ما يقوله علم الاقتصاد. ولنفرض الآن سيدي القارئ أنك قررت أن تكون كل قراراتك القادمة مبنية على العلم والمنطق وبعيدة كل البعد عن العواطف الجياشة والمشاعر المتأججة، هل حقاً ستلتزم بها؟ على الأرجح الجواب هو "لا" فأدمغتنا ليست بهذا المقدار من الانضباط. غالباً نحن البشر -وللأسف- عندما نقوم باتخاذ قرارات عاطفية نتمسك بها بشدة ونسعى جاهدين للحفاظ عليها والقيام بها وندافع عنها بشراسة، بينما لو اتخذنا قرارات عقلانية منطقية فإننا سنكون أقل التزاماً بها، ولا ندافع عنها بذات الشراسة التي تكون مع القرارات العاطفية، وقد لا نكملها على أحسن وجه، هذا إن أكملناها أصلاً. أقاما الدكتورين سام ماجليو – تالي رايش Sam Maglio – Taly Reich مجموعة من الدراسات والتجارب لملاحظة الناس بعد اتخاذهم للقرار، وفي إحدى التجارب طلبا من بعض المشاركين اختيار واحدة من ثلاث كاميرات رقمية بناءً على التحليل العقلاني لمجموعة من الخصائص التقنية والمميزات، وطُلب من البعض الآخر استخدام عواطفهم وشعورهم البديهي للاختيار دون إرهاق أدمغتهم بالتفكير. في اليوم التالي يقوما القائمَـين على التجربة بنقد اختيارات المشاركين واقناعهم بأنهم اتخذوا الاختيار الأسوأ، وكانت النتيجة أن من اتخذوا قرارات عاطفية شعروا بندم أقل ودافعوا عن اختيارهم بصلابة، على عكس العقلانيين شعروا بندم أكبر دون دفاع مستميت عن اختيارهم. في تجربة أخرى لهما طَـلبا من المشاركين حل الألغاز وفق العاطفة أو المنطق أيضاً، وكان الأشخاص الذين يحلوها وفق مشاعرهم ويخطؤون يحاولون مرة أخرى -أو أكثر- البحثَ عن الحل الصحيح، بينما من يحلوها وفق المنطق ثم يفشلون غالباً ما يتوقفون عند ذلك الحد. أي أن القرارات العاطفية هي التي نتحمس بشدة للقيام بها والدفاع عنها، على النقيض تماماً عندما يتعلق الأمر بالقرارات المنطقية. وهذه معضلة حقيقية... فإما قرارات عاطفية غير مستقرة ولا رزينة تتبدل مع تغير مشاعرنا، والتي -كما ترى- أنها قد تتقلب يومياً، نلتزم بها كلياً وندافع عنها، أو قرارات حكيمة وعقلية، ولكن لن نكون مخلصين جداً لها ولا مصرين عليها إلا بمقدار كبير من الانضباط النفسي وجهاد المشاعر، وهذا ليس بالأمر السهل. إن محاولة ضبط النفس والالتزام كلياً بالمنطق في قبال المشاعر يحتاج منا طاقة نفسية كبيرة وحكمة وأخلاقاً ومقداراً من الوعي، وهذا لا شك سيعود نفعه على حياتك بشكل رائع، ولكنه كفاحٌ ثقيلٌ على النفس في جُل الأوقات، في حين لا أسهل من الانجراف خلف تيار المشاعر والاستسلام كلياً للعواطف التي تقلب بنا حيث ما تشاء، ومن المرجح ألا تكون فعالة جداً لجودة حياة الإنسان بل العكس. وكثيراً ما يحلو لأدمغتنا خداعنا بأننا اليوم -ونظراً للظروف- سنتخذ قرارات عاطفية فلا طاقة نفسية تعيننا على الصراع مع الذات، على أن نتخذ القرارات المنطقية لاحقاً عندما تهدأ وتطيب الأيام، لكن الحياة -وكما ترى- للأسف لا توفر الكثير من الرفاهية والراحة ولن تجلب لنا هذه الأيام، فأي ظرف تتجاوزه سيأتي بعده آخر وهكذا دواليك.... إنها صعبة جداً وتستنزف منا الكثير من الصبر والطاقة النفسية، وستبقى كذلك على الدوام. لنعد إلى سؤالنا الأول.... "هل قلبك أم عقلك يجب أن يتخذ القرار؟" أظنك فهمت كيف تدار الأمور في دماغك، وعرفت كيف أن مشاعر تعبث بقراراتنا سواء شعرنا بذلك أم لا، فتفضل في اتخاذ الحل الأنسب لك.... وتيقن كلما زادت إرادتك في محاربة مشاعرك، كلما كانت حياتك أنجح. عن نفسي أقول كل أمانيي تتوق للقرارات العقلانية... لكن هل سأقوم بذلك دوماً، لا أظن فالإنسان أوهن من ألا تلهو به مشاعر، وأضعف من أن يقاومها كلياً... لا تبالغ في رزانتك ستبقى إنساناً.
بقية المقالات
Share by: