دماغك المنحاز

إلى أي مدى تظن أن معتقداتك وآراءك الفكرية والدينية والحياتية صحيحة؟

في الحرب العالمية الثانية احتلت اليابان جزيرة "كيسكا" الواقعة بين اليابان وألاسكا في شمال المحيط الهادي، وكانت ذات مكانة إستراتيجية لأمريكا، فاستنفر الأمريكان، واستعد أربعة وثلاثون ألف جندي أمريكي وكندي عام 1943 لاستعادة الجزيرة، رغم أنهم كانوا في مرحلة التعافي بسبب الخسائر والإصابات الفادحة التي لحقت بهم بسبب محاولتهم استعادة جزيرة "أتو" القريبة من هذه الجزيرة، لأن اليابانيين في الجزيرة استقتلوا وصمدوا وأوقعوا هزيمة نكراء فيهم، لذا كان قادة الجيش الأمريكي متأكدين كلياً أن المعركة ستكون حامية الوطيس، وشرسة إلى أبعد حد.

عندما رست سفنهم الحربية على ضفاف الجزيرة وجدوها غارقة في ضباب صقيعي كثيف جداً يحجب الرؤية في جو من البرودة الشديدة، فتقدمت القوات الأمريكية والكندية بخطوات حذرة كرجل أعمى يطأ مكاناً للمرة الأولى، محاولين في ذات الوقت تفادي الألغام والأشراك التي نصبوها اليابانيين، وفجأة انهمرت عليهم الأعيرة النارية من كل حدب وصوب، ورغم ما يصاحب الطلقات من نار ونور إلا إنها لم تظهر لهم الأعداء من شدة الضباب، فدافعوا وردوا على الطلقات بطلقات وأكملوا مسيرهم رغم تلك الموجة العنيفة من النيران، واختبأوا خلف هضبة صغيرة في وسط الجزيرة.

وبعد 24 ساعة وعندما انقشع الضباب وأسفر الصبح أتيح للأمريكان والكنديين عد خسائرهم، فكانت 78 ما بين قتيل وجريح، ويا للسخرية!! لقد اكتشفوا أن الجزيرة الصغيرة كانت خاوية بالكامل، ومنذ وصولهم كانوا وحدهم على تلك الجزيرة، وأن الأمريكان والكنديون كانوا يطلقون النار بعضهم على بعض بكل غباء.

ولعلك تظن أن هذا الخطأ وارد جداً نظراً لوجود الضباب..... حسناً لم تحسن التخمين.

كان فريق المراقبة والاستطلاع الجوي الأمريكي قد أخبر القادة الأمريكيين بالفعل قبل ثلاثة أسابيع من وصولهم إلى الجزيرة أنهم لا يُلاحظون أي نشاط ياباني فيها وأنهم يرجحون بأن اليابانيين قد غادروا الجزيرة بالفعل.

لم يلتفت القادة لتقارير فريق الاستطلاع، بل قُبيل وصولهم للجزيرة بأيام رفضوا عرضاً من فريق الاستطلاع للقيام بجولة جديدة لرصد الجزيرة واليابانيين، لأنهم كانوا متأكدين تماماً من أن الزعماء اليابانيين الذين استقتلوا في "أتو" لن يتركوا هذه الجزيرة هكذا دون معركة تـتـناثر فيها الأشلاء.

ونظراً لتمسكهم بآرائهم واعتقادهم بصحتها مات الكثيرون هباءً منثوراً.....

هذا ليس تصرفاً فريداً من نوعه في تاريخ البشرية، بل إن أدمغتنا مفطورة على الميل للاعتقاد بصحة أفكارها والانحياز لها، وتفضيل المعلومات والأدلة التي تؤكد معتقداتنا أو قيمنا وآرائنا التي نؤمن بها حالياً، وازدراء كل الأدلة المناقضة والتقليل من قدرها، بل حتى ذاكرتنا تُقرب إلى أذهاننا ما يخدم رأينا ويدعمه مبعدةً عنا ما يخالفه.

يُسمي علماء النفس هذا الميل بـ "الانحياز التأكيدي Confirmation bias"، وقد أقيمت عليه مئات الدراسات منذ عام 1977 وإلى يومنا هذا لفهمه ومعرفة ماذا يدور في أدمغتنا، ومحاولة تحذير الناس من الوقوع في شِراكه، وهبني دقائقاً من وقتك أوضح لك بعض تلك الدراسات.

أجرى الدكتور كارليس لورد Charles Lord تجربة شيقة، إذ أحضر مجموعة مؤيدة بشدة لحكم الإعدام، وأخرى مناهضة له بقوة، ثم عرض على كل مجموعة الأدلة التي تخالف آراءهم، فلم يغير ذلك من معتقدهم، وشككوا في الأدلة، بل وزادتهم إصراراً وتمسكاً برأيهم.

ثم أتى بمجموعتين جديدتين، وعرض عليهم أيضاً الأدلة التي تخالف معتقداتهم، بَـيـدَ أنَّـه شرح لهم الانحياز التأكيدي وطلب منهم وضع ذلك في الحسبان والتفكير بمنطقية وإنصاف دون تحيز، لكن ذلك لم يجدي نفعاً، وانحازوا لآرائهم، واستخفوا بالأدلة وضربوا بها عرض الحائط.... أي حتى معرفتنا بالانحياز التأكيدي لن تُـنجينا من الوقوع فيه.

بل في دراسة أخرى تم شرح هذا الانحياز لما يدنو من 150 شخص، ثم سألوهم هل تعتقدون أنكم تقعون فيه، ولك أن تتخيل أن شخصاً واحد فقط من أولئك الـ 150 رجح أن يكون واقعاً فيه، بينما البقية كانوا واثقين من أن آراءهم مبنية على أدلة رزينة دون تعصب.... وهذه ترهات.

كلنا نقع فيه... إن ذاكرتنا مصممة لمثل هذا الانحياز.

قام بروفيسور علم النفس السيد مارك سنايدر Mark Snyder بدعوة عدد من الأشخاص إلى مختبره، وعرض عليهم سرداً شاملاً لأحداث وقعت في أسبوعٍ واحد من حياة امرأة تُدعى Jane، تحتوي على أنشطة انطوائية وأخرى منفتحة على المجتمع.

وبعد يومين دعاهم مرة أخرى إلى مختبره، وطلب منهم اختيار وظيفة مناسبة لها وفقاً لما رأوه من حياتها، وخَـيَّـرهم بين وظيفة أمينة مكتبة -أي مهنة انطوائية نوعاً ما- وبين وظيفة بائعة عقارات -أي عمل يتطلب الاحتكاك بالمجتمع-.

المجموعة التي اختارت (أمينة مكتبة) كانت تستدل بالأنشطة الانطوائية التي قامت بها ونسيت أعمالها الأخرى دون إدراك منها بذلك، كذلك المجموعة التي اختارت (بائعة عقارات) غفلت عن أعمالها الانطوائية وتذكرت المنفتحة فقط، أي في كِلا المجموعتين كانت الذاكرة تسعف الدماغ بالذكريات التي تثبت صحة رأيها دون الالتفات إلى ما يناقضها.

لم يكن بين المشاركين من يقول إن المرأة تصلح لكِلا الوظيفتين أو يُطالب بالمزيد من التفاصيل ليتأخذ رأياً حاسماً، فأدمغتنا عادة ما تنحاز إلى رأيٍ ثم تحاول إثباته من خلال الأدلة المشابهة لرأيها والمتاحة أمامها، دون إرهاق نفسها بالتمحيص والتدقيق، فهذا يتطلب مجهوداً دماغياً كبيراً وأدمغتنا أكسل من أن تقوم بهذا لكل فكرة ستؤمن بها.

والأمر يصبح أسوأ وأسوأ لو كانت هذه الفكرة التي نؤمن بها لها جانب عاطفي، كالولاء أو المحبة وما إلى ذلك من مشاعر مفعمة.

في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2004 بين بوش الابن وجون كيري، أجرى علماء النفس تجربة حول الانحياز التأكيدي، إذ أحضروا لكِلا طرفي التنافس في الانتخابات مجموعة من محبي ومؤيدي ذلك الطرف.

يعرض القائمين على التجربة لمحبي جون كيري مقاطع من كلامه تكون سخيفة نوعاً ما، وكذلك أنصار جورج بوش يُشاهدون شيئاً من كلامه بذات المستوى من الحماقة.

ثم يتم مراقبة أدمغة المتطوعين للتجربة من خلال الأشعة الوظيفية للدماغ FMRI ليروا ما يتفاعل في أدمغتهم، وأثناء ذلك يُناقش محلل سياسي كل متطوع على حدة، ويقوم بتفنيد آراء مرشحه السياسي ويوضح له سفاهتها.

لاحظ القائمون على التجربة أن المناطق الدماغية التي نشطت عند ذلك الحوار هي المناطق المناطة بالعواطف، ثم بعد برهة تنشط أجزاء التفكير المنطقي للدفاع عن مرشحهم، وكثير من المتطوعين لم تكن تنشط لديهم مناطق التفكير بمقدار كبير، بل يعتمدون على المشاعر كلياً في الدفاع عن مرشحهم، وكلما زاد نشاط مناطق العاطفة زادت قوة دفاعهم عن مرشحهم.

وهذا يعني أننا البشر ندافع عن آرائنا بشراسة لأن مشاعرنا مندفعة إليها بقوة، هذا إن لم تكن قناعاتنا مبنية على أسباب عاطفية لا منطقية أصلاً، بل حتى إن كنا مؤمنين بها عن قناعة وتفكير فإن مشاعرنا تقودنا -دون وعي منا- للتحفظ على تلك الأفكار والآراء وتأييدها كأنها جزء منا.... هكذا تعمل أدمغتنا.

ووفقاً لدراسة قام بها الدكتور ديفيد سيلفرمان David Silverman عام 2011 فإن غالبية الناس تعزز معتقداتها وتميل إليها بقوة عندما يتم تحديها بأدلة متناقضة.

ولعله يتبادر إلى ذهنك الآن سؤال "إذاً كيف الخلاص؟!" كيف السبيل للتخلص من انحيازنا التأكيدي وانحياز الآخرين؟

في دراسة الدكتور كارليس لورد آنفة الذكر -حول الاقتناع بالإعدام- حاول بأكثر من طريقة ابتكار استراتيجية تحول بيننا وبين الانحياز التأكيدي، وقد نجح بالفعل، إذ أتى بمجموعة متعصبة لرأيها، وطلب منهم التدقيق في الأدلة بعناية، ويسألوا أنفسهم ويفكروا عميقاً قبل رفض أو قبول أي دليل إذا ما كانوا سيصلون إلى نفس التقييمات الداعمة أو الرافضة لو أظهر الدليل نتيجة مختلفة عما يؤمنون به مسبقاً.

فعلى سبيل المثال إذا قُـدِّم لهؤلاء المتعصبين دراسة تشير إلى أن عقوبة الإعدام خفضت من معدلات الجريمة، كان يُطلب منهم تحليل منهجية الدراسة، وتخيل أن النتائج أشارت إلى عكس ذلك الاستنتاج.

وقد حققت هذه الاستراتيجية نجاحاً يُعتد به، وغيرت آراء العديد من المشاركين في التجربة، وأزاحت عن خيالهم النقطة العمياء التي تحجب عنهم رؤية العالم على غير ما يفترضون، لكنَّ هذه الاستراتيجية مرهقة للتفكير وعلى الأرجح أننا لن نقوم بها لكل فكرة نؤمن بها... أدمغتنا كسولة، لكن حَري بنا استخدامها عند التدقيق في الأفكار التي سيترتب عليها مصير حياتنا أو جودتها.

أما محاولة اقناع الآخرين بما تؤمن به دون أن يتحيزوا لآرائهم -إن كانت مخالفة لك- فتلك مهمة ثقيلة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، يقول الدكتور ديفيد سيلفرمان في دراسته أن نقاشاً واحداً من الأدلة الدامغة لا يُغير آراء الناس بل يُعززها، ولكن تدفق مستمر للتفنيد بالأدلة القاطعة يمكن أن يصحح المعلومات والمفاهيم الخاطئة. (يعني فيك وما حنيت... حن عليهم إلى وقت يقتنعون😜)

وأيضاً بعض الدراسات التي حاولت تغيير رأي المنحازين لضرر التطعيم والمؤامرة المحاكة خلفه، استخدمت العاطفة كأسلوب للإقناع.... ونجحوا في ذلك، أي استمالة عواطف الناس واللعب على وتر المشاعر قد يُغير من آرائهم.... فالمشاعر لها قدرة هائلة على العبث في قراراتنا وآرائنا.

والآن سيدي القارئ.... هل ما زلت تعتقد أن كل أفكارك ومعتقداتك صحيحة وأنك لم ترجح دليلاً على حساب دليل آخر عند إيمانك بها؟

أرجو أن يكون الجواب لا.....

(تعال تعال ليش نعم.... شنو اسم الله عليك يوحى لك أنت؟! 😜)

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٣ أبريل ٢٠٢٥
كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بقية المقالات