مرحباً بك بـيـن حكاياتي
إلى أي مدى تظن أن معتقداتك وآراءك الفكرية والدينية والحياتية صحيحة؟
في الحرب العالمية الثانية احتلت اليابان جزيرة "كيسكا" الواقعة بين اليابان وألاسكا في شمال المحيط الهادي، وكانت ذات مكانة إستراتيجية لأمريكا، فاستنفر الأمريكان، واستعد أربعة وثلاثون ألف جندي أمريكي وكندي عام 1943 لاستعادة الجزيرة، رغم أنهم كانوا في مرحلة التعافي بسبب الخسائر والإصابات الفادحة التي لحقت بهم بسبب محاولتهم استعادة جزيرة "أتو" القريبة من هذه الجزيرة، لأن اليابانيين في الجزيرة استقتلوا وصمدوا وأوقعوا هزيمة نكراء فيهم، لذا كان قادة الجيش الأمريكي متأكدين كلياً أن المعركة ستكون حامية الوطيس، وشرسة إلى أبعد حد.
عندما رست سفنهم الحربية على ضفاف الجزيرة وجدوها غارقة في ضباب صقيعي كثيف جداً يحجب الرؤية في جو من البرودة الشديدة، فتقدمت القوات الأمريكية والكندية بخطوات حذرة كرجل أعمى يطأ مكاناً للمرة الأولى، محاولين في ذات الوقت تفادي الألغام والأشراك التي نصبوها اليابانيين، وفجأة انهمرت عليهم الأعيرة النارية من كل حدب وصوب، ورغم ما يصاحب الطلقات من نار ونور إلا إنها لم تظهر لهم الأعداء من شدة الضباب، فدافعوا وردوا على الطلقات بطلقات وأكملوا مسيرهم رغم تلك الموجة العنيفة من النيران، واختبأوا خلف هضبة صغيرة في وسط الجزيرة.
وبعد 24 ساعة وعندما انقشع الضباب وأسفر الصبح أتيح للأمريكان والكنديين عد خسائرهم، فكانت 78 ما بين قتيل وجريح، ويا للسخرية!! لقد اكتشفوا أن الجزيرة الصغيرة كانت خاوية بالكامل، ومنذ وصولهم كانوا وحدهم على تلك الجزيرة، وأن الأمريكان والكنديون كانوا يطلقون النار بعضهم على بعض بكل غباء.
ولعلك تظن أن هذا الخطأ وارد جداً نظراً لوجود الضباب..... حسناً لم تحسن التخمين.
كان فريق المراقبة والاستطلاع الجوي الأمريكي قد أخبر القادة الأمريكيين بالفعل قبل ثلاثة أسابيع من وصولهم إلى الجزيرة أنهم لا يُلاحظون أي نشاط ياباني فيها وأنهم يرجحون بأن اليابانيين قد غادروا الجزيرة بالفعل.
لم يلتفت القادة لتقارير فريق الاستطلاع، بل قُبيل وصولهم للجزيرة بأيام رفضوا عرضاً من فريق الاستطلاع للقيام بجولة جديدة لرصد الجزيرة واليابانيين، لأنهم كانوا متأكدين تماماً من أن الزعماء اليابانيين الذين استقتلوا في "أتو" لن يتركوا هذه الجزيرة هكذا دون معركة تـتـناثر فيها الأشلاء.
ونظراً لتمسكهم بآرائهم واعتقادهم بصحتها مات الكثيرون هباءً منثوراً.....
هذا ليس تصرفاً فريداً من نوعه في تاريخ البشرية، بل إن أدمغتنا مفطورة على الميل للاعتقاد بصحة أفكارها والانحياز لها، وتفضيل المعلومات والأدلة التي تؤكد معتقداتنا أو قيمنا وآرائنا التي نؤمن بها حالياً، وازدراء كل الأدلة المناقضة والتقليل من قدرها، بل حتى ذاكرتنا تُقرب إلى أذهاننا ما يخدم رأينا ويدعمه مبعدةً عنا ما يخالفه.
يُسمي علماء النفس هذا الميل بـ "الانحياز التأكيدي Confirmation bias"، وقد أقيمت عليه مئات الدراسات منذ عام 1977 وإلى يومنا هذا لفهمه ومعرفة ماذا يدور في أدمغتنا، ومحاولة تحذير الناس من الوقوع في شِراكه، وهبني دقائقاً من وقتك أوضح لك بعض تلك الدراسات.
أجرى الدكتور كارليس لورد Charles Lord تجربة شيقة، إذ أحضر مجموعة مؤيدة بشدة لحكم الإعدام، وأخرى مناهضة له بقوة، ثم عرض على كل مجموعة الأدلة التي تخالف آراءهم، فلم يغير ذلك من معتقدهم، وشككوا في الأدلة، بل وزادتهم إصراراً وتمسكاً برأيهم.
ثم أتى بمجموعتين جديدتين، وعرض عليهم أيضاً الأدلة التي تخالف معتقداتهم، بَـيـدَ أنَّـه شرح لهم الانحياز التأكيدي وطلب منهم وضع ذلك في الحسبان والتفكير بمنطقية وإنصاف دون تحيز، لكن ذلك لم يجدي نفعاً، وانحازوا لآرائهم، واستخفوا بالأدلة وضربوا بها عرض الحائط.... أي حتى معرفتنا بالانحياز التأكيدي لن تُـنجينا من الوقوع فيه.
بل في دراسة أخرى تم شرح هذا الانحياز لما يدنو من 150 شخص، ثم سألوهم هل تعتقدون أنكم تقعون فيه، ولك أن تتخيل أن شخصاً واحد فقط من أولئك الـ 150 رجح أن يكون واقعاً فيه، بينما البقية كانوا واثقين من أن آراءهم مبنية على أدلة رزينة دون تعصب.... وهذه ترهات.
كلنا نقع فيه... إن ذاكرتنا مصممة لمثل هذا الانحياز.
قام بروفيسور علم النفس السيد مارك سنايدر Mark Snyder بدعوة عدد من الأشخاص إلى مختبره، وعرض عليهم سرداً شاملاً لأحداث وقعت في أسبوعٍ واحد من حياة امرأة تُدعى Jane، تحتوي على أنشطة انطوائية وأخرى منفتحة على المجتمع.
وبعد يومين دعاهم مرة أخرى إلى مختبره، وطلب منهم اختيار وظيفة مناسبة لها وفقاً لما رأوه من حياتها، وخَـيَّـرهم بين وظيفة أمينة مكتبة -أي مهنة انطوائية نوعاً ما- وبين وظيفة بائعة عقارات -أي عمل يتطلب الاحتكاك بالمجتمع-.
المجموعة التي اختارت (أمينة مكتبة) كانت تستدل بالأنشطة الانطوائية التي قامت بها ونسيت أعمالها الأخرى دون إدراك منها بذلك، كذلك المجموعة التي اختارت (بائعة عقارات) غفلت عن أعمالها الانطوائية وتذكرت المنفتحة فقط، أي في كِلا المجموعتين كانت الذاكرة تسعف الدماغ بالذكريات التي تثبت صحة رأيها دون الالتفات إلى ما يناقضها.
لم يكن بين المشاركين من يقول إن المرأة تصلح لكِلا الوظيفتين أو يُطالب بالمزيد من التفاصيل ليتأخذ رأياً حاسماً، فأدمغتنا عادة ما تنحاز إلى رأيٍ ثم تحاول إثباته من خلال الأدلة المشابهة لرأيها والمتاحة أمامها، دون إرهاق نفسها بالتمحيص والتدقيق، فهذا يتطلب مجهوداً دماغياً كبيراً وأدمغتنا أكسل من أن تقوم بهذا لكل فكرة ستؤمن بها.
والأمر يصبح أسوأ وأسوأ لو كانت هذه الفكرة التي نؤمن بها لها جانب عاطفي، كالولاء أو المحبة وما إلى ذلك من مشاعر مفعمة.
في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2004 بين بوش الابن وجون كيري، أجرى علماء النفس تجربة حول الانحياز التأكيدي، إذ أحضروا لكِلا طرفي التنافس في الانتخابات مجموعة من محبي ومؤيدي ذلك الطرف.
يعرض القائمين على التجربة لمحبي جون كيري مقاطع من كلامه تكون سخيفة نوعاً ما، وكذلك أنصار جورج بوش يُشاهدون شيئاً من كلامه بذات المستوى من الحماقة.
ثم يتم مراقبة أدمغة المتطوعين للتجربة من خلال الأشعة الوظيفية للدماغ FMRI ليروا ما يتفاعل في أدمغتهم، وأثناء ذلك يُناقش محلل سياسي كل متطوع على حدة، ويقوم بتفنيد آراء مرشحه السياسي ويوضح له سفاهتها.
لاحظ القائمون على التجربة أن المناطق الدماغية التي نشطت عند ذلك الحوار هي المناطق المناطة بالعواطف، ثم بعد برهة تنشط أجزاء التفكير المنطقي للدفاع عن مرشحهم، وكثير من المتطوعين لم تكن تنشط لديهم مناطق التفكير بمقدار كبير، بل يعتمدون على المشاعر كلياً في الدفاع عن مرشحهم، وكلما زاد نشاط مناطق العاطفة زادت قوة دفاعهم عن مرشحهم.
وهذا يعني أننا البشر ندافع عن آرائنا بشراسة لأن مشاعرنا مندفعة إليها بقوة، هذا إن لم تكن قناعاتنا مبنية على أسباب عاطفية لا منطقية أصلاً، بل حتى إن كنا مؤمنين بها عن قناعة وتفكير فإن مشاعرنا تقودنا -دون وعي منا- للتحفظ على تلك الأفكار والآراء وتأييدها كأنها جزء منا.... هكذا تعمل أدمغتنا.
ووفقاً لدراسة قام بها الدكتور ديفيد سيلفرمان David Silverman عام 2011 فإن غالبية الناس تعزز معتقداتها وتميل إليها بقوة عندما يتم تحديها بأدلة متناقضة.
ولعله يتبادر إلى ذهنك الآن سؤال "إذاً كيف الخلاص؟!" كيف السبيل للتخلص من انحيازنا التأكيدي وانحياز الآخرين؟
في دراسة الدكتور كارليس لورد آنفة الذكر -حول الاقتناع بالإعدام- حاول بأكثر من طريقة ابتكار استراتيجية تحول بيننا وبين الانحياز التأكيدي، وقد نجح بالفعل، إذ أتى بمجموعة متعصبة لرأيها، وطلب منهم التدقيق في الأدلة بعناية، ويسألوا أنفسهم ويفكروا عميقاً قبل رفض أو قبول أي دليل إذا ما كانوا سيصلون إلى نفس التقييمات الداعمة أو الرافضة لو أظهر الدليل نتيجة مختلفة عما يؤمنون به مسبقاً.
فعلى سبيل المثال إذا قُـدِّم لهؤلاء المتعصبين دراسة تشير إلى أن عقوبة الإعدام خفضت من معدلات الجريمة، كان يُطلب منهم تحليل منهجية الدراسة، وتخيل أن النتائج أشارت إلى عكس ذلك الاستنتاج.
وقد حققت هذه الاستراتيجية نجاحاً يُعتد به، وغيرت آراء العديد من المشاركين في التجربة، وأزاحت عن خيالهم النقطة العمياء التي تحجب عنهم رؤية العالم على غير ما يفترضون، لكنَّ هذه الاستراتيجية مرهقة للتفكير وعلى الأرجح أننا لن نقوم بها لكل فكرة نؤمن بها... أدمغتنا كسولة، لكن حَري بنا استخدامها عند التدقيق في الأفكار التي سيترتب عليها مصير حياتنا أو جودتها.
أما محاولة اقناع الآخرين بما تؤمن به دون أن يتحيزوا لآرائهم -إن كانت مخالفة لك- فتلك مهمة ثقيلة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، يقول الدكتور ديفيد سيلفرمان في دراسته أن نقاشاً واحداً من الأدلة الدامغة لا يُغير آراء الناس بل يُعززها، ولكن تدفق مستمر للتفنيد بالأدلة القاطعة يمكن أن يصحح المعلومات والمفاهيم الخاطئة. (يعني فيك وما حنيت... حن عليهم إلى وقت يقتنعون😜)
وأيضاً بعض الدراسات التي حاولت تغيير رأي المنحازين لضرر التطعيم والمؤامرة المحاكة خلفه، استخدمت العاطفة كأسلوب للإقناع.... ونجحوا في ذلك، أي استمالة عواطف الناس واللعب على وتر المشاعر قد يُغير من آرائهم.... فالمشاعر لها قدرة هائلة على العبث في قراراتنا وآرائنا.
والآن سيدي القارئ.... هل ما زلت تعتقد أن كل أفكارك ومعتقداتك صحيحة وأنك لم ترجح دليلاً على حساب دليل آخر عند إيمانك بها؟
أرجو أن يكون الجواب لا.....
(تعال تعال ليش نعم.... شنو اسم الله عليك يوحى لك أنت؟! 😜)
Created with GoDaddy Arabic Website Builder