Blog Layout

لا داعي للتظاهر... أُحب المربى

كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟

في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي.

إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع.

لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى".

فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن"

اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة.

وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة".

فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟

لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف.

وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية.

أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا.

فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه.

هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.

تأمل هاتين الصورتين لذات الشخص... في أي صورتين يحاول تزييف مشاعر السعادة؟

فَـكِّـر....

نعم صحيح التي على اليمين هي الزائفة... أرأيت؟! في غالبية المواقف سيستطيع الناس النجاح في تمييز ذلك.

ثانياً... قد ينظر الناس لك بسوء إن حاولت تزييف مشاعرك، فينقلب السحر على الساحر، حتى وإن كانت نواياك نبيلة في تصرفك هذا، أو فعلتها مراعاةً لمشاعرهم.

في تجربة أجريت على مجموعتين من الطالبات الجامعيات في أمريكا، تُعطى كل فتاة ورقة فيها نكت مضحكة ويطلب منها أن تقرأها على شاب لطيف سيجلس معها -وهو أحد القائمين على التجربة-.

الشاب "الممثل" كان يضحك مجاملة مع المجموعة الأولى على نكت قديمة، ويضحك من صميم قلبه مع مجموعة الثانية لنكت لم يكن قد سمعها من قبل، ثم طُـلب من كل فتاة أن تُقيم مدى لطافة الشاب؟

الفتيات اللاتي ضحك معهن مجاملة أعطينه متوسط تقييم 3 من 10، بينما الفتيات اللاتي ضحك لنكتهن حقاً منحنه متوسط تقييم 8.5 من 10.

أ رأيت؟!! ذات الشاب وبذات اللطافة والتصرفات حصل على تقييمين مختلفين مع اختلاف صدق مشاعره، رغم تظاهره بالضحك مع المجموعة الأولى... فهل لا زلت تعتقد أن تظاهرك بما ليس في قلبك سيُكسب مشاعر إيجابية من الآخرين؟!

ثالثاً... إن المشاعر الحقيقية لها انعكاس عفوي على أجسامنا وحركاتنا، وأدمغة البشر في "اللاوعي" قادرة على ترجمتها باحترافية، ورؤيتهم لتلك الدلالات برهان على صدق مشاعرك وبالتالي ثقتهم بك، أما تزييف المشاعر أو كبتها لن يمنحك ذلك.

ولأوضح مقصدي من هذا إليك هذه التجربة... أتى عالم النفس الاجتماعي السيد روب ويلر Robb Willer بمجموعتين من المتطوعين، وعرض عليهم فيديو لموقف محرج لعامل في المطعم تعامل مع امرأة سمينة على أنها حامل، لترد عليه المرأة أنها ليست حُبلى... هي سمينة فقط. (بسرعه اعمل نفسك ميت😜)

فيديو المجموعة الأولى يعرض العامل وهو محرج منها حقاً ويُحمرُّ خجلاً ثم ويغطي وجهه حياءً ويعتذر منها، بينما المجموعة الثانية فيحتوي الفيديو على مشهد الاعتذار فقط، دون لقطات سيمات الخجل.

بعد ذلك سأل الدكتور روب المجموعتين "هل هذا العامل جدير بالثقة والاحترام؟"، فكانت النتيجة أن المجموعة الأولى التي رأت خجله رَجَّـحت جدارته، بينما المجموعة الثانية مالت للعكس رغم اعتذاره للمرأة بكل أدب.

وكرر الدكتور روب التجربة مع مجاميع أخرى ومواقف مختلفة، وفي كل مرة ترجح المجموعة التي رأت المشاعر الحقيقية ثقة صاحبها.

حسناً... هناك جزء نبيل من الناس لا يظهرون مشاعر زائفة، هم فقط يحاولون كبت مشاعرهم الحقيقية، فوجوههم لا تبدي أي سمة حتى وإن كان يكاد تُسمع شتائم قلوبهم من خلف أضلاعهم، راجين أن يكون كبتهم ذا نتيجة مرضية في الحصول على مشاعر إيجابية من الآخرين.... لكن ذلك أيضاً لن يجدي نفعاً.

في تجربة لجامعة ستانفورد حول الكبت العاطفي، درس القائمين على التجربة الأثر السلبي الذي يظهر على الشخص الذي يحاول كبت مشاعره، ورصدوا التشتت الفكري والشعور بالضغينة والارتفاع المطرد في ضغط الدم لديهم.... ولا شك أن هذا أمر متوقع في الدراسة، لكن النتيجة الأخرى الغير متوقعة التي أظهرتها الدراسة أن المستمعين والذين تعاملوا مع الأشخاص الذين يحاولون كبح مشاعرهم كان يظهر عليهم أيضاً ارتفاع مماثل في ضغط الدم، وكثير من المستمعين ظهرت عليهم بعض سمات التوتر بمجرد خوض حديث مع شخص حاول كبح مشاعره.... نعم أدمغتهم أدركت بكفاءة عالية أن هناك شيئاً ما معطلاً ومخفياً في عقل المتكلم.

وأظن أن تشيخوف كان محقاً تماماً... على كل إنسان أن يترك التظاهر وأن يكون مخلصاً تماماً لما في قلبه.

ولكن مهلاً... الحياة ليست عالماً وردياً كما ترى، وقد تجبرك الحياة -اجتماعياً- ألا تطلق العنان لما في قلبك من مشاعر، أو كما تقول معلمتي الدكتورة تالي شاروت "القانون الجزائي يحول بيني وبين قول كل ما في عقلي للآخرين"، لذا فما الحل المنطقي والمثمر إن كان كبت المشاعر أو تزييفها لا ينفع والحياة تفرض عليك ذلك؟

أولاً عليك أن تدرك بوضوح تام أن عدم رضا الناس عن مشاعرك وما يجول في صدرك هي مشكلتهم هم وليست مسؤوليتك أنت لا من قريب ولا بعيد... لذا لست مجبوراً على التظاهر، كن على سجيتك وليتحملوا هم مسؤولية مشاعرهم وعدم رضاهم عن الناس (رضوا أو ما رضوا طبهم مرض😜)، ومن لم يقبل بساطتك تلك لن تقنعه آلاف المسرحيات الهزلية التي ستحاول تمثيلها من أجله.

أما الحل المنطقي الحقيقي فهو أن تبدي مشاعرك أو ما في قلبك -حتى وإن كانت ثقيلة على قلب المستمع- لكن بأسلوب لطيف وبلاغة ودية يتخللها مفردات غير جارحة... كما فعل تشيخوف تماماً، إذ لم يتظاهر باهتمامه في الحوار حول الحرب مع تلك النسوة، ولم ينجرف لرغبتهن على حساب مشاعره، بل استطاع تحوير الحديث لما يرغب هو فيه بكل ود وذكاء.

إن كان قلبك متمللاً ولا يريد الخوض في حوارٍ مع أحدهم، فلست مجبوراً على التظاهر بالاهتمام، وليس من اللائق أن تقول له "اصمت وغيب وجهك عني لا أطيق سماعك"، تستطيع أن تقول له بكل ود وأدب واحترام مثلاً "أعتذر منك لست اليوم في مزاج جيد يسمح بخوض الحوارات... لعله في يوم آخر سأستمتع بالحوار معك".

كِلا الجوابين يترجمان موقفك في رفض خوض الحوار، لكن الآخر سيكون أكثر جدوى.

تذكر الآن آخر مرة زيفت فيها شعورك أو كتمته.... ألم يكن هناك جملة لطيفة وبليغة تقيك ما قمت به وتخرجك من ذلك المأزق؟

استخدم عقلك وحلاوة لسانك... لا مواهبك في التمثيل.

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
سيدي القارئ... من أي برج أنت؟ وهل أنت مهتم بمعرفة ما يُخفيه برجك لك؟ لنعد بالتاريخ إلى الوراء... مع فجر التاريخ وفي الحضارة السومرية تحديداً عرف البشر الأوائل الزراعة وأصبحت هي غذاؤهم الذي يعتمدون عليه عوضاً عن الركض خلف الفرائس الذي قام به أجدادنا الأوائل، والمحاصيل الزراعية كما تعلم مواسم تعتمد على الشتاء والصيف والربيع والخريف، ولكن لم يكن لدى السومريين أي تقويم سنوي يمكنهم الاعتماد عليه لمعرفة فصول السنة والبدء بغرس البذور، لكنهم لاحظوا أن هناك أثني عشر مجموعة نجمية في السماء، وفي كل ثلاثين يوم تقريباً تختفي وتعود إحدى تلك المجموعات، وأماكنها في السماء ثابتة مع بداية كل موسم زراعي ونهايته، في دورة مدتها 365 يوم، فاعتمدوها وأصبحت هي تقويمهم السنوي. وأتى من بعدهم البابليون وطوروا تلك المجموعات النجمية، وتخيلوها على أشكال فأسموها الجدي والساقي والعصفور العظيم والفلاح والثور والتوأم والسرطان والأسد واخدود البذور والميزان والعقرب والرامي، ولكن لاحظ البابليون أن هناك خمس نجوم لامعة مميزة كانت تتحرك بسرعات متفاوتة ومكانها غير ثابت في السماء ولا تنتمي لأي مجموعة نجمية. وأخربهم الرهبان في ذلك الوقت أن هؤلاء النجوم المتجولة في السماء هي الآلهة الخمسة التي كانوا يعبدونهم ويقدسونهم في العراق، وهي تقدم لهم رسائل سماوية حول المستقبل، وفي الحقيقة لم تكن نجوم بل كانت الكواكب الشمسية عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل، لكن قلة المعرفة جعلتهم يعتقدون أنهم آلهة، ومن هنا بدأت الحكاية وأصبح الرهبان هم من يفسرون تلك الشفرات الغامضة ويتحدثون حول المستقبل من خلالها، فانتقلت الأبراج النجمية والكواكب الشمسية من علامات نجمية يهتدون بها للتاريخ إلى نبوءات وتحذيرات ومبشرات. وقد تأثرت حضارة الإغريق المتأخرة بالحضارة البابلية بشكل كبير واقتبسوا منهم أمر النجوم والاطلاع على المستقبل، ولكن الحضارة الإغريقية أكثر حضارة لديها آلهة وأبناء آلهة وزوجات آلهة وآلهة الآلهة وهلم جراً، لذا غيروا مسميات الأبراج وفقاً لقصصهم الخيالية عن زيوس وهيركوليس وبقية الآلهة وأسموها بالأسماء الموجودة اليوم. ومع مرور التاريخ تطورت محاولات تفسير الأبراج النجمية حتى ترسخ الاعتقاد بأن لمواليد كل برج شخصية معينة، ويتوافقون بالزواج والعلاقات مع الأبراج الفلانية.... وهلم جراً مما تقرأه اليوم في كتب الأبراج أو برامج التواصل الاجتماعي، فهل هذا صحيح؟ خاصة أننا عندما نقرأ ما كُتب عن أبراجنا الشخصية نراه ينطبق علينا بدرجة كبيرة؟ قبل الجواب أعتقد أن معرفة أصل الأشياء دليل على صحتها أو تهافتها، وشيء نابع من الاعتقاد بأن الكواكب آلهة طبعاً لا يمت للعلم بأي صلة، أما وجود العلامات النجمية في السماء والمقدرة على احتساب حركتها بدقة بواسطة علم الفلك فلا ربط بينه وبين التنجيم ومعرفة المستقبل أو شخصيات المواليد من خلال تلك النجوم، وليس في علم الأبراج عموماً شيء ثابت وقواعد راسخة، وباستطاعة أي إنسان شراء الكتب التي تتحدث عن ذلك ممن يدعون الاختصاص والقيام بمقارنة المحتوى وسترى التناقض بوضوح. أما عن تطابق المكتوب في الأبراج بدقة كبيرة مع واقعنا فإليك هذا المثال. ورد في كتاب " كل ما تحتاج معرفته عن شخصيات الأبراج الـ12 - Everything You Need To Know About Each Of The 12 Zodiac Personalities " عن برج العقرب: من الممكن أن ينفجر غضباً في وجه من يوجه إليه الانتقاد أو من يستهزئ به وبأفكاره، لأنه يعتز بأفكاره و سلوكياته. بربك!!! أليس هذا ينطبق على غالبية البشر؟! من منا لا يغضب لذلك؟! هذا أمر يشترك فيه 90% من البشر أو أكثر. إن الأشياء التي تكتب في الأبراج هي أشياء عامة تنطبق على الكثير من الناس، وعندما تقرأها ستقول في قرارة نفسك "أوه حتماً هذا أنا وهذا ينطبق علي"، بينما لو قرأت ما يُكتب عن الأبراج ستراه أيضاً ينطبق عليك بدرجة كبيرة، لكنك لا تقرأه بالعادة لأن الدماغ يريد معرفة ما يخصه فقط. إليك هذه التجربة.... وأرجوك تأمل بها جيداً. دكتور علم النفس برترام فورِر Bertram Forer دعا طلاب إحدى الجامعات الأمريكية إلى محاضرته، وسألهم عن أبراجهم وقسمهم إلى 12 مجموعة وفقاً لأبراجهم، وأعطى كل مجموعة ورقة فيها تحليل لشخصيتهم كُلاً وبرجه. الطلاب أكدوا صحة المكتوب في الورقة وقالوا إن ما ورد فيها عن برجهم يتوافق جداً مع شخصيتهم، ولا شك أن الورقة كتبت بطريقة علمية دقيقة. الظريف في الأمر أن الدكتور برترام وزع التحليل ذاته على جميع الطلبة وقام بتغيير اسم البرج فقط، وما دعا الطلبة للاعتقاد بأنه ينطبق عليهم كلياً هو لأن برترام كتب سمات عامة تنطبق على غالبية الناس. أضف لذلك هناك أمر في علم النفس يُسمى بـ"التحيز المتأخر - Hindsight Bias"، والذي يعني أن دماغك ينحاز بذكرياته ليثبت لك صحة ما تظن أنه صحيح وقد علمته من قبل أو حدث لك سابقاً، أي لو قلت أنك من البرج الفلاني الذي يحبون أصدقاءهم ورحيمين جداً، سيبدأ حينها دماغك بتذكر كل اللحظات التي قدمت فيها الحب لأصدقائك وأحبائك، وكل الأوقات التي كنت فيها عطوفاً رحيماً على الآخرين وستتأكد من صحة ما تميل للاعتقاد بصحته، وسيتغافل دماغك عن تذكر اللحظات التي تشاجرت فيها مع أصدقائك واللحظات الأخرى التي لم تظهر فيها الرحمة، بل حتى إن تذكرتها ستتحجج بعدة أشياء لتقول عن نفسك أنها ليست شخصيتك بل حدث عرضي. أيضاً لو قيل لك في برجك أنك ستتعرض للخيانة ثم تعرضت لها بعد أسبوع أو شهر، وهذا هو حال الدنيا وأمر وارد فيها، ستتذكر ما قرأته وسيحلو لدماغك أن يقول لنفسه نعم كنت أعرف ذلك قد قاله لي طالع برجي، بينما لو لم يحدث لك ذلك وكنت محفوفاً بأشخاص يصونون العهد لن تتذكر ذلك ولن تناقش كذب الطالع من عدمه.... هذا هو الانحياز المتأخر. أما عن الدليل النابع من البيانات ولغة الأرقام -والتي لا تكذب- فإليك هذه الدراسة. في كتابه الرائع Science as a candle the dark للدكتور كارل ساغان Carl Sagan طرح الكثير من الدراسات والأفكار حول الأبراج وخُدَعِها، إذ قام بدراسة على 25 ألف إنسان من البرج ذاته، وحسب ما تُروج له الأبراج أن السمات الشخصية ستكون متشابهة عندهم وحبهم لنمط وظيفي متشابه أيضاً، إلا أن الدراسة أخرجت ألا نمط متشابه في شخصياتهم بل إن هنالك تنوع كبير فيها... وهذا لو تفكر به أي عاقل لن يصدق الأبراج بعد ذلك. وهنالك معضلة سيتخبط بها دجلة الأبراج كثيراً ألا وهي "معضلة التوأم"، فلو كان لدينا توأم وبين ولادة الأول والآخر دقيقة يجب أن تكون هناك سمات مشتركة كثيرة بينهم، إلا أنه في دراسة كبيرة ومطول ينقلها كتاب كارل تابع العلماء 2000 توأم لمدة 30 سنة ورأوا أنه ليس هنالك تشابه في شخصيات التوائم ولا في حظهم ولا في الأمور الأخرى التي تدعيها الأبراج.... فهل من متعظ؟ أما لماذا يميل الناس للأبراج ويصدقونها؟ فالجواب لهذا علاقة تامة بشخصياتهم ودماغهم، وهناك عدة أجوبة لهذا السؤال ولكن سأقف على أهم سببين برأيي وأوعز ذلك لدراستين أكاديميتين. الأول/ هو الواقع المرير في بحث أجرته الدكتورة مارجا آن لينديمان Marjaana Lindeman على مجموعة ممن يعتقدون بالأبراج، تبين لها أن كلما كانت حياة الإنسان أكثر تأزماً ومأساوية كلما زاد إيمانه بالأبراج، فعندما يخذلك الواقع سيزداد تعلقك بهذه الخيوط التي قد تقدم لك شيئاً من الأمل الزائف أو تبرر سلوكيات من خذلك كونهم من البرج الفلاني سيء السمعة، أو أن الحظ خذلك لأنك الطيب من البرج الفلاني في عالم مليء بالأشرار... وهلم جراً. لذا من النادر جداً أن تجد شخصاً مرتاحاً نفسياً وحياتاً ويؤمن بهذه الترهات. السبب الثاني/ هو الذكاء والسمات الشخصية في دراسة حديثة من جامعة لوند السويدية أجرتها الدكتورة ايدا اندرسون والدكتورة جوليا بيرسون على عدد كبير غالبيتهم النساء، درسوا من خلالها شخيصات المشاركين ومستوى ذكائهم ومدى تعلقهم بالأبراج، خلصت الدراسة إلى أن الأشخاص الذين يؤمنون بالأبراج غالباً ما يكونوا نرجسيين ولديهم معدلات ذكاء منخفضة، وهناك صلة وثيقة جداً جداً بين اضراب الشخصية والايمان بالأبراج. ووفقاً لهذه الدراسة وعدة بحوث غيرها غالباً ما ستجد أن الشخص الذي يؤمن بالأبراج يؤمن أيضاً ببقية العلوم الزائفة كعلم الطاقة مثلاً وهلم جراً من الأشياء التي يؤمن بها عموماً أصحاب الذكاء المنخفض أو الشخصيات المضطربة. لذا إن كنت سيدي القارئ تؤمن بالأبراج دون معرفة منك بأصلها أو اعتقاداً منك بصحتها نظراً لتطابقها مع واقعك اليوم فأرجو أن يكون هذا المقال قد أنار في ذهنك ضياءً يدعوك لمزيد من البحث ومراجعة أفكارك، فلا عيب أو ضير أن يراجع الإنسان نفسه ليصحح معتقداته، وبالأخص إن كانت هذه المعتقدات تتناقض كلياً مع الدين.... أليس كذلك؟ أما بقاء اعتقاد عدد كبير من الناس بالأبراج وأن لها علاقة بحياتهم وشخصياتهم وسلوكهم -رغم ما تقدم ذكره- فهذا أمر متوقع ولا بأس به، فكما قال آينشتاين: شيئان لا حدود لهما، الكون وغباء الإنسان. وفي الحياة العديد من الأغبياء أو الشخصيات المضطربة الذين لن يتطوروا أو يتعالجوا ولن يراجعوا معتقداتهم انحيازاً لها، بل سيدافعون عنها بحماقة، وكم أتمنى لو يراجعون طبيباً نفسياً.
بقية المقالات
Share by: