مرحباً بك بـيـن حكاياتي
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟
في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي.
إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع.
لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى".
فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن"
اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة.
وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة".
فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟
لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف.
وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية.
أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا.
فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه.
هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
تأمل هاتين الصورتين لذات الشخص... في أي صورتين يحاول تزييف مشاعر السعادة؟
فَـكِّـر....
نعم صحيح التي على اليمين هي الزائفة... أرأيت؟! في غالبية المواقف سيستطيع الناس النجاح في تمييز ذلك.
ثانياً... قد ينظر الناس لك بسوء إن حاولت تزييف مشاعرك، فينقلب السحر على الساحر، حتى وإن كانت نواياك نبيلة في تصرفك هذا، أو فعلتها مراعاةً لمشاعرهم.
في تجربة أجريت على مجموعتين من الطالبات الجامعيات في أمريكا، تُعطى كل فتاة ورقة فيها نكت مضحكة ويطلب منها أن تقرأها على شاب لطيف سيجلس معها -وهو أحد القائمين على التجربة-.
الشاب "الممثل" كان يضحك مجاملة مع المجموعة الأولى على نكت قديمة، ويضحك من صميم قلبه مع مجموعة الثانية لنكت لم يكن قد سمعها من قبل، ثم طُـلب من كل فتاة أن تُقيم مدى لطافة الشاب؟
الفتيات اللاتي ضحك معهن مجاملة أعطينه متوسط تقييم 3 من 10، بينما الفتيات اللاتي ضحك لنكتهن حقاً منحنه متوسط تقييم 8.5 من 10.
أ رأيت؟!! ذات الشاب وبذات اللطافة والتصرفات حصل على تقييمين مختلفين مع اختلاف صدق مشاعره، رغم تظاهره بالضحك مع المجموعة الأولى... فهل لا زلت تعتقد أن تظاهرك بما ليس في قلبك سيُكسب مشاعر إيجابية من الآخرين؟!
ثالثاً... إن المشاعر الحقيقية لها انعكاس عفوي على أجسامنا وحركاتنا، وأدمغة البشر في "اللاوعي" قادرة على ترجمتها باحترافية، ورؤيتهم لتلك الدلالات برهان على صدق مشاعرك وبالتالي ثقتهم بك، أما تزييف المشاعر أو كبتها لن يمنحك ذلك.
ولأوضح مقصدي من هذا إليك هذه التجربة... أتى عالم النفس الاجتماعي السيد روب ويلر Robb Willer بمجموعتين من المتطوعين، وعرض عليهم فيديو لموقف محرج لعامل في المطعم تعامل مع امرأة سمينة على أنها حامل، لترد عليه المرأة أنها ليست حُبلى... هي سمينة فقط. (بسرعه اعمل نفسك ميت😜)
فيديو المجموعة الأولى يعرض العامل وهو محرج منها حقاً ويُحمرُّ خجلاً ثم ويغطي وجهه حياءً ويعتذر منها، بينما المجموعة الثانية فيحتوي الفيديو على مشهد الاعتذار فقط، دون لقطات سيمات الخجل.
بعد ذلك سأل الدكتور روب المجموعتين "هل هذا العامل جدير بالثقة والاحترام؟"، فكانت النتيجة أن المجموعة الأولى التي رأت خجله رَجَّـحت جدارته، بينما المجموعة الثانية مالت للعكس رغم اعتذاره للمرأة بكل أدب.
وكرر الدكتور روب التجربة مع مجاميع أخرى ومواقف مختلفة، وفي كل مرة ترجح المجموعة التي رأت المشاعر الحقيقية ثقة صاحبها.
حسناً... هناك جزء نبيل من الناس لا يظهرون مشاعر زائفة، هم فقط يحاولون كبت مشاعرهم الحقيقية، فوجوههم لا تبدي أي سمة حتى وإن كان يكاد تُسمع شتائم قلوبهم من خلف أضلاعهم، راجين أن يكون كبتهم ذا نتيجة مرضية في الحصول على مشاعر إيجابية من الآخرين.... لكن ذلك أيضاً لن يجدي نفعاً.
في تجربة لجامعة ستانفورد حول الكبت العاطفي، درس القائمين على التجربة الأثر السلبي الذي يظهر على الشخص الذي يحاول كبت مشاعره، ورصدوا التشتت الفكري والشعور بالضغينة والارتفاع المطرد في ضغط الدم لديهم.... ولا شك أن هذا أمر متوقع في الدراسة، لكن النتيجة الأخرى الغير متوقعة التي أظهرتها الدراسة أن المستمعين والذين تعاملوا مع الأشخاص الذين يحاولون كبح مشاعرهم كان يظهر عليهم أيضاً ارتفاع مماثل في ضغط الدم، وكثير من المستمعين ظهرت عليهم بعض سمات التوتر بمجرد خوض حديث مع شخص حاول كبح مشاعره.... نعم أدمغتهم أدركت بكفاءة عالية أن هناك شيئاً ما معطلاً ومخفياً في عقل المتكلم.
وأظن أن تشيخوف كان محقاً تماماً... على كل إنسان أن يترك التظاهر وأن يكون مخلصاً تماماً لما في قلبه.
ولكن مهلاً... الحياة ليست عالماً وردياً كما ترى، وقد تجبرك الحياة -اجتماعياً- ألا تطلق العنان لما في قلبك من مشاعر، أو كما تقول معلمتي الدكتورة تالي شاروت "القانون الجزائي يحول بيني وبين قول كل ما في عقلي للآخرين"، لذا فما الحل المنطقي والمثمر إن كان كبت المشاعر أو تزييفها لا ينفع والحياة تفرض عليك ذلك؟
أولاً عليك أن تدرك بوضوح تام أن عدم رضا الناس عن مشاعرك وما يجول في صدرك هي مشكلتهم هم وليست مسؤوليتك أنت لا من قريب ولا بعيد... لذا لست مجبوراً على التظاهر، كن على سجيتك وليتحملوا هم مسؤولية مشاعرهم وعدم رضاهم عن الناس (رضوا أو ما رضوا طبهم مرض😜)، ومن لم يقبل بساطتك تلك لن تقنعه آلاف المسرحيات الهزلية التي ستحاول تمثيلها من أجله.
أما الحل المنطقي الحقيقي فهو أن تبدي مشاعرك أو ما في قلبك -حتى وإن كانت ثقيلة على قلب المستمع- لكن بأسلوب لطيف وبلاغة ودية يتخللها مفردات غير جارحة... كما فعل تشيخوف تماماً، إذ لم يتظاهر باهتمامه في الحوار حول الحرب مع تلك النسوة، ولم ينجرف لرغبتهن على حساب مشاعره، بل استطاع تحوير الحديث لما يرغب هو فيه بكل ود وذكاء.
إن كان قلبك متمللاً ولا يريد الخوض في حوارٍ مع أحدهم، فلست مجبوراً على التظاهر بالاهتمام، وليس من اللائق أن تقول له "اصمت وغيب وجهك عني لا أطيق سماعك"، تستطيع أن تقول له بكل ود وأدب واحترام مثلاً "أعتذر منك لست اليوم في مزاج جيد يسمح بخوض الحوارات... لعله في يوم آخر سأستمتع بالحوار معك".
كِلا الجوابين يترجمان موقفك في رفض خوض الحوار، لكن الآخر سيكون أكثر جدوى.
تذكر الآن آخر مرة زيفت فيها شعورك أو كتمته.... ألم يكن هناك جملة لطيفة وبليغة تقيك ما قمت به وتخرجك من ذلك المأزق؟
استخدم عقلك وحلاوة لسانك... لا مواهبك في التمثيل.
Created with GoDaddy Arabic Website Builder