مرحباً بك بـيـن حكاياتي
سيدي القارئ... من أي برج أنت؟ وهل أنت مهتم بمعرفة ما يُخفيه برجك لك؟
لنعد بالتاريخ إلى الوراء...
مع فجر التاريخ وفي الحضارة السومرية تحديداً عرف البشر الأوائل الزراعة وأصبحت هي غذاؤهم الذي يعتمدون عليه عوضاً عن الركض خلف الفرائس الذي قام به أجدادنا الأوائل، والمحاصيل الزراعية كما تعلم مواسم تعتمد على الشتاء والصيف والربيع والخريف، ولكن لم يكن لدى السومريين أي تقويم سنوي يمكنهم الاعتماد عليه لمعرفة فصول السنة والبدء بغرس البذور، لكنهم لاحظوا أن هناك أثني عشر مجموعة نجمية في السماء، وفي كل ثلاثين يوم تقريباً تختفي وتعود إحدى تلك المجموعات، وأماكنها في السماء ثابتة مع بداية كل موسم زراعي ونهايته، في دورة مدتها 365 يوم، فاعتمدوها وأصبحت هي تقويمهم السنوي.
وأتى من بعدهم البابليون وطوروا تلك المجموعات النجمية، وتخيلوها على أشكال فأسموها الجدي والساقي والعصفور العظيم والفلاح والثور والتوأم والسرطان والأسد واخدود البذور والميزان والعقرب والرامي، ولكن لاحظ البابليون أن هناك خمس نجوم لامعة مميزة كانت تتحرك بسرعات متفاوتة ومكانها غير ثابت في السماء ولا تنتمي لأي مجموعة نجمية.
وأخربهم الرهبان في ذلك الوقت أن هؤلاء النجوم المتجولة في السماء هي الآلهة الخمسة التي كانوا يعبدونهم ويقدسونهم في العراق، وهي تقدم لهم رسائل سماوية حول المستقبل، وفي الحقيقة لم تكن نجوم بل كانت الكواكب الشمسية عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل، لكن قلة المعرفة جعلتهم يعتقدون أنهم آلهة، ومن هنا بدأت الحكاية وأصبح الرهبان هم من يفسرون تلك الشفرات الغامضة ويتحدثون حول المستقبل من خلالها، فانتقلت الأبراج النجمية والكواكب الشمسية من علامات نجمية يهتدون بها للتاريخ إلى نبوءات وتحذيرات ومبشرات.
وقد تأثرت حضارة الإغريق المتأخرة بالحضارة البابلية بشكل كبير واقتبسوا منهم أمر النجوم والاطلاع على المستقبل، ولكن الحضارة الإغريقية أكثر حضارة لديها آلهة وأبناء آلهة وزوجات آلهة وآلهة الآلهة وهلم جراً، لذا غيروا مسميات الأبراج وفقاً لقصصهم الخيالية عن زيوس وهيركوليس وبقية الآلهة وأسموها بالأسماء الموجودة اليوم.
ومع مرور التاريخ تطورت محاولات تفسير الأبراج النجمية حتى ترسخ الاعتقاد بأن لمواليد كل برج شخصية معينة، ويتوافقون بالزواج والعلاقات مع الأبراج الفلانية.... وهلم جراً مما تقرأه اليوم في كتب الأبراج أو برامج التواصل الاجتماعي، فهل هذا صحيح؟ خاصة أننا عندما نقرأ ما كُتب عن أبراجنا الشخصية نراه ينطبق علينا بدرجة كبيرة؟
قبل الجواب أعتقد أن معرفة أصل الأشياء دليل على صحتها أو تهافتها، وشيء نابع من الاعتقاد بأن الكواكب آلهة طبعاً لا يمت للعلم بأي صلة، أما وجود العلامات النجمية في السماء والمقدرة على احتساب حركتها بدقة بواسطة علم الفلك فلا ربط بينه وبين التنجيم ومعرفة المستقبل أو شخصيات المواليد من خلال تلك النجوم، وليس في علم الأبراج عموماً شيء ثابت وقواعد راسخة، وباستطاعة أي إنسان شراء الكتب التي تتحدث عن ذلك ممن يدعون الاختصاص والقيام بمقارنة المحتوى وسترى التناقض بوضوح.
أما عن تطابق المكتوب في الأبراج بدقة كبيرة مع واقعنا فإليك هذا المثال.
ورد في كتاب " كل ما تحتاج معرفته عن شخصيات الأبراج الـ12 - Everything You Need To Know About Each Of The 12 Zodiac Personalities " عن برج العقرب: من الممكن أن ينفجر غضباً في وجه من يوجه إليه الانتقاد أو من يستهزئ به وبأفكاره، لأنه يعتز بأفكاره و سلوكياته.
بربك!!! أليس هذا ينطبق على غالبية البشر؟! من منا لا يغضب لذلك؟! هذا أمر يشترك فيه 90% من البشر أو أكثر.
إن الأشياء التي تكتب في الأبراج هي أشياء عامة تنطبق على الكثير من الناس، وعندما تقرأها ستقول في قرارة نفسك "أوه حتماً هذا أنا وهذا ينطبق علي"، بينما لو قرأت ما يُكتب عن الأبراج ستراه أيضاً ينطبق عليك بدرجة كبيرة، لكنك لا تقرأه بالعادة لأن الدماغ يريد معرفة ما يخصه فقط.
إليك هذه التجربة.... وأرجوك تأمل بها جيداً.
دكتور علم النفس برترام فورِر Bertram Forer دعا طلاب إحدى الجامعات الأمريكية إلى محاضرته، وسألهم عن أبراجهم وقسمهم إلى 12 مجموعة وفقاً لأبراجهم، وأعطى كل مجموعة ورقة فيها تحليل لشخصيتهم كُلاً وبرجه.
الطلاب أكدوا صحة المكتوب في الورقة وقالوا إن ما ورد فيها عن برجهم يتوافق جداً مع شخصيتهم، ولا شك أن الورقة كتبت بطريقة علمية دقيقة.
الظريف في الأمر أن الدكتور برترام وزع التحليل ذاته على جميع الطلبة وقام بتغيير اسم البرج فقط، وما دعا الطلبة للاعتقاد بأنه ينطبق عليهم كلياً هو لأن برترام كتب سمات عامة تنطبق على غالبية الناس.
أضف لذلك هناك أمر في علم النفس يُسمى بـ"التحيز المتأخر - Hindsight Bias"، والذي يعني أن دماغك ينحاز بذكرياته ليثبت لك صحة ما تظن أنه صحيح وقد علمته من قبل أو حدث لك سابقاً، أي لو قلت أنك من البرج الفلاني الذي يحبون أصدقاءهم ورحيمين جداً، سيبدأ حينها دماغك بتذكر كل اللحظات التي قدمت فيها الحب لأصدقائك وأحبائك، وكل الأوقات التي كنت فيها عطوفاً رحيماً على الآخرين وستتأكد من صحة ما تميل للاعتقاد بصحته، وسيتغافل دماغك عن تذكر اللحظات التي تشاجرت فيها مع أصدقائك واللحظات الأخرى التي لم تظهر فيها الرحمة، بل حتى إن تذكرتها ستتحجج بعدة أشياء لتقول عن نفسك أنها ليست شخصيتك بل حدث عرضي.
أيضاً لو قيل لك في برجك أنك ستتعرض للخيانة ثم تعرضت لها بعد أسبوع أو شهر، وهذا هو حال الدنيا وأمر وارد فيها، ستتذكر ما قرأته وسيحلو لدماغك أن يقول لنفسه نعم كنت أعرف ذلك قد قاله لي طالع برجي، بينما لو لم يحدث لك ذلك وكنت محفوفاً بأشخاص يصونون العهد لن تتذكر ذلك ولن تناقش كذب الطالع من عدمه.... هذا هو الانحياز المتأخر.
أما عن الدليل النابع من البيانات ولغة الأرقام -والتي لا تكذب- فإليك هذه الدراسة.
في كتابه الرائع Science as a candle the dark للدكتور كارل ساغان Carl Sagan طرح الكثير من الدراسات والأفكار حول الأبراج وخُدَعِها، إذ قام بدراسة على 25 ألف إنسان من البرج ذاته، وحسب ما تُروج له الأبراج أن السمات الشخصية ستكون متشابهة عندهم وحبهم لنمط وظيفي متشابه أيضاً، إلا أن الدراسة أخرجت ألا نمط متشابه في شخصياتهم بل إن هنالك تنوع كبير فيها... وهذا لو تفكر به أي عاقل لن يصدق الأبراج بعد ذلك.
وهنالك معضلة سيتخبط بها دجلة الأبراج كثيراً ألا وهي "معضلة التوأم"، فلو كان لدينا توأم وبين ولادة الأول والآخر دقيقة يجب أن تكون هناك سمات مشتركة كثيرة بينهم، إلا أنه في دراسة كبيرة ومطول ينقلها كتاب كارل تابع العلماء 2000 توأم لمدة 30 سنة ورأوا أنه ليس هنالك تشابه في شخصيات التوائم ولا في حظهم ولا في الأمور الأخرى التي تدعيها الأبراج.... فهل من متعظ؟
أما لماذا يميل الناس للأبراج ويصدقونها؟ فالجواب لهذا علاقة تامة بشخصياتهم ودماغهم، وهناك عدة أجوبة لهذا السؤال ولكن سأقف على أهم سببين برأيي وأوعز ذلك لدراستين أكاديميتين.
الأول/ هو الواقع المرير
في بحث أجرته الدكتورة مارجا آن لينديمان Marjaana Lindeman على مجموعة ممن يعتقدون بالأبراج، تبين لها أن كلما كانت حياة الإنسان أكثر تأزماً ومأساوية كلما زاد إيمانه بالأبراج، فعندما يخذلك الواقع سيزداد تعلقك بهذه الخيوط التي قد تقدم لك شيئاً من الأمل الزائف أو تبرر سلوكيات من خذلك كونهم من البرج الفلاني سيء السمعة، أو أن الحظ خذلك لأنك الطيب من البرج الفلاني في عالم مليء بالأشرار... وهلم جراً.
لذا من النادر جداً أن تجد شخصاً مرتاحاً نفسياً وحياتاً ويؤمن بهذه الترهات.
السبب الثاني/ هو الذكاء والسمات الشخصية
في دراسة حديثة من جامعة لوند السويدية أجرتها الدكتورة ايدا اندرسون والدكتورة جوليا بيرسون على عدد كبير غالبيتهم النساء، درسوا من خلالها شخيصات المشاركين ومستوى ذكائهم ومدى تعلقهم بالأبراج، خلصت الدراسة إلى أن الأشخاص الذين يؤمنون بالأبراج غالباً ما يكونوا نرجسيين ولديهم معدلات ذكاء منخفضة، وهناك صلة وثيقة جداً جداً بين اضراب الشخصية والايمان بالأبراج.
ووفقاً لهذه الدراسة وعدة بحوث غيرها غالباً ما ستجد أن الشخص الذي يؤمن بالأبراج يؤمن أيضاً ببقية العلوم الزائفة كعلم الطاقة مثلاً وهلم جراً من الأشياء التي يؤمن بها عموماً أصحاب الذكاء المنخفض أو الشخصيات المضطربة.
لذا إن كنت سيدي القارئ تؤمن بالأبراج دون معرفة منك بأصلها أو اعتقاداً منك بصحتها نظراً لتطابقها مع واقعك اليوم فأرجو أن يكون هذا المقال قد أنار في ذهنك ضياءً يدعوك لمزيد من البحث ومراجعة أفكارك، فلا عيب أو ضير أن يراجع الإنسان نفسه ليصحح معتقداته، وبالأخص إن كانت هذه المعتقدات تتناقض كلياً مع الدين.... أليس كذلك؟
أما بقاء اعتقاد عدد كبير من الناس بالأبراج وأن لها علاقة بحياتهم وشخصياتهم وسلوكهم -رغم ما تقدم ذكره- فهذا أمر متوقع ولا بأس به، فكما قال آينشتاين: شيئان لا حدود لهما، الكون وغباء الإنسان.
وفي الحياة العديد من الأغبياء أو الشخصيات المضطربة الذين لن يتطوروا أو يتعالجوا ولن يراجعوا معتقداتهم انحيازاً لها، بل سيدافعون عنها بحماقة، وكم أتمنى لو يراجعون طبيباً نفسياً.
Created with GoDaddy Arabic Website Builder