Blog Layout

خلالات العبد

هناك مثل شهير في العراق يقول : " خلالات العبد " ، وقصته كما التالي :
يُروى أن عبداً مملوكاً كان يركب حماراً في قافلة ، وفي الطريق أراد الذهاب للتبول "أجلكم الله" ولكن - ولسوء حظه - لم تتوقف القافلة ، فأضطر المسكين للتبول فوق ظهر حماره ، وكان أسفله كيس فيه طعامه وهو عبارة عن حفنة من الخلال (ثمر النخيل) .
وبعد مدة جاع هذا المملوك فمد يده في الكيس فأحس برطوبة بوله ، وأخرج أول خلالة فوجدها رطبة فأرجعها للكيس وهو يقول نجسانه - أي متنجسة بالبول - وأخذ يتحسس الخلال فوجد واحدة جافة فقال هذه "ما نجسانه" فأكلها .... وهكذا أخذ يتحسس الخلال مرة بعد أخرى وكلما وجد واحدة جافة قال ما نجسانه وأكلها ، وبالنتيجة مع مرور الوقت تبخر البول وجف الخلال فأكلها كلها .... النجسانه والـما نجسانه .
لماذا لم يأكل العبد كل الخلالات منذ البداية ... لماذا قضى وقتاً ليخدع نفسه ثم أكلها .. ما المانع ؟
إن أدمغتنا مبرمجة على مداراة نظرة المجتمع لنا ، وبالتالي من خلال بعض سلوكياتنا نحاول أن نكون أفضل في أعين الناس ، وأدمغتنا مفطورة أيضاً على مراعاة نظرتنا لأنفسنا ، لذلك نحن أحياناً نقوم ببعض السلوكيات كي لا نخسر احترامنا لأنفسنا ولا نغير اطباعنا عنها بأننا جيدون .
وإليك هذه الدراسة ...
أحضر دكتور الاقتصاد السلوكي دان آريلي Dan Ariely مجموعة من الطلبة إلى مختبره في الجامعة ، وأعطاهم ورقة فيها 20 مسألة رياضية يسهل حلها ، ومنحهم 5 دقائق لحل ما يمكن حله منها ، وستكون المكافأة دولار واحد مقابل كل مسألة يتم حلها .
غالبية الطلبة استطاعوا حل 4 مسائل من تلك العشرين نظراً لضيق الوقت ، وبالتالي سيحصل كل واحد منهم على 4 دولارات .
ثم دعا الدكتور دان مجموعة أخرى من الطلبة وأعطاهم نفس الأسئلة والدقائق الخمس ، إلا أنه طلب منهم أن يمزقوا الورقة بعد انتهاء الوقت ، ويقولوا له كم مسألة أجابوا عليها ، وسيكون لهم دولار مقابل كل مسألة .
ونظراً لتمزيقهم الورقة .. فهذا قد يحفزهم على الغش والخداع ، ويدعون عدداً أكبر من الحقيقي ، ولن يسألهم أحد عن مدى مصداقيتهم .... سيأخذون المال دون تدقيق . ( والمال السايب يعلم السرقة 😜)
غالبية الطلبة غشوا وادعوا أنهم أجابوا على 7 أسئلة ، ولكن لم يكن هنالك أي طالب يزعم أنه أجاب على الأسئلة كلها .
لقد غشوا ... بَـيدَ أنَّ معدل الغش كان محدوداً رغم مقدرتهم على زيادته وأخذ مكافأة الأسئلة العشرين كلها .
أعاد السيد دان التجربة ووضع الجائزة 10 دولارات مقابل كل سؤال ، وتوقع أن يحفزهم المزيد من المال على المزيد من الغش ، إلا أن غالبية الطلبة ادعوا أيضاً أنهم أجابوا على 7 أسئلة فقط .
لقد غشوا على أي حال ... فلماذا كان غشهم يسيراً ؟!!!
الجواب كما يقول الدكتور دان : جميعنا يريد النظر إلى نفسه بالمرآة ويشعر بالحسن حيال نفسه ، لذلك لا نريد الغش ، أو يمكننا الغش قليلاً فقط ، ورغم ذلك سنبقى نشعر بالقبول والحسن حيال أنفسنا ... يمكننا الاستفادة من الغش في أقل درجة طالما أنه لا يغير انطباعنا حول أنفسنا .
أي أن ما منع الطلبة عن المزيد من الغش هو أنهم لا يريدوا أن يخسروا احترامهم لأنفسهم ، لقد غشوا قليلاً ليقولوا بينهم وبين أنفسهم " نعم لقد غششت ولكن بشيء بسيط ... أنا لست بذلك السوء .. إنها كذبة بيضاء وأنا رجل صالح بعض الشيء " .
وهذا هو ذاته السبب الذي منع العبد من أكل الخلالات في بادئ الأمر ، ضميره لم يكن يسمح له بأكل النجاسة ، لأنه لا يريد أن ينظر لنفسه بالمرآة على أنه القذر آكل النجاسة ، فبحث عن الما نجسانه ، ودماغه العالق بين مطرقة احترام الذات وسندان الجوع كان يخادع نفسه حتى جفت الخلالات وأكلها كلها على أنها ما نجسانه !! .
إليك هذه القصة القرآنية ...
قال جل وعلا : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ..... فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ، فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ }
لقد نهى الله بني إسرائيل عن صيد السمك يوم السبت ، وكان هناك قرية لهم مطلة على البحر ، ومما اختبرهم الله به أن يوم السبت كانت الأسماك تأتيهم بكثرة قرب الشاطئ ، وأما بقية أيام الأسبوع فتغور بعيداً في البحر .
وهذا ما جعلهم في مأزق ، إما أن يشقوا طيلة الأسبوع في الصيد ، أو يخسروا احترامهم لأنفسهم ويعصوا الله جل جلاله ، فينظرون لأنفسهم على أنهم الشرذمة الفاسقة التي تجاوزت حدود الله من أجل أكل السمك .
إلا أن اليهود ابتكروا حيلة شرعية تحمل عن عاتقهم الشعور بالذنب أو ازدرائهم لأنفسهم واستحقارهم لها ، فكانوا ينزلون إلى البحر يوم السبت ، ويحيطون الأسماك القريبة من الشاطئ - وهي بالماء - بأشرعة السفن ويحكمون اغلاقها ، ويتركونها حية في البحر ، ويأتون يوم الأحد إلى أشرعتهم فيصطادوا السمك بكل سهولة ، وبذلك لا هم عصوا أمر الله بعدم الصيد يوم السبت ، ولا هم مرهقون من الصيد طيلة الأسبوع .
لكن - وكما قال الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام - : لا يُخدع الله عن جنته .
لقد أنزل الله غضبه على أهل القرية وجعلهم قردة خاسئين . ( والله بقر .. يبون يقصون على الله !!! )
إن هذا الخداع للنفس أو الغش بشكل محدود فقط هدفه كيفية نظرتنا لأنفسنا ... نريد نشعر بالحُسن عن أنفسنا ... نريد أن نرى أنفسنا على أننا من خيرة المجتمع لا من حثالته .
سيدي القارئ .. أرجو أن تقف الآن هنا وتتأمل قليلاً وتفكر كيف يمكننا أن نمحو الغش أو خداع النفس ؟
ما الذي قد أفعله أو أقوله للطلبة كي يمتنعوا عن الغش ويخبرونا بالعدد الحقيقي الذي أجابوا عنه حتى لو طلبنا منهم تمزيق الورقة كما هو الحال في تجربة الدكتور دان ؟
تأملت ولا ما تأملت ؟ خو تأمل ..
حسناً 😜
أعاد السيد دان آريلي تجربة الأسئلة العشرين مع مجموعة جديدة من الطلبة ، وطلب منهم أن يمزقوا الورقة بعد الجواب ، كي يحفزهم على الغش كما فعل سابقاً ، إلا أنه وقبل أن يقدم لهم ورقة الأسئلة ، أعطاهم ورقة فارغة وطلب منها إما أن يكتبوا فيها أسماء عشرة كتب قرأوها وهم في المرحلة الثانوية ، أو يكتبوا ما يتذكروه من الوصايا العشر المذكورة في العهد القديم "التوراة" التي أوصاها الله جل علاه لنبيه موسى عليه السلام .
ومن تلك الوصايا العشر : لا يكن لك إله إلا الله ، لا تسرق ، لا تشهد شهادة زور .
الطلبة الذين كتبوا أسماء عشرة كتب غشوا قليلاً ( 7 أسئلة ) ، بينما الطلبة الذين حاولوا تذكر الوصايا العشر لم يغشوا بتاتاً ، رغم أنهم غير متدينين ولم ينجحوا في تذكر الوصايا كلها ... فأحسنهم حظاً تذكر 4 فقط .
إن تذكر الوصايا الإلهية أحيت ضمائرهم ومنعتهم من الغش .
وهذا الأمر ينفع حتى مع الملحدين !!!
أعاد السيد دان التجربة ، وأحضر طلبة ملحدين لا يؤمنون بوجود خالق ولا يعترفون بدين ، وقسمهم إلى مجموعتين ، المجموعة الأولى طلب منهم - رغم إلحادهم - أن يقسموا على الإنجيل أنهم لن يغشوا ، أما المجموعة الأخرى فقط أعاطهم ورقة الأسئلة .
وبعد انتهاء الوقت وتمزيقهم للورق ، ادعى الملحدون الذين لم يقسموا على الإنجيل أنهم أجابوا على سبعة أسئلة ، بينما الملحدون الذين أقسموا على أنجيل لم يغشوا وقالوا 4 فقط !!!!! . ( والمصحف ملحد 😜)
أي أن تذكير الإنسان بالأخلاقيات أو المواعظ الإلهية يحيده عن الغش أو الكذب أو حتى خداع الذات ، سواء كان متديناً أو ملحداً .
لذلك تجد أن الله أمر نبيه موسى عليه السلام بأن يذكر بني إسرائيل بالله ، كي يمتنعوا عن الغش وخداع النفس ، قال جل علاه : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ} .
إذن سيدي القارئ ... أدمغتنا قد تخدعنا وتتحايل على نفسها ، أو تزين لنا الغش البسيط أو الكذبة البيضاء الصغيرة ، كي لا نخسر احترامنا لأنفسنا ولا نغير انطباعنا عنها على أننا صالحون أو جيدون ، ولكن ذلك مجرد وهم زائف تتبناه أدمغتنا كي لا يُرهقها تأنيب الضمير .
والحل لمحو هذا التوهم كما أخبرت الكتب السماوية من قبل - وأكد علم النفس اليوم - أن تُذكر الآخرين بالأخلاقيات والمواعظ الإلهية ، أن تبين لهم خداع النفس وحيلها التي تخفف عنها تأنيب الضمير ، وتشرح لهم أن الحل لا يتمثل في خداع النفس بل في الاعتراف بالخطأ ومحاولة تصحيحه .

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بقية المقالات
Share by: