هناك مثل شهير في العراق يقول : " خلالات العبد " ، وقصته كما التالي :
يُروى أن عبداً مملوكاً كان يركب حماراً في قافلة ، وفي الطريق أراد الذهاب للتبول "أجلكم الله" ولكن - ولسوء حظه - لم تتوقف القافلة ، فأضطر المسكين للتبول فوق ظهر حماره ، وكان أسفله كيس فيه طعامه وهو عبارة عن حفنة من الخلال (ثمر النخيل) .
وبعد مدة جاع هذا المملوك فمد يده في الكيس فأحس برطوبة بوله ، وأخرج أول خلالة فوجدها رطبة فأرجعها للكيس وهو يقول نجسانه - أي متنجسة بالبول - وأخذ يتحسس الخلال فوجد واحدة جافة فقال هذه "ما نجسانه" فأكلها .... وهكذا أخذ يتحسس الخلال مرة بعد أخرى وكلما وجد واحدة جافة قال ما نجسانه وأكلها ، وبالنتيجة مع مرور الوقت تبخر البول وجف الخلال فأكلها كلها .... النجسانه والـما نجسانه .
لماذا لم يأكل العبد كل الخلالات منذ البداية ... لماذا قضى وقتاً ليخدع نفسه ثم أكلها .. ما المانع ؟
إن أدمغتنا مبرمجة على مداراة نظرة المجتمع لنا ، وبالتالي من خلال بعض سلوكياتنا نحاول أن نكون أفضل في أعين الناس ، وأدمغتنا مفطورة أيضاً على مراعاة نظرتنا لأنفسنا ، لذلك نحن أحياناً نقوم ببعض السلوكيات كي لا نخسر احترامنا لأنفسنا ولا نغير اطباعنا عنها بأننا جيدون .
وإليك هذه الدراسة ...
أحضر دكتور الاقتصاد السلوكي دان آريلي Dan Ariely مجموعة من الطلبة إلى مختبره في الجامعة ، وأعطاهم ورقة فيها 20 مسألة رياضية يسهل حلها ، ومنحهم 5 دقائق لحل ما يمكن حله منها ، وستكون المكافأة دولار واحد مقابل كل مسألة يتم حلها .
غالبية الطلبة استطاعوا حل 4 مسائل من تلك العشرين نظراً لضيق الوقت ، وبالتالي سيحصل كل واحد منهم على 4 دولارات .
ثم دعا الدكتور دان مجموعة أخرى من الطلبة وأعطاهم نفس الأسئلة والدقائق الخمس ، إلا أنه طلب منهم أن يمزقوا الورقة بعد انتهاء الوقت ، ويقولوا له كم مسألة أجابوا عليها ، وسيكون لهم دولار مقابل كل مسألة .
ونظراً لتمزيقهم الورقة .. فهذا قد يحفزهم على الغش والخداع ، ويدعون عدداً أكبر من الحقيقي ، ولن يسألهم أحد عن مدى مصداقيتهم .... سيأخذون المال دون تدقيق . ( والمال السايب يعلم السرقة 😜)
غالبية الطلبة غشوا وادعوا أنهم أجابوا على 7 أسئلة ، ولكن لم يكن هنالك أي طالب يزعم أنه أجاب على الأسئلة كلها .
لقد غشوا ... بَـيدَ أنَّ معدل الغش كان محدوداً رغم مقدرتهم على زيادته وأخذ مكافأة الأسئلة العشرين كلها .
أعاد السيد دان التجربة ووضع الجائزة 10 دولارات مقابل كل سؤال ، وتوقع أن يحفزهم المزيد من المال على المزيد من الغش ، إلا أن غالبية الطلبة ادعوا أيضاً أنهم أجابوا على 7 أسئلة فقط .
لقد غشوا على أي حال ... فلماذا كان غشهم يسيراً ؟!!!
الجواب كما يقول الدكتور دان : جميعنا يريد النظر إلى نفسه بالمرآة ويشعر بالحسن حيال نفسه ، لذلك لا نريد الغش ، أو يمكننا الغش قليلاً فقط ، ورغم ذلك سنبقى نشعر بالقبول والحسن حيال أنفسنا ... يمكننا الاستفادة من الغش في أقل درجة طالما أنه لا يغير انطباعنا حول أنفسنا .
أي أن ما منع الطلبة عن المزيد من الغش هو أنهم لا يريدوا أن يخسروا احترامهم لأنفسهم ، لقد غشوا قليلاً ليقولوا بينهم وبين أنفسهم " نعم لقد غششت ولكن بشيء بسيط ... أنا لست بذلك السوء .. إنها كذبة بيضاء وأنا رجل صالح بعض الشيء " .
وهذا هو ذاته السبب الذي منع العبد من أكل الخلالات في بادئ الأمر ، ضميره لم يكن يسمح له بأكل النجاسة ، لأنه لا يريد أن ينظر لنفسه بالمرآة على أنه القذر آكل النجاسة ، فبحث عن الما نجسانه ، ودماغه العالق بين مطرقة احترام الذات وسندان الجوع كان يخادع نفسه حتى جفت الخلالات وأكلها كلها على أنها ما نجسانه !! .
إليك هذه القصة القرآنية ...
قال جل وعلا : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ..... فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ، فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ }
لقد نهى الله بني إسرائيل عن صيد السمك يوم السبت ، وكان هناك قرية لهم مطلة على البحر ، ومما اختبرهم الله به أن يوم السبت كانت الأسماك تأتيهم بكثرة قرب الشاطئ ، وأما بقية أيام الأسبوع فتغور بعيداً في البحر .
وهذا ما جعلهم في مأزق ، إما أن يشقوا طيلة الأسبوع في الصيد ، أو يخسروا احترامهم لأنفسهم ويعصوا الله جل جلاله ، فينظرون لأنفسهم على أنهم الشرذمة الفاسقة التي تجاوزت حدود الله من أجل أكل السمك .
إلا أن اليهود ابتكروا حيلة شرعية تحمل عن عاتقهم الشعور بالذنب أو ازدرائهم لأنفسهم واستحقارهم لها ، فكانوا ينزلون إلى البحر يوم السبت ، ويحيطون الأسماك القريبة من الشاطئ - وهي بالماء - بأشرعة السفن ويحكمون اغلاقها ، ويتركونها حية في البحر ، ويأتون يوم الأحد إلى أشرعتهم فيصطادوا السمك بكل سهولة ، وبذلك لا هم عصوا أمر الله بعدم الصيد يوم السبت ، ولا هم مرهقون من الصيد طيلة الأسبوع .
لكن - وكما قال الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام - : لا يُخدع الله عن جنته .
لقد أنزل الله غضبه على أهل القرية وجعلهم قردة خاسئين . ( والله بقر .. يبون يقصون على الله !!! )
إن هذا الخداع للنفس أو الغش بشكل محدود فقط هدفه كيفية نظرتنا لأنفسنا ... نريد نشعر بالحُسن عن أنفسنا ... نريد أن نرى أنفسنا على أننا من خيرة المجتمع لا من حثالته .
سيدي القارئ .. أرجو أن تقف الآن هنا وتتأمل قليلاً وتفكر كيف يمكننا أن نمحو الغش أو خداع النفس ؟
ما الذي قد أفعله أو أقوله للطلبة كي يمتنعوا عن الغش ويخبرونا بالعدد الحقيقي الذي أجابوا عنه حتى لو طلبنا منهم تمزيق الورقة كما هو الحال في تجربة الدكتور دان ؟
تأملت ولا ما تأملت ؟ خو تأمل ..
حسناً 😜
أعاد السيد دان آريلي تجربة الأسئلة العشرين مع مجموعة جديدة من الطلبة ، وطلب منهم أن يمزقوا الورقة بعد الجواب ، كي يحفزهم على الغش كما فعل سابقاً ، إلا أنه وقبل أن يقدم لهم ورقة الأسئلة ، أعطاهم ورقة فارغة وطلب منها إما أن يكتبوا فيها أسماء عشرة كتب قرأوها وهم في المرحلة الثانوية ، أو يكتبوا ما يتذكروه من الوصايا العشر المذكورة في العهد القديم "التوراة" التي أوصاها الله جل علاه لنبيه موسى عليه السلام .
ومن تلك الوصايا العشر : لا يكن لك إله إلا الله ، لا تسرق ، لا تشهد شهادة زور .
الطلبة الذين كتبوا أسماء عشرة كتب غشوا قليلاً ( 7 أسئلة ) ، بينما الطلبة الذين حاولوا تذكر الوصايا العشر لم يغشوا بتاتاً ، رغم أنهم غير متدينين ولم ينجحوا في تذكر الوصايا كلها ... فأحسنهم حظاً تذكر 4 فقط .
إن تذكر الوصايا الإلهية أحيت ضمائرهم ومنعتهم من الغش .
وهذا الأمر ينفع حتى مع الملحدين !!!
أعاد السيد دان التجربة ، وأحضر طلبة ملحدين لا يؤمنون بوجود خالق ولا يعترفون بدين ، وقسمهم إلى مجموعتين ، المجموعة الأولى طلب منهم - رغم إلحادهم - أن يقسموا على الإنجيل أنهم لن يغشوا ، أما المجموعة الأخرى فقط أعاطهم ورقة الأسئلة .
وبعد انتهاء الوقت وتمزيقهم للورق ، ادعى الملحدون الذين لم يقسموا على الإنجيل أنهم أجابوا على سبعة أسئلة ، بينما الملحدون الذين أقسموا على أنجيل لم يغشوا وقالوا 4 فقط !!!!! . ( والمصحف ملحد 😜)
أي أن تذكير الإنسان بالأخلاقيات أو المواعظ الإلهية يحيده عن الغش أو الكذب أو حتى خداع الذات ، سواء كان متديناً أو ملحداً .
لذلك تجد أن الله أمر نبيه موسى عليه السلام بأن يذكر بني إسرائيل بالله ، كي يمتنعوا عن الغش وخداع النفس ، قال جل علاه : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ} .
إذن سيدي القارئ ... أدمغتنا قد تخدعنا وتتحايل على نفسها ، أو تزين لنا الغش البسيط أو الكذبة البيضاء الصغيرة ، كي لا نخسر احترامنا لأنفسنا ولا نغير انطباعنا عنها على أننا صالحون أو جيدون ، ولكن ذلك مجرد وهم زائف تتبناه أدمغتنا كي لا يُرهقها تأنيب الضمير .
والحل لمحو هذا التوهم كما أخبرت الكتب السماوية من قبل - وأكد علم النفس اليوم - أن تُذكر الآخرين بالأخلاقيات والمواعظ الإلهية ، أن تبين لهم خداع النفس وحيلها التي تخفف عنها تأنيب الضمير ، وتشرح لهم أن الحل لا يتمثل في خداع النفس بل في الاعتراف بالخطأ ومحاولة تصحيحه .