سأحكي لك واقعتين ... وأرجو منك أن تلاحظ وجه الشبه.
في عام 1858م احتلت بريطانيا الهند ، وبدأت بنهب ثرواتها وخيراتها ، بل وبكل وقاحة أرسلت البريطانيين كي يعيشوا فيها ويُسخِّروا الهنود لخدمتهم .
وقد اختار البريطانيون مدينة "دلهي" كي تكون موطناً لهم ، فاستعبدوا الهنود ليقتلعوا أشجار غابات دلهي ويصنعوا من خشبها بيوتاً لهم .
أحدث ذلك اختلالاً في التوازن البيئي ، ولم يعد لحيوانات الغابة ملجأ تلوذ به ، ولا موطن تصطاد فيه فرائسها ، فتسبب ذلك بهلاك كثير منها .
وقد كان من الحيوانات التي جار البريطانيون على مسكنها "الكوبرا السامة" ، والتي لم يعد لها غابة تسكن أو تصطاد فيها ، فانتشرت بكثافة في شوارع المدينة ، وفتكت بالبريطانيين وأرعبتهم ، وأصبحت كابوساً يعشعش في رؤوس السلطات البريطانية .
ولأجل القضاء على هذه المشكلة قررت السلطات منح مكافأة مالية مجدية لكل هندي يقتل أفعى كوبرا ويأتي بجلدها كدليل على قتلها .
في أول أسبوع من القرار نزل بعض الهنود الشجعان إلى الشوارع بحثاً عن الأفاعي كي يظفروا بالجائزة ، مما نتج عنه نقص في عدد الأفاعي ، إلا أنه وبعد فترة وجيزة من القرار طمع أهالي دلهي بالمزيد من الربح والمال ، مستغلين المكافأة البريطانية ، فعَـمَـدَ بعضهم إلى اصطياد الأفاعي وتربيتها ، وجعلها تتكاثر في بيوتهم ثم يقتلوها ويسلموا جلدها إلى السلطات .
وفعلاً حقق الكثير من الهنود أرباحاً طائلة ، بينما السلطات البريطانية ورغم ما دفعته من أموال لاحظت أن أعداد الكوبرا لم تتقلص بشكل كبير في الشوارع ، فبحثوا عن السبب واكتشفوا الحيلة الهندية . ( هندي نفر مخ كبير .. بريطانيا نفر هومار كبير 😜)
لتغضب السلطات التي بانت بمظهر الأبله ، وتقرر إلغاء الجائزة .
الأفاعي التي كانت ينفق الهنود بعض المال على تربيتها طمعاً بالجائزة الكبرى ، أصبحت غير ذات قيمة ، بل عبئاً عليهم في بيوتهم ، فقرروا وبكل بساطة ..... رميها في الشارع .
عجت الشوارع بالأفاعي من كل حدب وصوب بأعداد لم ترها البلاد من قبل ، وتوفي على أثر ذلك المئات من الناس .
لننتقل إلى الواقعة الأخرى ...
في عام 1885م احتلت فرنسا فيتنام ، وكعادة المستعمرين اختارت فرنسا مدينة "هانوي" لتحولها إلى مدينة معاصرة راقية كباريس أو لندن كي تكون موطناً ومستعمرة للفرنسيين .
في عام 1897 شرعت السلطات الفرنسية في فيتنام بحفر قنوات الصرف الصحي ، وبعد أقل من خمس سنوات من أعمال البنية التحية حدثت كارثة غير متوقعة ، إذ امتلأت القنوات بالفئران ، وسرعان ما انتقلت إلى أحياء المدينة ، ودخلت في كل بيت وجادة .
أمر حاكم فرنسا في فيتنام بعض كتائب الجيش باللحاق بالفئران وقتلها ، إلا أن أعدادها أكبر من أن تحوط بها كتيبة ، لذا قرر الحاكم أن يستعين بأهالي هانوي الفقراء ، ووعدهم بمكافأة مالية رائعة مقابل كل فأر يقتلونه ويسلمون ذيله للسطات كدليل على قتله .
فتزاحم الفيتناميون في الشوارع بحثاً عن الفئران ، وفي الأسبوع الأول كان هناك نقص ملحوظ في أعدادها الغفيرة ، إلا أن الفيتناميون أدركوا أن قتل الفئران يعني اضمحلال مصدر المكافأة المالية ، وبالتالي قاموا باصطياد الفئران وقطع ذيلها ومن ثم تركها كي تتكاثر ، وينمو مصدر المكافأة .
بل وكان بعضهم يرمي للفئران في قنوات الصرف الفضلة من طعامه ، كي تأكل وتتكاثر .
لاحظت السلطات الفرنسية أن كثير من الفئران في الشوارع مقطوعة الذيل ، وأعدادها بازدياد ، وعرفت بالحيل التي يقوم بها الفقراء ، لتقرر غاضبة إلغاء الجائزة .
انفجرت أعداد الفئران وأصبحت في كل موضع وموطئ ، ونقلت معها الأمراض ، ولم يحل عام 1906م إلا والطاعون قد اجتاح البلاد وحصد الأرواح وتكبد بخسائر مهولة للجيش الفرنسي والمستعمرين وكذلك الفقراء .
ما وجه الشبه في الواقعتين السابقتين ؟
من الواضح جداً أن .... "من يفشل في التخطيط فهو يخطط لفشل أكبر" .
السلطات في كِلا الواقعتين فشلتا في التخطيط لحل المشكلة ، وابتكرتا حلولاً يسهل التلاعب بها والتحايل عليها ، مما تسبب بهدر في الأرواح والأموال .
إن التخطيط الجيد أساس النجاح ، بَـيدَ أن هناك الكثير من الأسباب والعوامل والأفكار الخاطئة التي تؤدي إلى الفشل بالتخطيط وبالتالي الوقوع في فشل أكبر .
وأظنك سيدي القارئ قد قرأت من قبل عن التخطيط وأهميته وما يؤدي إلى فشله ، وكي لا يكون كلامي شيئاً معاد ، ستقرأ في كلماتي البسيطة هنا عن الاندفاع والفشل في التخطيط .
إن منطقة "الفص الجبهي - Frontal lobe " التي في أدمغتنا هي المسؤولة عن التخطيط ، إذا أنها قادرة على تَـخَـيُّـل العواقب المستقبلية الناجمة عن السلوك الحالي ، فتختار السلوك الأفضل لحل المشكلة .
ولا تنحصر وظيفة الفص الجبهي على ذلك ، فهو يتدخل في التحكم بعواطفنا وانفعالاتنا واندفاعنا أيضاً .
والتأثير السلبي على الفص الجبهي بما يقلل من فاعليته سيؤدي إلى خلل في التخطيط .
في دراسة لمجموعة من أساتذة الطب في جامعة بنسلفانيا - منهم البروفيسور Raquel Gur - أجروها على 9500 شاب ، لاحظ الأساتذة أن الشباب الذين تنشط لديهم منطقة الفص الجبهي ويكونوا مندفعين لا يحسنون التخطيط ولا يتخذون قرارات سليمة بشأن المستقبل .
أي أن انشغال الفص الجبهي بالاندفاع والعواطف يُلهيه عن التخطيط الناجح ، وبالتالي كلما أفرطت في الاندفاع كلما هَوَيت في الفشل .
وفي دراسة حديثة لدكتورة علم النفس السيدة "اديت شاليف Idit Shalev" من جامعة YALE ، درست فيها 330 طالب جامعي ، وأجرت عليهم الاختبارات النفسية الاكلينيكية ، رأت الدكتورة "اديت" أن الطلبة الذي يميلون إلى مقارنة أنفسهم بالآخرين ، ويُقيِّموا أنفسهم وفقاً لحياة الغير يكونوا أكثر اندفاعاً من غيرهم .
كذلك الطلبة الذين يرهقون مشاعرهم بنقد ذواتهم أو بالندم على ما ارتكبوه من قبل يتسمون بالاندفاعية أيضاً .
وتقول السيدة "ايدت" في بحثها : إن تقييمك السلبي لنفسك من خلال مقارنتها بالآخرين أو جلد ذاتك بالندم يستنزف طاقتك النفسية التي تضبط بها سلوكك وتحسن بها قراراتك ، وبالتالي ينتج عنها سلوك اندفاعي لا تُحسن عواقبه .
إذن سيدي القارئ لست هنا لأحدثك عن التخطيط بكل جوانبه ، بل لأحذرك وأخبرك أن الفشل في التخطيط تخطيط لفشل أكبر ، وأن مقارنة نفسك بالآخرين أو الانغماس في الندم ونقد الذات يقودك إلى سلوك اندفاعي لن تحسن معه التخطيط لشيء ... بل سيقودك لفشل أعظم .
عندما تواجهك صعوبات الحياة وتريد وضع خطط لحلها ، لا تقارن نفسك بما يفعله أو يمتلكه الآخرون ، لكل إنسان دماغه الخاص وحياته المستقلة ، لا تُشوش دماغك بالمقارنة ، ولا تُرهقه بالحسرة والاسهاب في نقد الذات .
لست مطالباً أن تكون أفضل أو مثل غيرك ، الشخص الوحيد الذي عليك أن تنافسه وتتفوق عليه هو "أنت بالأمس" ، لذا لا تدع ما فعلته "أنت بالأمس" يُؤثر عليك اليوم بالندم والحسرات ويخسِّرُك ، فهناك فرق بين أن تتعلم من أخطاء الماضي لتعيش حاضر رائع ، وبين أن تذهب بنفسك حسرة على ما فرطت في الماضي وتخسر معه الحاضر أيضاً .
كُن نفسك وعِش يومك ... اخرج الآخرين والأمس من دماغك كي تنجح في التخطيط .