مرحباً بك بـيـن حكاياتي
ما هي آخر سلعة غالية قمت بشرائها؟ هل كنت بحاجة لها أم أن هناك بدائل ناجحة أرخص منها؟
في عام 1774م تولى لويس السادس عشر ملك فرنسا، إلا إنه لم يكن مؤهلاً للحكم، فلقد كان شخصية هادئة يُفضل القراءة والصيد والعزلة على التوغل في دهاليز الحكم والقيام بشؤون البلاط.
بينما زوجته ماري انطوانيت كانت شخصية متسلطة لذا دارت جُـل أمور البلاد، كيف لا وهي ابنة المرأة الحديدية إمبراطورة النمسا ماريا تيريزا. (اقلب القدرة على فهمها تطلع البنت لأمها😜)
وبعد فترة من حكمها تردت الأوضاع الاقتصادية في البلاد، إذ كانت تصرف من خزينة الدولة ببذخ على أناقتها وحفلاتها وملذاتها، محاولة تعويض ذلك برفع الضرائب على عامة الناس، وبالتالي أصبحت الطبقة الكادحة معدمة تماماً، وكانوا كثيراً ما يتظاهرون معترضين على تردي أوضاعهم.
بينما هي على الجانب الآخر كانت كلما سمعت بشيء من المظاهرات زاد انفاقها على نفسها، وكلما سمعت بأن هناك ملكة أو إمبراطورة في دولٍ أخرى أكثر رفاهية -كالنرويج مثلاً- ملكت شيئاً ما يدل على الرفاهية حاولت هي شراءه أيضاً أو الاتيان بما هو أفضل منه لتظهر هيمنتها. (يعني ملكة النرويج أم السعف والليف تشتري وبنتنا ماري ما تشتري... ما يصير😜)
بدأ الاحتقان يُسيطر على الشعب شيئاً فشيئاً، أما الشرارة التي أشعلت الثورة الفرنسية فقد كانت إشاعة مفادها أن الملكة ماري اشترت عقداً ألماسياً قيمته تُقارب ما سعره اليوم 14 مليون دولار، وأنه عندما قيل لها أن الشعب لا يجد خبزاً كي يأكله قالت ساخرة فليأكل الكعك، فثار الشعب وأعدمها هي وزوجها وما يدنو من 40,000 شخص من طبقة النبلاء والارستقراطيين، وتحولت فرنسا من مملكة إلى جمهورية.
والآن تعال لنستوضح ما كانت تقوم به ماري من ناحية نفسية سيدي الكادح....
إن أدمغتنا ذكية جداً في المحافظة على اتزاننا النفسي، فقد تنتهج في وقت الأزمات النفسية سلوكاً قد لا نرغب به في الأوضاع العادية، بَـيدَ أنها تقوم بذلك كي تعيد لنا سلامنا النفسي.
أحياناً قد تتحطم علاقتنا بأشخاص مقربين، أو قد نتعرض لرفض اجتماعي أو استنقاص من قبل الآخرين، أو حتى نُوبَّـخُ لأخطاء قمنا بها فنشعر أن هناك ما يهدد كبرياءنا، فتحاول أدمغتنا حينها أن تعيد السكينة لأنفسنا من خلال بعض السلوكيات... سأُناقش في هذا المقال إحداها.
نشر البروفيسور نيرو سيفاناثان دراسة بعنوان "حماية الذات من خلال الاستهلاك" راقب فيها السلوك الاقتصادي لأفراد من ذوي الدخل المتوسط يتعرضون لتهديدات وضغوط نفسية، كموظفين تعرضوا لِلَّومِ من مسؤوليهم في العمل، أو أشخاص قد خرجوا للتو من علاقات عاطفية فاشلة.
فلاحظ أن غالبيتهم قد اشتروا منتجات غالية الثمن، لأن شراؤها يضخ في أدمغتهم المزيد من هرمون الدوبامين -هرمون السعادة- والذي قد يكون بلسماً لجراحهم النفسية.
ثم درس السيد سيفاناثان مجموعة أخرى من الأمريكيين ذوي الدخل المحدود وأجرى معهم اختبارات نفسية، ووجد أنه كلما قل احترام وتقدير الفرد منهم لذاته كلما زاد انفاقه على السلع ذات المكانة الأعلى، محاول بذلك ترميم نظرته لذاته، فشراؤه لها يضعه -ولو مؤقتاً- في مكانة اجتماعية أعلى من مكانته فيشعر بالرضا عن نفسه ويزيد من تقديره لذاته، رغم إنه سيضغط عليه مادياً من ناحية أخرى.
بعد ذلك أدخل السيد سيفاناثان كِلا المجموعتين في دروس تعلمهم الطرق العلمية لتقبل الذات وتجاوز الأزمات النفسية، دون أن تشير إلى سلوكهم الاقتصادي، إلا أنَّ كِـلا المجموعتين قَـلَّـلت مشترياتهم للسلع ذات المستوى الأعلى.
إن الدراسة توضح لنا أننا أحياناً في وقت الأزمات النفسية نقوم بشراء منتجات غالية الثمن ليس لحاجتنا الحقيقية لها، بل لتكون درعاً نفسياً يحمينا من الانهيار النفسي أو الدخول بحالة اكتئاب، بينما الأشخاص ذوي الصلابة النفسية ومن يعرفون كيفية تجاوز أزماتهم العاطفية لن ينجرفوا خلف ذلك.
وشراء السلع الثمينة لغايات نفسية لا يكون في الأوقات العصيبة فقط، بل قد ننتهجه يومياً كي نشبع الغرور الذي فينا فلا نشعر أننا دون غيرنا.
يقول عالم النفس والاقتصاد الأمريكي ثورست فِبلين في كتابه "نظرية الطبقة المترفة" أن الكثير من مشترياتنا لا تغطي حاجاتنا الحقيقية كالمأكل والمشرب، بل هي رغبات نحاول من خلالها مواكبة الآخرين، كي نكسب المزيد من القبول الاجتماعي ولا نشعر بالرفض.
إليك هاذين المثالين..... لنفرض أن زملاءك في العمل يجمعون في بداية كل شهر مبلغ 60 دينار من كل موظف لشراء مواد غذائية للإفطار، وأنت ترى أن هذا المبلغ يفوق ميزانيتك أو مبالغ فيه، إلا أنك تُحرج من رفضك للدفع كي لا تظهر بمنظر البخيل فينبذوك، فتضطر للدفع ليس رغبة في الإفطار بل لمواكبتهم، وتظهر بهيئة "الدفيع"، وتحصل على التقدير المقبول بين زملائك، والذي أصبح للأسف في هذا الزمان يعتمد على المادة لدى الكثير من الناس.
أو لنفرض أنك سيدتي الكادحة تمتلكين هاتف أندرويد صنع عام 2015م ويؤدي الغرض، بَـيـدَ أن كل صديقاتك لديهن الآيفون الجديد، وكي لا تشعري بأنك أقل من غيرك تقومين بشرائه أقساطاً لتـتفاخري فيه أمام أقرانك، رغم أن سعر الهاتف يفوق قدرتك المالية، لكن للغرور أحكام.
في كِلا الحالتين لم نقم بدفع الأموال لحاجة حقيقة بل لغايات نفسية، وهذا الشيء يُفسر لك لماذا ينفق الناس على سلع الغالية الظاهرة للناس أكثر مما ينفقون على السلع الغير بارزة.
في دراسة قام بها بروفيسور الاقتصاد أوري حيفيتس Ori Heffetz جمع فيها بيانات الاستهلاك لآلاف الأشخاص في الولايات المتحدة، لاحظ أن الناس تنفق بسخاء على السلع التي تكون ظاهرة للآخرين ويمكنهم التباهي بها، مثل السيارات والهواتف والملابس والمجوهرات والحقائب وغيرها.
ولكن عندما يصل الأمر لشراء الأشياء الغير ظاهرة للناس مثل الملابس الداخلية أو ما ندفعه للميكانيكي أو السباك في المنزل فإننا لا ندفع الكثير من أجل ذلك بل نساوم فيه، لأنه ببساطة لا يمكن لأحد رؤيتها وليست محلاً للتفاخر.
واليوم ومع وجود عالم البرامج الاجتماعية أصبح التفاخر على قدم وساق، وأمسى السلوك التفاخري هو السلوك الغالب على المجتمع، ونريد من خلال الكثير من مشترياتنا والأماكن التي نزورها أو نسافر إليها والتي نقوم بتصويرها إيصال للرسالة للناس مفادها أننا راقون حقاً، أو كما يقول المصريين "إحنا جامدين فشخ"، وافتح أي برنامج الآن وانظر بنفسك لما يشاركه الآخرون وتذكر كلامي.
ماري انطوانيت كانت ترى حجم الحقد الذي في صدور الناس لها، ورفضهم إياها وزوجها، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية التي عانت منها البلاد والتي سببت لها ضغوط نفسية، فكانت تُعالج ذلك بالمزيد من الانفاق على بهرجتها، فزادت الطين بلة إلى أن أورثها القبر.
أضف لذلك أنها عندما كانت بعمر الـ14 عام تم تزويجها للملك لويس كهدية لإيقاف الحرب الفرنسية النمساوية، أي وكما يسميها العراقيون "فصلية"، فنشأت وهي تشعر بعقدة الحقارة، لذا سعت جاهده لإبراز أفضليتها على بقية الملكات أو المساواة معهم.
وصحيح أن أدمغتنا تحب التفاخر أمام الناس إلا أنها أيضاً تحب أن تنظر لنفسها على أنها صالحة بعض الشيء، أو قل تنازلاً ليست بذلك السوء، وهنا ستكون بين مطرقة وسندان، هل تنتهج هذا السلوك الغير حكيم بشرائها للسلع الغالية أم تنظر لنفسها على أنها عاقلة في إدارة مواردها المالية؟ (انظر لمقال خلالات العبد)
والحل بسيط.... سنقنع أنفسنا بأن المنتجات الغالية ذات جودة عالية وتستحق ما يدفع فيها، أو أن الحياة واحدة ويجب أن نمتع أنفسنا فيها... وهرطقات من هذا القبيل، فمن النادر أن يصارح المرء نفسه ويقول إني أقوم بهذا من أجل مكانة اجتماعية أعلى وسد ثغرات نفسية.
وكتب التسويق ككتاب ""The Big Brand Lie لنيكولاس كولي تؤكد بشدة كذبة العلامات التجارية وأسعارها الباهظة مقابل جودتها لمن يحاول خداع نفسه.
إذا أين المخرج من هذا....
كما ذكرت سابقاً في دراسة البروفيسور نيرو سيفاناثان أن الأشخاص الذين لديهم صلابة نفسية ويمتلكون ثقة وتقدير رائع لأنفسهم لا ينجرفون حول العلامات التجارية، والأشخاص الذين يعرفون كيفية تجاوز محنهم النفسية بمنطق لن يداووا أنفسهم بالمشتريات.
وأضيف على ذلك...
إن فهم كيفية تفكير الدماغ في وقت الأزمات النفسية يجعلك تعي -ولو بشكل جزئي- الطريق الذي يقودك إليه عقلك الباطن "اللاوعي"، وهذا يمنحك اليد العليا لكبح السلوك وتقويمه، وآمل أن تكون كلماتي السابقة قدمت لك ذلك.
والدماغ مفطور على المقارنة، ولكن يمكننا تمرينه على فن اللامبالاة، فالشخصيات الواثقة من نفسها والتي تختار نمط حياتها بتحرر تام لن تـتأثر بغيرها، لن تهتم إن كان غيرها يشتري سيارة حديثة فارهة، بينما هي لديها سيارة اقتصادية جيدة.
لن تهتم إن امتنعت عن دفع المال في أشياء لا ترى فيها ثمناً عادلاً ثم نعتها الآخرون بالبخل، بل ستقوم بما يمليه عليها تفكيرها وتحمل في قلبها شعار "طز بنظرة الناس".
وكما قال الكاتب ستانلي وويليم في كتابه "المليونير في البيت المجاور" -والذي التقى فيه بأكثر من 500 مليونير صنعوا ثرواتهم بأنفسهم- أنهم كانوا بسطاء لا يهتمون بنظرة الناس ولديهم الكثير من "اللامبالاة الاجتماعية"، يلبسون أبسط الثياب وسياراتهم مستعملة اقتصادية ومنازلهم متواضعة وليست في أفضل أحياء أمريكا.
لذا سيدي القارئ المكافح... أرجو أن تدعوك كلماتي البسيطة هذه إلى أن تراجع نفسك عند شرائك للأشياء الفاخرة أو الذهاب إلى المطاعم والمنتزهات الغالية، ماذا سيقدم لك التفاخر؟! وما هو دافعه النفسي الحقيقي؟ هل هو ضغط نفسي تحاول تنفيسه أم عقدة نقص لم تعرف كيفية مداواتها بالطريقة الأنسب؟
وأؤكد لك أننا زملاؤك في الأرض عندما نرى صورة المطعم الغالي الذي قمت بزيارته وشاركتنا صوره لن نجتمع على طاولة واحدة ونناقش مدى روعتك ثم نقف جميعنا ونصفق لك.
إن غالبية الأشياء التي تتفاخر بها أمام الناس هي ذاتها الأشياء التي يذمونك عليها ويصفونك فيها بالغبي الذي لا يعرف إدارة أمواله أو حديث نعمة وما أشبه، ورغم إنهم سيتقبلونك أكثر لقيامك بها إلا أنهم سيعيبونك لأجلها، وهذا ما يفسر لك لماذا يرحب الناس فيك ثم يأكلون لحمك غيبة في غيابك. (لأنك مهايطجي وشكراً)
Created with GoDaddy Arabic Website Builder