Blog Layout

التفاخر... لماذا نشتريها؟!

ما هي آخر سلعة غالية قمت بشرائها؟ هل كنت بحاجة لها أم أن هناك بدائل ناجحة أرخص منها؟

في عام 1774م تولى لويس السادس عشر ملك فرنسا، إلا إنه لم يكن مؤهلاً للحكم، فلقد كان شخصية هادئة يُفضل القراءة والصيد والعزلة على التوغل في دهاليز الحكم والقيام بشؤون البلاط.

بينما زوجته ماري انطوانيت كانت شخصية متسلطة لذا دارت جُـل أمور البلاد، كيف لا وهي ابنة المرأة الحديدية إمبراطورة النمسا ماريا تيريزا. (اقلب القدرة على فهمها تطلع البنت لأمها😜)

وبعد فترة من حكمها تردت الأوضاع الاقتصادية في البلاد، إذ كانت تصرف من خزينة الدولة ببذخ على أناقتها وحفلاتها وملذاتها، محاولة تعويض ذلك برفع الضرائب على عامة الناس، وبالتالي أصبحت الطبقة الكادحة معدمة تماماً، وكانوا كثيراً ما يتظاهرون معترضين على تردي أوضاعهم.

بينما هي على الجانب الآخر كانت كلما سمعت بشيء من المظاهرات زاد انفاقها على نفسها، وكلما سمعت بأن هناك ملكة أو إمبراطورة في دولٍ أخرى أكثر رفاهية -كالنرويج مثلاً- ملكت شيئاً ما يدل على الرفاهية حاولت هي شراءه أيضاً أو الاتيان بما هو أفضل منه لتظهر هيمنتها. (يعني ملكة النرويج أم السعف والليف تشتري وبنتنا ماري ما تشتري... ما يصير😜)

بدأ الاحتقان يُسيطر على الشعب شيئاً فشيئاً، أما الشرارة التي أشعلت الثورة الفرنسية فقد كانت إشاعة مفادها أن الملكة ماري اشترت عقداً ألماسياً قيمته تُقارب ما سعره اليوم 14 مليون دولار، وأنه عندما قيل لها أن الشعب لا يجد خبزاً كي يأكله قالت ساخرة فليأكل الكعك، فثار الشعب وأعدمها هي وزوجها وما يدنو من 40,000 شخص من طبقة النبلاء والارستقراطيين، وتحولت فرنسا من مملكة إلى جمهورية. 

والآن تعال لنستوضح ما كانت تقوم به ماري من ناحية نفسية سيدي الكادح....

إن أدمغتنا ذكية جداً في المحافظة على اتزاننا النفسي، فقد تنتهج في وقت الأزمات النفسية سلوكاً قد لا نرغب به في الأوضاع العادية، بَـيدَ أنها تقوم بذلك كي تعيد لنا سلامنا النفسي.

أحياناً قد تتحطم علاقتنا بأشخاص مقربين، أو قد نتعرض لرفض اجتماعي أو استنقاص من قبل الآخرين، أو حتى نُوبَّـخُ لأخطاء قمنا بها فنشعر أن هناك ما يهدد كبرياءنا، فتحاول أدمغتنا حينها أن تعيد السكينة لأنفسنا من خلال بعض السلوكيات... سأُناقش في هذا المقال إحداها.

نشر البروفيسور نيرو سيفاناثان دراسة بعنوان "حماية الذات من خلال الاستهلاك" راقب فيها السلوك الاقتصادي لأفراد من ذوي الدخل المتوسط يتعرضون لتهديدات وضغوط نفسية، كموظفين تعرضوا لِلَّومِ من مسؤوليهم في العمل، أو أشخاص قد خرجوا للتو من علاقات عاطفية فاشلة.

فلاحظ أن غالبيتهم قد اشتروا منتجات غالية الثمن، لأن شراؤها يضخ في أدمغتهم المزيد من هرمون الدوبامين -هرمون السعادة- والذي قد يكون بلسماً لجراحهم النفسية.

ثم درس السيد سيفاناثان مجموعة أخرى من الأمريكيين ذوي الدخل المحدود وأجرى معهم اختبارات نفسية، ووجد أنه كلما قل احترام وتقدير الفرد منهم لذاته كلما زاد انفاقه على السلع ذات المكانة الأعلى، محاول بذلك ترميم نظرته لذاته، فشراؤه لها يضعه -ولو مؤقتاً- في مكانة اجتماعية أعلى من مكانته فيشعر بالرضا عن نفسه ويزيد من تقديره لذاته، رغم إنه سيضغط عليه مادياً من ناحية أخرى.

بعد ذلك أدخل السيد سيفاناثان كِلا المجموعتين في دروس تعلمهم الطرق العلمية لتقبل الذات وتجاوز الأزمات النفسية، دون أن تشير إلى سلوكهم الاقتصادي، إلا أنَّ كِـلا المجموعتين قَـلَّـلت مشترياتهم للسلع ذات المستوى الأعلى.

إن الدراسة توضح لنا أننا أحياناً في وقت الأزمات النفسية نقوم بشراء منتجات غالية الثمن ليس لحاجتنا الحقيقية لها، بل لتكون درعاً نفسياً يحمينا من الانهيار النفسي أو الدخول بحالة اكتئاب، بينما الأشخاص ذوي الصلابة النفسية ومن يعرفون كيفية تجاوز أزماتهم العاطفية لن ينجرفوا خلف ذلك.

وشراء السلع الثمينة لغايات نفسية لا يكون في الأوقات العصيبة فقط، بل قد ننتهجه يومياً كي نشبع الغرور الذي فينا فلا نشعر أننا دون غيرنا.

يقول عالم النفس والاقتصاد الأمريكي ثورست فِبلين في كتابه "نظرية الطبقة المترفة" أن الكثير من مشترياتنا لا تغطي حاجاتنا الحقيقية كالمأكل والمشرب، بل هي رغبات نحاول من خلالها مواكبة الآخرين، كي نكسب المزيد من القبول الاجتماعي ولا نشعر بالرفض.

إليك هاذين المثالين..... لنفرض أن زملاءك في العمل يجمعون في بداية كل شهر مبلغ 60 دينار من كل موظف لشراء مواد غذائية للإفطار، وأنت ترى أن هذا المبلغ يفوق ميزانيتك أو مبالغ فيه، إلا أنك تُحرج من رفضك للدفع كي لا تظهر بمنظر البخيل فينبذوك، فتضطر للدفع ليس رغبة في الإفطار بل لمواكبتهم، وتظهر بهيئة "الدفيع"، وتحصل على التقدير المقبول بين زملائك، والذي أصبح للأسف في هذا الزمان يعتمد على المادة لدى الكثير من الناس.

أو لنفرض أنك سيدتي الكادحة تمتلكين هاتف أندرويد صنع عام 2015م ويؤدي الغرض، بَـيـدَ أن كل صديقاتك لديهن الآيفون الجديد، وكي لا تشعري بأنك أقل من غيرك تقومين بشرائه أقساطاً لتـتفاخري فيه أمام أقرانك، رغم أن سعر الهاتف يفوق قدرتك المالية، لكن للغرور أحكام.

في كِلا الحالتين لم نقم بدفع الأموال لحاجة حقيقة بل لغايات نفسية، وهذا الشيء يُفسر لك لماذا ينفق الناس على سلع الغالية الظاهرة للناس أكثر مما ينفقون على السلع الغير بارزة.

في دراسة قام بها بروفيسور الاقتصاد أوري حيفيتس Ori Heffetz جمع فيها بيانات الاستهلاك لآلاف الأشخاص في الولايات المتحدة، لاحظ أن الناس تنفق بسخاء على السلع التي تكون ظاهرة للآخرين ويمكنهم التباهي بها، مثل السيارات والهواتف والملابس والمجوهرات والحقائب وغيرها.

ولكن عندما يصل الأمر لشراء الأشياء الغير ظاهرة للناس مثل الملابس الداخلية أو ما ندفعه للميكانيكي أو السباك في المنزل فإننا لا ندفع الكثير من أجل ذلك بل نساوم فيه، لأنه ببساطة لا يمكن لأحد رؤيتها وليست محلاً للتفاخر.

واليوم ومع وجود عالم البرامج الاجتماعية أصبح التفاخر على قدم وساق، وأمسى السلوك التفاخري هو السلوك الغالب على المجتمع، ونريد من خلال الكثير من مشترياتنا والأماكن التي نزورها أو نسافر إليها والتي نقوم بتصويرها إيصال للرسالة للناس مفادها أننا راقون حقاً، أو كما يقول المصريين "إحنا جامدين فشخ"، وافتح أي برنامج الآن وانظر بنفسك لما يشاركه الآخرون وتذكر كلامي.

ماري انطوانيت كانت ترى حجم الحقد الذي في صدور الناس لها، ورفضهم إياها وزوجها، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية التي عانت منها البلاد والتي سببت لها ضغوط نفسية، فكانت تُعالج ذلك بالمزيد من الانفاق على بهرجتها، فزادت الطين بلة إلى أن أورثها القبر.

أضف لذلك أنها عندما كانت بعمر الـ14 عام تم تزويجها للملك لويس كهدية لإيقاف الحرب الفرنسية النمساوية، أي وكما يسميها العراقيون "فصلية"، فنشأت وهي تشعر بعقدة الحقارة، لذا سعت جاهده لإبراز أفضليتها على بقية الملكات أو المساواة معهم.

وصحيح أن أدمغتنا تحب التفاخر أمام الناس إلا أنها أيضاً تحب أن تنظر لنفسها على أنها صالحة بعض الشيء، أو قل تنازلاً ليست بذلك السوء، وهنا ستكون بين مطرقة وسندان، هل تنتهج هذا السلوك الغير حكيم بشرائها للسلع الغالية أم تنظر لنفسها على أنها عاقلة في إدارة مواردها المالية؟ (انظر لمقال خلالات العبد) 

والحل بسيط.... سنقنع أنفسنا بأن المنتجات الغالية ذات جودة عالية وتستحق ما يدفع فيها، أو أن الحياة واحدة ويجب أن نمتع أنفسنا فيها... وهرطقات من هذا القبيل، فمن النادر أن يصارح المرء نفسه ويقول إني أقوم بهذا من أجل مكانة اجتماعية أعلى وسد ثغرات نفسية.

وكتب التسويق ككتاب ""The Big Brand Lie لنيكولاس كولي تؤكد بشدة كذبة العلامات التجارية وأسعارها الباهظة مقابل جودتها لمن يحاول خداع نفسه.

إذا أين المخرج من هذا....

كما ذكرت سابقاً في دراسة البروفيسور نيرو سيفاناثان أن الأشخاص الذين لديهم صلابة نفسية ويمتلكون ثقة وتقدير رائع لأنفسهم لا ينجرفون حول العلامات التجارية، والأشخاص الذين يعرفون كيفية تجاوز محنهم النفسية بمنطق لن يداووا أنفسهم بالمشتريات.

وأضيف على ذلك...

إن فهم كيفية تفكير الدماغ في وقت الأزمات النفسية يجعلك تعي -ولو بشكل جزئي- الطريق الذي يقودك إليه عقلك الباطن "اللاوعي"، وهذا يمنحك اليد العليا لكبح السلوك وتقويمه، وآمل أن تكون كلماتي السابقة قدمت لك ذلك.

والدماغ مفطور على المقارنة، ولكن يمكننا تمرينه على فن اللامبالاة، فالشخصيات الواثقة من نفسها والتي تختار نمط حياتها بتحرر تام لن تـتأثر بغيرها، لن تهتم إن كان غيرها يشتري سيارة حديثة فارهة، بينما هي لديها سيارة اقتصادية جيدة.

لن تهتم إن امتنعت عن دفع المال في أشياء لا ترى فيها ثمناً عادلاً ثم نعتها الآخرون بالبخل، بل ستقوم بما يمليه عليها تفكيرها وتحمل في قلبها شعار "طز بنظرة الناس".

وكما قال الكاتب ستانلي وويليم في كتابه "المليونير في البيت المجاور" -والذي التقى فيه بأكثر من 500 مليونير صنعوا ثرواتهم بأنفسهم- أنهم كانوا بسطاء لا يهتمون بنظرة الناس ولديهم الكثير من "اللامبالاة الاجتماعية"، يلبسون أبسط الثياب وسياراتهم مستعملة اقتصادية ومنازلهم متواضعة وليست في أفضل أحياء أمريكا.

لذا سيدي القارئ المكافح... أرجو أن تدعوك كلماتي البسيطة هذه إلى أن تراجع نفسك عند شرائك للأشياء الفاخرة أو الذهاب إلى المطاعم والمنتزهات الغالية، ماذا سيقدم لك التفاخر؟! وما هو دافعه النفسي الحقيقي؟ هل هو ضغط نفسي تحاول تنفيسه أم عقدة نقص لم تعرف كيفية مداواتها بالطريقة الأنسب؟

وأؤكد لك أننا زملاؤك في الأرض عندما نرى صورة المطعم الغالي الذي قمت بزيارته وشاركتنا صوره لن نجتمع على طاولة واحدة ونناقش مدى روعتك ثم نقف جميعنا ونصفق لك.

إن غالبية الأشياء التي تتفاخر بها أمام الناس هي ذاتها الأشياء التي يذمونك عليها ويصفونك فيها بالغبي الذي لا يعرف إدارة أمواله أو حديث نعمة وما أشبه، ورغم إنهم سيتقبلونك أكثر لقيامك بها إلا أنهم سيعيبونك لأجلها، وهذا ما يفسر لك لماذا يرحب الناس فيك ثم يأكلون لحمك غيبة في غيابك. (لأنك مهايطجي وشكراً)



بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بقية المقالات
Share by: