مرحباً بك بـيـن حكاياتي
" هيرو أونودا" يسلم سيفه إلى حاكم الفلبين مستسلماً
كان "هيرو" مصدوماً من الشعب والامبراطور... كيف لهؤلاء الناس أن يتحالفوا اليوم مع أمريكا التي قتلت الآلاف من شعبهم؟ كيف لا يطلبون بثأرهم؟! هل كل تلك السنوات من التضحية كانت لهؤلاء الراضخين؟!
قرر "هيرو" ترك اليابان بمن فيها وهاجر إلى البرازيل واشترى مزرعة في أطراف الغابة، ولم يعد إلى اليابان إلا في الثمانينات كي يتزوج، وكان عمره حينها 62 عاماً، وتوفي عام 2014م عن عمر يناهز الـ91 عاماً. (هو تأخر اشوي بالزواج على ما كَـوَّن نفسه عرفت اشلون ... تبون تسألون عن ولدنا سألوا عنه بغابات الفلبين😜)
لماذا أصر "هيرو" على عدم الاستسلام ولم يقتنع بالمنشورات وكل المحاولات الأخرى؟ لماذا لم يتحمل اليابان وفَضل الهجرة ساخطاً؟
سأجيبك ... ولكن قبل ذلك إليك هذه التجربة .
في جامعة ديوك الأمريكية تعتبر كرة السلة أمراً بغاية الروعة، ويتمنى كل الطلبة الحصول على تذكرة لحضور إحدى مباريات فريق الجامعة في دوري الجامعات، ولكن الملعب لا يتسع لكل الطلبة، لذلك تقوم الجامعة بطقوس غريبة للطلبة الذين يجري في عروقهم الولاء المطلق للفريق.
تطلب الجامعة من الطلبةِ التخييمَ أمام الملعب لمدة 48 ساعة قبل المباراة، وفي أوقات متفرغة من تلك الساعات سيتم النفخ ببوق هوائي، وعلى كل راغب في التذكرة توثيق حضوره عند مشرفي التذاكر حينها، وإن لم يفعل ولو لمرة واحدة يُعتبر خارج السباق ولا يحصل على شيء... أي أن التذكرة تعني ترك كل مشاغل الحياة والتفرغ للتخييم أمام الملعب لمدة يومين.
وعادة ما يكون عدد الطلبة الملتزمين أكثر بكثير مما يسعه الملعب، لذلك تقوم الجامعة بعمل قرعة بين الطلبة، ويفوز من يفوز بالحظ.
في إحدى المباريات المهمة اتصل عالم الاقتصاد السلوكي الرائع دان آريلي بالطلبة الفائزين بالتذاكر وسألهم إن كانوا على استعداد لبيعها على زملائهم الذي بقوا معهم تلك المدة إلا أن الحظ لم يُحالفهم، وما هو السعر الذي يرغبون به بالمقابل؟
ثم اتصل على الطلبة الذين خذلهم الحظ وسألهم إن كانوا على استعداد لشرائها، وما هو السعر الذي قد يدفعوه من أجلها؟
كان متوسط السعر الذي اشترطه الفائزون للبيع هو 2400 دولار، بينما الراغبين في الشراء كان متوسط ما هم على استعداد لدفعه هو 175 دولار فقط.
أصحاب التذاكر والراغبين في الشراء فكروا في المباراة بشكل متشابه، وضحوا بكل شيء لمدة يومين من أجلها، لذا فكلاهم يعرف قيمة المباراة ويتشاركون ذات الحماس لها، لكن لماذا كان هناك فجوة كبيرة بين السعر الذي يراه البائعون جيداً وبين السعر الآخر؟
الجواب -كما تفضل السيد آريلي- لأننا البشر نقع في حب الأشياء التي نمتلكها... هذه طبيعة فطرية، فنعطيها أكبر من قيمتها الحقيقية، وأدمغتنا التي تنظر للعالم من منظورها الخاص تتوقع من الآخرين أن يشاركوها ذات الرؤية، وأن ينظروا لجمال ما نملك بذات قَدر نظرتنا إليه... وهذا محال.
أضف إلى ذلك أننا عندما نريد بيع شيء نمتلكه فإن أدمغتنا تُركز على ما سنخسره أكثر مما سنكسبه، والخسارة إحساس مؤلم نحاول تغطيته بزيادة حجم الربح.
أصحاب التذاكر أحبوها جداً فور امتلاكهم إياها، واعتبروها شيئاً ساحراً باهض الثمن، وتوقعوا من البقية أن يروها كذلك، ثم إنهم ركزوا -في حال بيعهم إياها- على خسارة المتعة والشغف والأجواء الجماهرية الصاخبة التي كانوا سيحظون بها أكثر من تركيزهم على المال الذي سيتمتعون به.
أضف لذلك أن الشعور بالامتلاك ومحبة ما نملك يتأثر بمدى تعبنا ومساهمتنا في امتلاكه، فكلما زاد تعبك له زاد شعورك اتجاهه، وأصحاب التذاكر الذين خيموا يومين أمام الباب وقعوا في غرامها البتة، وسيطلبون ثمناً يليق بهذا الحب.
وعلى هذا قس ما سواه، فأنت لو كنت تمتلك لوحة بديعة وطُلب منك بيعها، فأنت غالباً ما ستتذكر تلك اللحظات التي تباهيت فيها أمام عائلتك باللوحة، وكلمات الإطراء التي سمعتها، والمشاعر الفياضة التي بقلبك اتجاهها نظراً لروعتها، والتي ستخسرها الآن بعد بيعك إياها، لذلك ستطلب سعراً مرتفعاً لأجلها... ولكنها حتماً لن تُباع بما تتمنى وستشعر بالإحباط.
والشعور بالامتلاك لا يقتصر على الأشياء المادية فقط... بل كذلك على الأفكار، فبمجرد أن تمتلك وجهة نظر حول شيء ما سواء في الدين أو السياسة أو حتى الرياضة ستحبها أكثر مما يجدر بك ذلك وتقدرها كثيراً، وتواجه صعوبة في التخلي عنها، حتى تكون متزمتاً لها دون أن تشعر.
بعد أن فهمت ذلك تأمل حال السيد "هيرو"... لقد قَـدَّم كل ما يملك لأجل الوطن حتى روحه، وفكرة التضحية والالتزام بالأوامر العسكرية مترسخة فيه، والعالم الذي كان يراه بعينيه هو عالم تنتصر فيه اليابان لا غير.
لم يكن سهلاً على نفسه بعد كل هذه التضحية أن يكون الخذلان ثمناً لما قدمه، وليس هيناً أن يتنازل عن فكرة التزامه، فأعماه ذلك عن الحقيقة وبقي عاكفاً عليها 30 عاماً... وعندما عاد إلى الأرض لم يتحمل الرضوخ وقرر الهجرة ممتعضاً.
ويمكنك تطبيق ذلك على كل مجالات الحياة....
مثلاً في علاقاتنا الاجتماعية مع الأقارب أو الأحبة نقدم لهم بعض التضحيات، ونبذل لأجلهم شيئاً مما نملك، ونتنازل لهم عن أفكار نحن مخلصين لها، وهذا ليس بالأمر الهين على النفس.
وكما تعلم سيدي القارئ فالعلاقات أخذ وعطاء، وعندما نقوم بذلك من أجل علاقتنا بهم فإننا نطلب منهم بالمقابل ثمناً على هيئة تضحية وتنازل واهتمام وحب وما أشبه، ولأننا نضخم قيمة ما نملك ونركز على ما خسرناه فغالباً سنطالبهم بأكثر مما نستحق في الواقع.
وكثيراً ما يشتكي الناس أن الآخرين لا يقدرون قيمة تضحياتهم، بينما الواقع -كما رأيت- أن الناس هم من يبالغون في قيمة ما يبذلونه لأجل الآخرين، وشعور الإحباط والخذلان الذي يشعرون به هم مسؤولون عنه تماماً.
إن فهمك لمبالغتك بحب الأشياء التي تمتلكها وتضخيمك لقيمتها وتركيزك على ما ستخسره أكثر مما ستربحه يجعلك أكثر واقعية في الحياة، سواء في معاملاتك التجارية أو تبني الأفكار أو علاقاتك الاجتماعية... وهذا ما سيعود على مشاعرك بالهدوء وسيرفع من جودة حياتك.
الخطأ الذي كلف السيد "هيرو" سنوات من العمر لن تُسترد هو مبالغته بإيمانه بأفكاره، وما جعله يترك وطنه هو الثمن الذي طلبه لقاء تضحيته ألا وهو النصر... وبالتالي ذهب عمره هباءً منثوراً.
سيدي القارئ...
تأمل في أفكارك التي تقاتل من أجلها... لعله قد عَـمَّ السلام والحرب في دماغك فقط.
تأمل في تضحياتك التي تقدمها للآخرين ثم ترفع سقف توقعاتك منهم... لعلها لا ترتقي إلى ذلك.
تأمل في الأشياء المطلوب منك التخلي عنها.... لعلك ستكسب منها أكثر بكثير مما ستخسر.
لا تخدع طبيعتك .... ما نمتلكه ليس بتلك العظمة.
Created with GoDaddy Arabic Website Builder