مرحباً بك بـيـن حكاياتي
هل منحك أبوَيك الحب الذي تستحقه؟
عندما وُلدت لم يكن لديك أي قوة أو ذكاء أو حتى فائدة، لقد خُلقت وأنت تحت رحمة الآخرين كُلياً، وكان بقاؤك على قيد الحياة يعتمد على حنان والديك وقدرتك على النظر إليهما بعيون جميلة بريئة واسعة تسحرهما بها، فتحصل على حبهما وبالتالي تضمن طعامك وكسوتك وحمايتهما لك.
وفي مقابل ذلك الاهتمام كنت تقدم لهما عشقاً لا مشروطاً، وليس لديك أي حالة شك بأولئك الكبار الذي يدفؤون لك الحليب.
وكنت -كبقية الأطفال- حساساً بالفطرة حول اعجاب والديك بك، فإذا شعرت أنهما يحبانك ستستراح نفسياً ثم تمضي قدماً في استكشاف العالم من حولك، فتلتقط أي شيء لتضعه في فمك محاولاً معرفته. (وتحط أصابعك بالكهرباء يا كائن طفيلي آحادي الخلية😒)
ولكن... إن تعرضت لبعض الإهمال ولم تحصل على الحب بالمقدار المعقول، أو شعرت وكأنك غير مرحب فيك في هذه العائلة رغم براءة عينيك ونعومة يديك، فإن الأمر سيصبح معقداً بعض الشيء.
غريزياً ستشعر بالرعب والقلق الشديد، فإن الوضع إن لم يتم تصحيحه بطريقة أو بأخرى ستفقد تلك الرعاية التي تضمن لك رغد الحياة، فتبدأ بعملية يائسة مضاعفة جهودك لكسب المزيد من رضاهما وإعجابهما.
سيراجع دماغك الطفولي نفسه متسائلاً أين الخلل؟! وستبحث في سلوكياتك وشخصيتك بحثاً عن إجابات....
وأؤكد لك أنك عندما تكون عاجزاً عن الوصول حتى إلى مقبض الباب سيكون من البديهي أن تسأل نفسك لماذا أنت لا تُطاق؟، ولن تفكر بجرأة لماذا لا يعاملوك بعدل وكرم واهتمام كما ينبغي على الآباء.
وحينها -وللأسف- ستُحول شعور الإهمال والأذى الذي تشعر به إلى كراهية للذات، ويتحول غضبك من فشلهما بالاعتناء بك إلى العار في عدم نجاحك بالحصول على اهتمام... وتبدأ دوامة مفرغة من كراهية الذات والبحث عن أخطائها.
قام دكتور علم النفس التنموي ادوارد ترونيك Edward Tronick بتجربة تضع أمام عينيك حقيقة ما فات، إذ يأتي بأم مع ابنها البالغ من عمر سنة واحدة، ثم يطلب منها اللعب معه كما هو معتاد، فيبدأ الطفل بالضحك وعلامات الرضا تملأ عينيه... كما ترى. (لقطات واقعية من التجربة)
بعد ذلك يطلب الدكتور ترونيك من الأم أن تجلس أمام الطفل بوجه جامد يخلو من أي تعابير، فيكثف الصبي مجهوده -ضاحكاً ومؤشراً ولاعباً- محاولاً استرداد اهتمام أمه ولطفها.
وبعد عدة محاولات لا يحظى فيها باللطف ولا يحصل على تلك الابتسامة المعتادة... ينهار الطفل باكياً عاجزاً عن فهم ما يحصل.
وكرر السيد ترونيك التجربة مراراً ومع الكثير من الأطفال... مع آبائهم أو أمهاتهم، وفي كل مرة كان الطفل يبحث عن الاهتمام المفقود..... ويمكنك القيام بذات التجربة إن كان في عائلتك طفل يبادلك الحب.
إن شعور الطفل بالوحدة وفقدانه للحب والاهتمام -بالقدر الكافي- يقودانه لجلد الذات وتصغيرها، وعندما يكبر ويصبح في عمر المراهقة وما بعدها لن يبقى له من الطفولة سوى تلك الذكريات السعيدة التي أرختها العائلة في ألبوم صورها، بَـيـدَ أن ما شعر به في طفولته سيلاحقه ما بقي من حياته.
ذلك الطفل عندما يكبر ويدخل في علاقة عاطفية كالصداقة أو الحب أو أي علاقة اجتماعية أخرى يعتقد أن العالم سيعامله بلطف وتقدير... فذلك ما يستحقه، فإن رُفض أو ظُلم فإنه سيتأزم نفسياً، وسرعان ما تبرز عقدة الطفولة وينغمس في جلد الذات ولومها وتصيد أخطائها.
دكتورة علم النفس لاندسي غيبسون lindsay Gibson أصدرت كتاباً بعنوان "أطفال كبار لآباء غير ناضجين عاطفياً" وذكرت عدة دلائل توضح لك إن كانت عقدة اهمال الطفولة تُؤثر فيك اليوم.. فتأملها:
- أن تشعر بثقل كبير عندما تخبر الآخرين باحتياجاتك.
- أن تحس بالذنب لشعورك بالحزن.
- لا تصدق أي شخص يرغب في التقرب منك لمجرد كونك أنت... تشكك في نواياه وتظن أن تقربه منفعة.
- أن تكتفي أحياناً بالوحدة العاطفية.
- تسعى لتكون ما يريده الآخرون منك وليس ما تريد أنت.
- أن تكون في علاقاتك مضحياً مانحاً أكثر من كونك متطلباً.
وصحيح أن اهمال الآباء يؤثر بالأطفال سلبياً لكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم سيئون أو غير محبين لأطفالهم، فكما ترى الحياة قاسية عليك اليوم ولربما قست عليهم من قبل وأجبرتهم على ذلك.
سيدي القارئ... آمل أن الحياة لم تقسو عليك في طفولتك، ولكن إن كان ذلك فأرجو أن تعرني انتباهك بعض الشيء.
إن جلد الذات بسبب تلك الطفولة لن يقتلك، لكنه حتماً سيقلل جودة حياتك، فعندما ساءلت نفسك طفلاً لماذا لا يحبني والداي وغيرت من شخصيتك من أجل أن تنال اعجابهم، سيبقى هذا السلوك قرينك في علاقاتك، وستسعى دائماً كي تكون شخصاً آخراً غيرك، وهذا ما سيقودك للفشل في علاقاتك.
فأنت عندما تحاول أن تكون غيرك ستكون مجهداً شعورياً وتحت ضغط نفسي، وبالتالي ستتحطم علاقاتك بعد برهة من الزمن حيث ينتهي تحملك، فتنتقل من فشل لآخر وهلم جراً... ولعلك بشيء من الدراما تعتقد أن الآخرين مخطئين وسيئين ولم يعد في العالم مشاعر صادقة يا حمامة السلام.
لذا تعال لنحاول تصحيح الأمر....
والداك أخطئا بحقك، لكن أخطاء الآخرين هي الماضي، أما المضارع والمستقبل هو مسؤوليتك التامة.... أنت الآن مسؤول عن طريقة تفكيرك وترجمتها على أرض الواقع، ومحاولة تحميل غيرك سبب فشلك هو هروب من تحمل الخطأ... تلك النرجسية بعينها.
إن الجروح النفسية التي خلفتك فيها أيام الطفولة لا تعني ضرورة بقاءها للأبد، فقط تَـفكَّر في الأمر وحاول إصلاحه... ولو سألتني كيف ذلك، جوابي بسيط فقط لا تثق في شعورك.
نحن البشر لدينا مشاعر بسيطة كالشعور بالرضا، ولكننا أيضاً نمتلك مشاعر حول تلك المشاعر، وفقدان الاهتمام إبان الطفولة يجعل هذه المشاعر المركبة غير متزنة.... ولنناقش كل واحدة على حدة وأثرها على السلوك.
- الشعور بالسوء حول الشعور بالسوء (كره الذات)
سيقود لنقد الذات باستمرار، والقلق الغير مفهوم، مع محاولة لقمع العواطف اتجاه الآخرين، والانخراط في سلوك مزيف من الأدب واللطف، والشعور الدائم وكما أن هناك خطأ وأنت تحاول تصحيحه.
- الشعور بالسوء حيال الشعور بالرضا (الشعور بالذنب)
الشعور الدائم بالذنب والاعتقاد بأنك لا تستحق السعادة، ومقارنة نفسك بالآخرين باستمرار، الشعور أن تلك الأشياء الرائعة التي تحدث هي خطأ ولا يجب أن تكون، ثم ممارسة النكد والميل للسلبية.
- الشعور بالرضا عن الشعور بالسوء (مواساة الذات - دور الضحية)
أن تكون راضياً عن الأشياء السيئة التي تحدث لك هو لعب لدور الضحية ومحاولة للبحث عن الاهتمام من خلال الاستعطاف، وهو ما يقودك للبحث عن الشعور بالعجز، وتشعر أيضاً بأنك تستحق أشياء لا يستحقها الكثيرون غيرك لأنك مررت بما مررت به ولأنك جيد وذلك من حقك، وهذا ما يقود للتعالي على الآخرين سواء أحسست بذلك أم لم لا..... فالكثيرون ممن يمتهنون دور الضحية يرون غيرهم شديدو الخبث وهم منزهون.
- الشعور بالرضا عن الشعور بالرضا (النرجسية)
سيؤدي إلى الاهتمام بتهنئة الذات على أفعالها، والمبالغة في تقدير النفس، وتصور وهمي لمدى إيجابيتها، والعجز عن التعامل مع الفشل أو رفض الآخرين، وتجنب المواجهة والنقاشات التي تختص شؤون الحياة والعلاقة.
سيدي القارئ.. تعرفت الآن على دلائل التعرض للإهمال إبان الطفولة، وأثرها على السلوك، ومشاعرك حول مشاعرك، والحل بسيط لكنه صعب جداً... فقط لا تثق بمشاعر وستتغير الحياة نحو الأجمل.
المشاعر ليس لها قيمة معرفية في ذاتها، فأنت تشعر بالرضا لشيء سيء وتشعر بالسوء لأمر صحيح، لذا فمشاعرك لا تعدو عن كونها مجرد أحاسيس تدور في صدرك وليس لها معنى مستقل يمكن الاعتماد عليه.
أن تشعر بأنك مظلوم أو تستحق شيء لا يعني بالضرورة أن ذلك صحيح... لذا حاول دائماً أن تفكر في مشاعرك وتذكر أن لها جذوراً من الطفولة، لكن مسؤوليتك اليوم هي اخراسها والتأمل بعقل... الأمر يتطلب جهداً ذهنياً لكنه يستحق العناء.
وأخيراً أرجو أن تتقبل نفسك ولا تنظر لها وفق مشاعرك، فلعلك أجمل مما تظن مشاعرك.
Created with GoDaddy Arabic Website Builder