في فرنسا عام 1894 عثر عميل سري من الاستخبارات الفرنسية يزاول مهنة عامل نظافة في السفارة الألمانية على هذه الرسالة ممزقة ومرمية في سلة مهملات السفير .
فأخذ الرسالة وجمع شتاتها ليقرأ محتواها ، فاكتشف أن المكتوب فيها وصف دقيق للمدافع الفرنسية ، وأسرار عسكرية أخرى ، يبيعها أحد الجنود الفرنسيين على الألمان .
فأحدث ذلك ضجة في الجيش الفرنسي ، وأقيم تحقيق كبير بحثاً عن الجاسوس الخائن .
شعب فرنسا آنذاك - وغالبية الشعوب الأوربية - كانت تشتهر بكرهها لليهود ، وكان الفرنسيون اليهود يتعرضون للتنمر والعنصرية ، وعادة ما يُشار إليهم بأنهم سبب الفساد وخراب الديار .
لذا سرعان ما توجهت شكوك المحققين إلى الضابط اليهودي ألفريد درايفوس Alfred Dreyfus ، لأنه كان الضابط اليهودي الوحيد في كتائب المدفعية .
بحث المحققون في تاريخ ألفريد الشخصي عن أدلة تؤكد شكوكهم ...... ووجدوا ما أرادوه .
فألفريد ولد وترعرع في مدينة Alsace شرق فرنسا ، والتي احلتها الألمان لفترة طويلة من الزمن ، وغالباً ما يعتبر أهلها أنفسهم ألمانيين أكثر من كونهم فرنسيين ، ولعل انتماؤه الألماني سَـوَّلَ له بيع الأسرار إليهم . ( باع القضية 😜 )
وأساتذته في المدرسة قالوا عنه أنه كان قوي الذاكرة ومولع بتعلم اللغات الأجنبية - كاللغة الألمانية - ، وهذا ما زاد الشكوك حوله ، فإتقانه للّغات وذاكرته القوية مقومات تُسهل عليه عمله الجاسوسي .
والطامة الكبرى أن هناك تشابه - إلى حد ما - بين خط ألفريد وبين خط الرسالة ، وهذا وما رَسَّـخ فكرة جاسوسيته .
وقد فَـتَّــشَ المحققون منزل ألفريد ، إلا أنهم لم يجدوا فيه أي دليل يُجرمه ، فتوجسوا منه خيفة ، فهذا يشير إلى احترافه الجاسوسية ، إذ أخفى كل الأدلة التي قد تدينه .... يا لدهائه !! .
القضاة العسكريون والضباط كانوا مقتنعون تماماً بإدانة ألفريد ، لذا حُكم عليه بالسجن المؤبد في زنزانة جزيرة نائية قبالة سواحل أمريكا الجنوبية .
هؤلاء هم اليهود ... غدارين لا يؤتمن عليهم أ ليس كذلك ؟
لو كنت محل القضاة العسكريين ... هل ستكتفي بالسجن المؤبد أم تحكم عليه بالإعدام لخيانة وطنه ؟
بعد سجن ألفريد بسنوات اكتشف رئيس المخابرات الفرنسية العقيد "جورج بيكوارت" رسالة أخرى تُسرب أسرار الجيش إلى السفارة الألمانية ، بنفس خط الرسالة التي سُجن ألفريد بناءً عليها !!! .
"بيكوارت" كان كارهاً لليهود ، ومقتنع تماماً بإدانة ألفريد ، لكنه سأل نفسه لوهلة ... مهلاً !! ماذا لو كان ألفريد بريء والخائن الحقيقي ما زال طليقاً ؟
بحث "بيكوارت" في الموضوع ، وعثر على رسالة لضابط يُدعى "إسترهازي" خطه مطابق تماماً لخط الرسالة ، وهو مقامر سكير في الحانات يُعاني من مشاكل مالية ، لذا من المرجح أن يكون هو الجاسوس الذي يبيع الأسرار من أجل المال ... وليس ألفريد .
أخبر "بيكوارت" قادة الجيش عن ذلك ، لكنهم اعتقدوا أن "إسترهازي" جاسوس آخر بالإضافة إلى ألفريد ، وخطهما مشابه لبعض ، بل لعل من جندهما للتجسس هو من طلب منهما هذا الخط وعلمهم إياه .
فُحكم على "إسترهازي" بالمؤبد أيضاً إلا أنه فر من فرنسا إلى بريطانيا ، ولم يتم القبض عليه .
"بيكوارت" اقتنع بهذا الاستنتاج لوهلة من الزمن ، فاليهود يبقون يهوداً لا أمان لهم .... إلا أن فرضية براءة ألفريد عادت إلى دماغه ، وطالب القضاة بإعادة محاكمة ألفريد ، فعاقبوه بإبعاده إلى كتيبة من الجيش في صحراء "تونس" لتعاطفه مع هذا اليهودي الخائن .
سَرَّب "بيكوارت" امتعاضه للصحافة ، فاستغل شقيق ألفريد ذلك ، والتقى بنخبة من المثقفين الفرنسيين طالباً منهم أن يحثوا القضاة على إعادة التمعن في القضية ، فتعاطفوا معه وتظاهروا لذلك .
وبعد عشر سنوات من سجن ألفريد أعادوا محاكمته أخيراً ، وبعد جلسات ومرافعات طويلة حكموا عليه بالسجن المؤبد أيضاً . ( أنت عبالك بقولك براءة مثلاً ؟! لا كابتن اليهودي يبقى يهودي وصخ بنظر الفرنسيين 😊)
إلا أن حاكم فرنسا عفى عنه ، وأعاده للسلك العسكري لاحقاً ، ليشارك في الحرب العالمية الأولى ويحصل على وسام الشرف نظراً لبسالته ، إلا أنه بقي منبوذاً من جميع العسكريين حتى مماته .
في الحقيقة إن ما قام به القضاة كارثة ونموذج لما يسميه علماء النفس الانحياز التأكيدي أو التحيز اللاإرادي ...
لم يلتفت القضاة إلى تفانيه في الخدمة العسكرية وتضحياته في المعارك التي تؤكد ولاءه ، واتهموه عوضاً عن ذلك لأنهم كانوا يعتقدون - مسبقاً - بأن اليهود خونة فاسدون ، وذلك جعلهم - دون وعي منهم - يفسرون الأدلة بالطريقة التي تُدين ألفريد وتُـثـبِّـتُ معتقدهم باليهود .
فحتى خطه لم يكن مطابقاً لخط الرسالة 100% ، بل مجرد تشابه إلى حد ما !!! لكنهم اعتمدوا على ذلك كدليل .
ولعلك سيدي القارئ تحب فلسطين وتبغض الصهاينة المحتلين وتؤمن بفسادهم ، فأَثَّــر ذلك على رغبتك أيضاً وملت إلى صحة الحكم رغم وهن الأدلة . (ولا أنت بايع القضية 😜)
الانحياز التأكيدي - كما يُعرِّفه علماء النفس - هو الميل للبحث وتفسير المعلومات بطريقة تتوافق مع معتقدات وافتراضات الفرد ، بينما لا يولي انتباهاً مماثلاً للمعلومات المناقضة لها .
لأن مخاوفنا ودوافعنا ورغباتنا - الإرادية واللاإرادية - تُشَـكِّـلُ الطريقة التي نحلل بها المعلومات دون وعي كامل منا بذلك ، فنحاول الدفاع عن المعلومات التي توافق آراءنا وافتراضاتنا ونرجو نجاحها ، ونتغافل عن المعلومات التي تخالف ذلك ونتمنى إثبات بطلانها .
وحتى ذاكرتنا تخضع لهذا النهج ، فعندما تفترض أمراً أو تبني رأياً يستدعي دماغك الذكريات التي تدعمه ، ويتناسى بقية الذكريات التي تخالفه ... وإليك هذه الدراسة .
قام بروفيسور علم النفس السيد مارك سنايدر Mark Snyder بدعوة عدد من الأشخاص إلى مختبره ، وعرض عليهم سرداً شاملاً لأحداث وقعت في أسبوعٍ واحد من حياة امرأة تُدعى Jane ، تحتوي على أنشطة انطوائية وأخرى منفتحة على المجتمع .
وبعد يومين دعاهم مرة أخرى إلى مختبره ، وطلب منهم اختيار وظيفة مناسبة لها وفقاً لما رأوه من حياتها ، وخَـيَّـرهم بين وظيفة أمينة مكتبة - أي مهنة انطوائية نوعاً ما - وبين وظيفة بائعة عقارات - أي عمل يتطلب الاحتكاك بالمجتمع بكثرة - .
المجموعة التي اختارت "أمينة مكتبة" كانت تستدل بالأنشطة الانطوائية التي قامت بها متغافلة عن الأعمال الأخرى دون إدراك منها بذلك ، كذلك المجموعة التي اختارت مندوبة مبيعات العقارات والتي نسيت أعمالها الانطوائية وتذكرت المنفتحة فقط .
في كِلا المجموعتين كانت الذاكرة تسعف الدماغ بالذكريات التي تثبت صحة كلامه دون الالتفات إلى ما يناقضها .
لم يكن بين المشاركين من يقول أن المرأة تصلح لكِلا الوظيفتين أو يُطالب بالمزيد من التفاصيل ليتأخذ رأياً حاسماً ، فأدمغتنا عادة ما تنحاز إلى رأي ثم تحاول إثباته من خلال الأدلة المتاحة أمامها .
في القضايا الشائكة والمختلف فيها بين الناس ، لا يدرك الغالبية العظمى منهم أن تفكيرهم يخضع لشيء يُسمى بـ"الانحياز التأكيدي Confirmation bias" ، فينظرون للأدلة التي تؤكد رأيهم فقط ، ويصرفون النظر عما سواها من الأدلة أو يحاولون التقليل من شأنها والتشكيك في صحتها ، ويُلبسوا عاطفتهم عباءة العقل ليظهروا بزَيِّ الحكماء .
لو شئت البحث عن أدلة تؤكد عدم وصول الإنسان إلى القمر ستجدها ... أو أردت أدلة تثبت أنه تَـسَـكَّــع هناك ستجدها أيضاً ، وأدمغتنا ستصدق وتفسر الأدلة وفقاً لرغباتها وآرائها المتخذة مسبقاً ... تماماً كما هو حال ألفريد ، فكما أن هناك إشارات لإدانته هناك أخرى تثبت براءته .
اليوم تمر البشرية بأزمة فايروس كورونا ، الذي اجتاح العالم وأصبح حديث الساحة ، فلا يخلو يومنا من الحديث عنه وتبادل الآراء فيه ، ولا شك أن أدمغتنا ستقوم بما تقوم به دائماً وستنحاز لرأي دون آخر .
ولعل من أبرز المواضيع المختلف فيها بين الناس هي لقاحات التطعيم من الفايروس ، ولا أشك أيضاً أنك لو أردت أدلة وقصص تثبت نجاح لقاحات كورونا ستجدها ، أو بحثت عن الأدلة والحكايات التي تشير إلى ضرر اللقاحات أو وأنها أكذوبة قام بها "بيل غيتس" أيضاً ستجدها .
وما نقوم به من تحيز وما نميل له من معلومات لا علاقة له بذكائنا فحتى آينشتاين رفض نظرية ميكانيكا الكم لأن قلبه مال إلى رفضها دون أن يدقق في أدلتها أصلاً ، وليس له علاقة بسوء نوايانا ، فأحياناً ننظر بعين الرحمة والشفقة لمن يخالفنا الرأي ونعتبرهم مساكين عُموا عن الصواب ، بينما في الحقيقة نحن المغبين الذين لا ندرك الانحياز التأكيدي الذي تمارسه أدمغتنا .
إذن ... ما الحل الذي يجعلنا نتلافى الوقوع في هذا الانحياز التأكيدي ؟
أقام العالم كارليس لورد Charles Lordتجربة لطيفة ، إذ أحضر مجموعة مؤيدة بشدة لحكم الإعدام ، وأخرى مناهضة رافضة له بقوة ، ثم عرض على كل مجموعة الأدلة التي تخالف آراءهم ، فلم يغير ذلك من معتقدهم ، وشككوا في الأدلة ، بل وزادتهم إصراراً وتمسكاً في رأيهم .
ثم أتى بمجاميع أخرى ، وعرض عليهم أيضاً الأدلة التي تخالف معتقداتهم ، بَـيـدَ أنَّـه شرح لهم الانحياز التأكيدي وطلب منهم أن يكونوا منصفين دون تحيز .... لكن ذلك لم يجدي نفعاً ، فقد تمسكوا بآرائهم أيضاً ، وشككوا في الأدلة وضربوا بها عرض الحائط . (كأني أشوف كارليس يقول أهو وجهي لو فلحت البشرية في التخلص من التحيز 😜)
كارليس لم يستسلم ... لقد ابتكر استراتيجية جديدة ، وأتى بمجوعة أخرى متعصبة لرأيها أيضاً ، وطلب منهم هذه المرة أن يسألوا أنفسهم ويفكروا عميقاً قبل كل خطوة ورفض أو قبول لأي دليل إذا ما كانوا سيصلو إلى نفس التقييمات الداعمة أو الرافضة لو أظهر الدليل نتيجة مختلفة عن تقييمهم أو ما يؤمنوا به مسبقاً .
فعلى سبيل المثال إذا قُدم للمشاركين في التجربة دراسة تشير إلى أن عقوبة الإعدام خفضت من معدلات الجريمة ، كان يُطلب منهم تحليل منهجية الدراسة ، وتخيل أن النتائج أشارت إلى عكس ذلك الاستنتاج .
وقد حققت هذه الاستراتيجية نجاحاً ، وغيرت آراء العديد من المشاركين في التجربة ، وأزاحت عن خيالهم النقطة العمياء التي تحجب عنهم رؤية العالم على غير ما يفترضون .
لنعد إلى اللقاحات ...
لنفرض أنك سيدي القارئ ترفض لقاحات كورونا ، ولديك الأدلة والقصص التي تؤكد ذلك .
هل تعرف الآلية التي تعمل بها لقاحات رنا المرسال MRNA بأدق أدق تفاصيلها ؟ سأخبرك لمحة عنها فقط .
لديك في خلايا جسدك حمض نووي DNA ، يحتوي على جميع المعلومات والتعليمات المهمة التي تنظم عمل خلايا جسدك ، فتصنعك أنت .
وفي خلاياك أيضاً آلات تقرأ الحمض النووي DNA وتحوله إلى رنا المرسال MRNA ، والذي سوف يدخل في برمجة أحماضك الأمينية التي تصنع البروتين في جسدك وتجعلك على قيد الحياة ، وهذه ما يُسمى بـ" الترجمة Translation".
والترجمة هي الثغرة التي تستغلها فيروسات كورونا لتهاجم جسدك ، إذ تقوم بإدخال معلوماتها الجينية إلى خلاياك لتقوم الآلات - بغير قصد منها - بأخذ هذه المعلومات وبناء البروتينات التي ستاهم بانتشار الفايروسات في جسدك .
فيبدأ جهازك المناعي محاولة التغلب عليها ، فإذا نجح في ذلك تعافيت منه ، وإذا فشل وسيطر على رأتك .... انتقلت إلى لطف الله .
لقاحات كورونا الحديثة تُدخل إلى آلات خلاياك ترميز ومعلومات MRNA عن بروتين الفايروس ، فيقوم جهازك المناعي بفهم المعلومات التي ستجعله قادراً على التصدي له مستقبلاً في حال اصابتك به - بنسبة تقدر في لقاح فايزر مثلاً إلى 94% - .
إن كنت سيدي القارئ معترضاً على اللقاحات ... هل تفهم أولاً تقنيتها بدقة أم أنك متحيز ضد ما لا تفهم ؟ هل قرأت الدراسات العلمية التي تتحدث عن هذه التقنية التي لا شأن لها بالحمض النووي DNA بل تعمل وفقاً للرنا المرسال MRNA ؟
عد الآن إلى أدلتك والقصص المعارضة ... وتفحصها واحدة تلو الأخرى ، وتخيل أنك قاض في محكمة والمتهم هو اللقاح ، اسأل نفسك بصدق وتفكر بعمق عند تفحص كل دليل ماذا لو كانت النتائج عكس ما ذهب إليه رأيك ؟ ماذا لو كنت قد اتخذت القرار الخطأ ؟ ماذا لو كان المتهم بريء - كما هو حال ألفريد - والأدلة ضعيفة واهنة .. بينما أنت تميل إلى إدانته ؟
حاول أن تمحو من خيالك تلك النقطة العمياء التي تحجب عنك رؤية العالم على عكس ما تفترض ... حاول أن تفكر بطريقة خارج صندوق الانحياز التأكيدي المحيط بأدمغتنا .
كن منصفاً يا سيدي القاضي ....
ألفريد رجل بريء .... اللقاح كذلك ... رُفعت الجلسة 🔨 😜 .