في عام 1768م قاد المستكشف الإنجليزي جيمس كوك رحلة استكشافية استعمارية إلى "أستراليا" ، أعلنت فيها بريطانيا ملكيتها لهذه الأراضي الجديدة ونيتها لبناء مستعمرة هناك .
أستراليا كانت أرضاً قاحلة تقطنها بعض القبائل البدائية وتنتشر فيها الأفاعي والعقارب ، لذا لم يرغب البريطانيون بالهجرة إليها واستيطانها ... ولا تصح مستعمرة من دون سُكان يعمرونها ، وعلى ذلك فَـعَّلت بريطانيا الخطة باء وقررت إرسال كل المساجين إلى هناك بمختلف جرائمهم ، فحتى الذي يسرق قطعة خبز يتم ترحيله إليها !!! .
وكانت الحكومة البريطانية تدفع أموالاً لأصحاب السفن التجارية لنقل المساجين إلى هناك ، ويزداد المبلغ بازدياد عدد المساجين ، وهذا ما جعل مُلاك السفن يشعرون بالجشع ويحاولون نقل أكبر عدد ممكن .
السفن التي لا تتسع بالعادة لمئة مسافر كانت تحمل في جعبتها 300 سجين ، وهذا ما ترتب عليه وضع صحي كارثي نظراً لحجم الاكتظاظ وقلة الرعاية الصحية والمؤونة ، مما أسفر عنه وفاة الكثير من المساجين ، فمثلاً توفي في أحد السفن 111 سجين من أصل 300 !! .
امتعض واعترض عامة البريطانيون على هذا الإجرام الذي يمارسه قباطنة السفن بهؤلاء المستضعفين ، فتظاهروا ضدهم ، واستجابت الحكومة لهم وقررت منح مؤونة غذائية ودوائية إضافية للسفن كي يتم بذلها على المساجين .
إلا أن هذا لم يغير جشع القباطنة بل زادهم طمعاً ، وأصبحوا يحتفظون بالمؤونة لأنفسهم ، كي يبيعونها على قبائل أستراليا البدائية ، واستمر وفاة المساجين في الرحلات .
بريطانيا كانت تخشى على أرواح المساجين ... فهم من سيعمرون المستعمرات ، ووفاتهم ليس في مصلحتها إطلاقاً ، لذا قررت أن تتخذ نهج جديداً مع مُلاك السفن ، وأصبحت تدفع للقباطنة مبلغاً إضافياً لكل سجين يصل حياً ، وتخصم مبلغاً ضخماً من أجرة التوصيل نظير كل حالة وفاة تحدث على السفينة .
بعد تطبيق هذه السياسة انطلقت أول سفينة وعلى متنها 322 سجين ، لتصل إلى أستراليا ولم يمت منها إلا سجين واحد فقط .. وهذا تَحسن مذهل !! .
لقد عزفت الحكومة البريطانية على ذات الوتر الذي يغني به القباطنة ... ألا وهو حافز الربح ، وهذا خَـلَـقَ تغيراً جذرياً في سلوكهم الإجرامي الجشع ، وأصبحوا أكثر حرصاً على الأرواح .
سيدي القارئ ... أ تعرف آليةً كهذه تُغير من سلوك الآخرين ؟
أحياناً نحاول أن نغير السلوك بالوعظ والنصيحة وإيضاح الحقائق لكننا نفشل في ذلك ...
كم مرة قرأت أو سمعت نصيحةً أو إعلاناً يتحدث عن خطر استخدام الهاتف أثناء القيادة ؟ كثيراً أ ليس كذلك ؟
حسناً ... كم مرة استخدمت هاتفك أثناء القيادة هذا الأسبوع ؟ (حط عينك بعيني أشوف 😒)
أ رأيت ؟ نحن نعرف ما يتوجب علينا فعله ... لكن هناك فجوة بين معرفتنا وتطبيقها ، ومخطئ من ظن أن إعطاء النصيحة والمعلومة فقط سيغير من هذا السلوك جذرياً .
في أمريكاً مثلاً تنفق الحكومة سنوياً مبلغ 700,000,000 دولار على الحملات التوعوية لمحو الأمية المالية ، والتي تعني امتلاك الناس المعرفة والمهارة التي تخولهم من اتخاذ قرارات اقتصادية مدروسة وصحيحة ... فهل نفع ذلك ؟
في دراسة استقصائية قامت بها الحكومة مؤخراً تبين أن الذين قرأوا منشورات الحملات وحضروا ندواتها تعلموا بشكل جيد قواعد الاقتصاد ، إلا أن نسبة تطبيق ما تعلموه على واقعهم المعيشي هو 0.1% فقط .
إذن ... ما الوسيلة المثلى لتغيير السلوك ؟
إنها نظرية الصاروخ ...
لنفرض أن سلوكنا الحالي هو الأرض والسلوك المثالي الذي نتمنى الوصول إليه هو القمر ، ولديك صاروخ فضائي ... ما الذي يحتاجه الصاروخ كي يصل إلى هناك ؟
سيحتاج إلى الوقود الذي يدفع الصاروخ ، وتقليل مدى احتكاكه بالهواء لينطلق بسلاسة دون معوقات .
إن سلوك البشر لا ينبع من فراغ ، فالوقود الذي يحركهم نحو كل شيء هو "الرغبة أو الخوف" ، فإما رغبة في الحصول على المكافآت بمختلف أشكالها ، أو خوفاً من العقوبات بشتى أنواعها ، وهو ما يسميه العلماء بـ"الدوافع" .
ولو أردت تحريك سلوك أي إنسان نحو وجهة ما ، غذِّه بالوقود - الدافع - الذي سيحركه نحو الهدف ، فإما دافع إيجابي رغبة بكسب المكافآت ، أو دافع سلبي خوفٌ يتجنب به العقوبات .
فلو كان سلوكه بسبب دافع الرغبة بالمكافأة ، وأردت تغييره ، أخفه من العقوبة ، والعكس صحيح ، تماماً كما فعلت بريطانيا مع القباطنة المولعين بالربح ، أشعرتهم بالخوف من الخسارة .
وعلى هذا قس ما سواه ، وتأمل في كل سلوك تريد تغييره ، سواء سلوكك أو سلوك غيرك ، ستجد خلفه دافعاً ، وتغيير السلوك يكون من خلال تغذية الدافع .
ويمكننا تقسيم دوافع البشر إلى ثلاثة فئات ... وجميعها قد تكون سلبية أو إيجابية .
أولاً الدوافع الاقتصادية والمادية / وهي أكثر الدوافع تأثيراً على سلوك الإنسان ، وتأتي غالباً بصورة أموال وممتلكات مادية ومنافع ومُتعٍ ذاتية ، يحاول الإنسان اكتسابها أو تجنب خسارتها .
في الصين مثلاً كان العديد من الأطباء يحاولوا اقناع النساء بالولادة القيصرية - دون ضرورة طبية لذلك - كي يربحوا المزيد من الأموال ، لأن تكلفتها ضعف تكلفة الولادة الطبيعية ، بَـيـدَ أن ذلك أسفر عن حالات وفاة أو تشوهات للكثير من المواليد والأمهات .
هذا السلوك اللاإنساني الذي مارسه الأطباء منبعه الدافع المادي ، ولهذا قامت الحكومة الصينية بتوحيد سعر الولادة القيصرية والطبيعية ، مع عقوبة مالية مشددة لكل طبيب يقوم بعملية قيصرية دون ضرورة طبية .
وبالتالي تقلص عدد العمليات القيصرية بشكل مذهل حقاً .
ثانياً الدوافع الاجتماعية / وهي رغبتنا في أن نكون مقبولين ومحبوبين أكثر من قِبلِ الآخرين ، وبالتالي نقوم بالأعمال التي يحبذها المجتمع وتقربنا منهم ، ونتجنب السلوكيات التي ينزعج منها الناس وتنفرهم منا .
وهذا يُفسر لك لماذا يتغير شيء من سلوكنا إن كنا محاطين بالآخرين ، بل وكما يقول عالم النفس الاجتماعي السيد هاري سوليفان Harry Sullivan في نظريته الشهيرة "وهم الفردية" : إن الفرد يسلك السلوك الذي يتوقعه منه الآخرون ، وليس للفرد شخصية ثابتة ، بل هي متغيرة ، ولكل منا شخصيات كثيرة وسلوكيات مختلفة بحسب طبيعة العلاقة مع الآخرين وأهميتهم النفسية لدينا .
وفي دراسة بريطانية راقب القائمين عليها سلوك الناس ومدى حفاظهم على نظافة حديقة "هايد بارك" ، وكان غالبية الناس يميلون إلى المحافظة على نظافة الحديقة عندما يكون هناك أحد يجلس بالقرب منهم ، إلا أنهم يتهاونون بعض الشيء في نظافتها عندما يكونوا لوحدهم . (أعرف ناس لو الملكة إليزابيث قاعده يمه هم راح يزبل 😒)
ثالثاً الدوافع الأخلاقية / وهي رغبتنا في القيام بالفضائل والخيرات وتجنب الرذائل والشرور ، وعادة ما تكون هذه الدوافع مرتبطة بالدين الذي نؤمن به أو التربية التي نشأنا عليها ، فنسعى لنكون الصالحين وذوي الجنة ، ونتجنب أن نكون آثمين ومن أهل النار .
وتستطيع أن تقرأ التاريخ وترى كيف غَـيَّـر الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله الكثير من السلوكيات المنحرفة في مجتمع الجزيرة العربية آنذاك ، كوأد البنات والربا والزنى وشرب الخمر وغيرها من السلوكيات المنحرفة ، عندما حببهم بالخير والأخلاق الحميدة مصرحاً : "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، بالإضافة لوعدهم بالجنة أو وعيدهم بالنار كُلاً بحسب فعله .
لننتقل إلى النقطة الأخرى من نظرية الصاروخ ... تقليل الاحتكاك ، وإليك هذه الواقعة .
كان هناك صيدلية أمريكية على الإنترنت توفر الدواء لأصحاب الأمراض المزمنة في مختلف الولايات الأمريكية ، وكل ما يجب على المرضى فعله هو التسجيل على موقع الصيدلية وإعطائهم صورة عن الوصفة الطبية ، فتقوم الصيدلية بتوصيل الدواء إلى منزل المريض كل ثلاثة أشهر .
تعاقدت الصيدلية مع شركة جديدة مختصة بأدوية الأمراض المزمنة ذات جودة أعلى وسعر أرخص من نظرائها ، وأرادت الصيدلية من المرضى أن يوافقوا على التغيير إلى الشركة الجديدة ... وفكرت بالدوافع الاقتصادية كوسيلة اقناع .
فأرسلت الصيدلية نموذجاً إلى مرضاها كي يكتبوا فيه موافقتهم على التغيير ثم يعيدوا إرساله بالبريد ، وستكون أدويتهم مجانية للأشهر الثلاثة القادمة .
يا له من عرض رائع وتوفير مميز !!
برأيك كم نسبة المرضى الذين كتبوا النموذج وأعادوا إرساله ؟
فقط 0.9% من المرضى !!!! ... لقد كان إحباطاً للقائمين على الصيدلية .
لذا قررت الصيدلية إرسال عرض مغري يجعل المرضى يتهافتون على التغيير ، وقالت لهم إن كتبتم الموافقة وأعدتم إرسالها ستكون أدويتكم مجانية لمدة عام كامل . 😍
الآن ... ما هو توقعك لنسبة المرضى الذين كتبوا موافقتهم ليحصلوا على هذا العرض ؟
8% فقط من المرضى فعلوا ذلك !! .
اتجه القائمون على الصيدلية إلى دكتور الاقتصاد السلوكي دان آريلي Dan Ariely ليجد لهم حلاً ، فهم طبقوا ما يقوله العلم " إذا أردت التغيير فلامس الدافع " ، وقدموا عرضاً رائعاً إلا أنه لم يجدي نفعاً . ( اي والله مصخره ما ينسكت عنها يا أبو آريلي 😜)
الدكتور دان آريلي وَضَّـحَ لهم أن المعضلة ليست في التوفير والدافع بل هي الفرق بين أن لا تقوم بشيء وتستمر في أخذ دوائك المعتاد بالسعر المعتاد ، وبين أن تقوم بشيء وتكتب الموافقة يدوياً وتعيد إرسالها بالبريد وبالتالي تحصل على التوفير .
وغالبية المرضى فضلوا منطقة الراحة وعدم القيام بشيء مقابل القيام بعدة أشياء للحصول على التوفير .
اقترح الدكتور آريلي على الصيدلية أن ترسل إلى مرضاها نموذجاً يحتوي خانتين إما الموافقة على الشركة الجديدة أو الاستمرار على القديمة ، وترفق معه رسالة مفادها "نرجو منكم كتابة النموذج أو سنضطر آسفين لوقف الدواء عنكم" .
وهنا اضطر المرضى للقيام بتعبئة النموذج كي لا يتوقف عنهم الدواء ، وبالتالي اختار 97% من المرضى التمتع بالعرض المجاني والانتقال إلى الشركة الجديدة . ( كفوووو ما يجيب إلا رجالها ... أبو آريلي 😜 )
الوقود الذي ضخته الصيدلية في الصاروخ في بادئ الأمر كان التوفير والعرض المجاني ، إلا أنه لم يصل إلى السلوك المطلوب لأنه كان هناك احتكاك ومقاومة المتمثلة في كتابة النموذج وإعادة إرساله .
أدمغة البشر مفطورة على الكسل ، وأحياناً يكون الاحتكاك والمتطلبات تفوق حجم الدافع وروعته ، وهو تماماً ما حدث مع عرض الصيدلية .
لذا إن أردت تغيير السلوك وائم بين قوة الدافع وصعوبة السلوك ، فلا يصح أن تطلب من ابنك الذي في عمر 10 سنوات مثلاً الاجتهاد في الدراسة والحصول على درجة الامتياز وتوعده بقطعة شوكولاتة كمكافأة على التفوق ، لكن جهاز play station 5 سيوفي بالغرض 😜.
فهم الدوافع يساعدك على فهم سلوك الإنسان ويشرح لك آلية تغييره ، وسواء كنت أباً وتريد تربية أبنائك ، أو كنت صاحب تجارة وتهدف سلوك الزبائن لمزيد من الربح ، أو غير ذلك ، كل ما عليك فعله هو فهم "الوقود والاحتكاك – الدافع والمتطلبات" وستصل بالسلوك للوجهة المطلوبة .
سيدي القارئ أرجو أن تجول بذاكرتك الآن ، وتتذكر كل سلوك تتمنى تغييره ، وتتأمل ملياً في دافعه وتفكر في كيفية تغييره ، لأني لا أتمنى أن تكون كلماتي كحملات التوعية الأمريكية التي لا فائدة منها 😜 .