هل عِشتَ حكاية حُـبٍ من قبل ؟
في مطلع القرن الثامن بعد الميلاد ، حكم الملك "جاسوا تشان كاوييل" مدينة "تيكال" أبرز مدن حضارة المايا ، وينقل التاريخ أنه كان شديد الحب لزوجته "ليدي لهان" .
فعندما توفيت عام 704م أراد "جاسوا" تخليد ذكراها حباً لها ، فاستدعى الكهنة والمهندسين البنائين ، وشَيَّـدَ معبداً هرمياً ضخماً ليكون قبرها ، وأسس لنفسه أيضاً نصباً آخراً أُصاده ليكون قبره ، كي يجاورها حتى بعد مماته .
ولم يكونا مجرد قبرين متقابلين ، بل كانت تحفة معمارية فلكية ، ففي الإشراق تبزغ الشمس من خلف قبر جاسوا لتمد بظلالها على قبرها ، وفي المغيب تنزوي الشمس عند قبرها لتلقي بظلالها على قبره ، بطريقة في غاية الروعة والدقة ، فكأنه يُقبِّل قبرها صباحاً ، لترد له القبلة بالقبلة مساءٍ .
ومنذ أكثر من قرن لا يزال القبران يتواصلان معاً عِبرَ الشمس وظلها .
قصة رومنسية جميلة أ ليس كذلك ؟
لقد درس علماء الأنثروبولوجيا المجتمعات البشرية ووجدوا الحب الرومانسي في 170 مجتمعاً بشرياً ، ولم يخلو منه مجتمع على مدار التاريخ .
البشر عموماً تستهويهم قصص الحب والحكايات الرومنسية ، ويتمنون أن يعيشوا ذلك الشعور العَذب الذي يُداعب القلب ويتملكه .
انظر من حولك ... أحاديث الناس والأفلام والمسلسلات والكتب والقصص والأشعار والأغاني تضج بالحب ، بل إن التاريخ يؤرخ حروباً نشبت لأجل الحب .
وجدير بنا أن نتساءل ... لماذا يسيطر الحب على أدمغة البشر وتصرفاتهم ؟ لما كل هذا التلهف والقتال لأجله ؟
لنناقش هذا الأمر - علمياً - ولندع العاطفة جانباً ...
درست عالمة الأنثروبولوجيا السيدة هيلين فيشر Helen Fisher وزميلتها عالمة الأعصاب السيدة لوسي براون Lucy Brown أدمغة العديد من الأشخاص الواقعين في الحب ، عن طريق جهاز أشعة الدماغ الوظيفية FMRI ، والذي يكشف نشاط الدماغ والمناطق المستثيرة فيه .
فكانتا تتفحصان نشاط أدمغة العُشاق عندما يرون صور من هاموا فيهم حباً ، ويسألونهم بعض الأسئلة المتعلقة بالحب وبمدى استعدادهم للتضحية والموت لأجل من يحبون .
لاحظ القائمين على الدراسة أن الحب الرومنسي يُـنـشِّطُ منطقة "النواة المتكئة في الدماغ" ، مما يجعل المحب مستعداً لتحمل مخاطر هائلة من أجل الحب ، فتعميه عن الخسائر التي قد ينالها جراء ذلك ، بل وتحجب عن إدراكه عيوب محبوبه ومثالبه .
ولاحظوا أيضاً نشاطاً كبيراً في منطقة دماغية أخرى تُسمى "المنطقة السقيفية البطنية VTA" ، والتي تصنع هرمون الدوبامين وتغمر به الدماغ عند الشعور بالحب .
والدوبامين هو الهرمون الذي يخلق فينا هاجساً ورغبة تتملكنا فلا نكف عن التفكير بالمحبوب ، فنندفع بشغف اتجاهه ، ونركز عليه دون سواه ، ونشعر معه بالنشوة والرفاهية والرضا ... كأننا نحلق فوق السحاب .
لكن ما لا قد تعلمه سيدي القارئ أن هذه المناطق الدماغية هي ذاتها المناطق التي تنشط جراء تعاطي وإدمان الكوكايين أو الهروين ، فتقود المدمنين إلى المخاطرة من أجل التعاطي ، وتُنشي أدمغتهم وتضخ فيها الدوبامين الذي سيسيطر عليها ويغير سلوكها ويعميها عن الحقيقة والواقع .
أي إن الحب أشبه بالإدمان ... بل هو إدمان تام يحتوي على جميع صفات الإدمان الثلاثة .
فالتركيز على المعشوق الذي يخلقه الدوبامين ، والتعلق الشديد به والاشتياق له الذي يصنعه هرمون الأوكسايتوسين ، يُشَـوِّهُ الواقع ويجعل العاشق أعمى عن عيوب محبوبه والمساوئ المترتبة على الارتباط به وعدم كفاءته لتكوين أسرة مستقبلية ناجحة ، فينجرف لأقصى درجات المخاطرة طمعاً بالفوز في حبه ... وهذا هو الإدمان بأبهى صوره .
وكما تقول السيدة هيلين فيشر : " الحب الرومانسي واحد من أكثر المواد التي تسبب الإدمان على الأرض ... وعلى الأقل أنت يمكن أن تقلع عن الكوكايين بينما الحب هاجس يتملكك " .
إن نشوة الحب التي تتملك الدماغ وتسيطر عليه تشرح لك هوس الناس به على مدار التاريخ ، وسلوكهم الإدماني النابع من الحب يُفسر لك الكثير من تصرفاتهم ، فمخاطرة الفتاة أو عصيانها أهلها من أجل حبيبها مثلاً أمر لا يندرج ضمن نطاق العقل والمنطق ... هو مجرد سلوك إدماني هَدّام تغذيه الهرمونات لا أكثر ، يبحث عن جرعته بأي ثمن .
و رُبَّ عاشق هام حباً يقول ما الضير أن أعيش حياتي كلها تحت وطأة الهرمونات محلقاً في سماء الحب متحدياً العالم لأجله ؟
آآآه يا سيدي العاشق كم أنت مسكين ... من أخبرك أن الحب شيء دائم ؟!
هيا لنبدأ الصدمة ...
صحيح أن الحب الرومنسي شعور لطيف تحيا في ظله لحظات هانئة إلا أنه لن يدوم ، فالدماغ الذي كان يضخ الهرمونات سيأتي في يوم ويتوقف عن إنتاجها شئت أم أبيت ، لتعود حينها إلى رشدك وتنصدم بأن العالم ليس وردياً ، وهي ليست لحظة بعيدة المدى ... إن الحب لن يدوم أكثر من ثلاثة سنوات !! .
وهذا ليس توقيتاً اعتباطياً مني ... بل هذا ما توصلت له دراسات علم النفس والأعصاب والاجتماع على حدٍ سواء .
أقامت عالمة الأعصاب السيدة لوسي فينسينت Lucy Vincent عدة دراسات حول الحب كتبت على إثرها كتاباً أسمته "كيف نقع في الحب؟ How Do We Fall in Love? " ، وقد أكدت فيه أن نشوة الدوبامين لا تلبث إلا أن تقل مع مرور الزمن حتى تتلاشى نهائياً ، وسيختفي حينها الشعور بالرغبة في التحليق بين السحاب ليحل محله الشعور بالملل ، بل والندم في أحياناً كثيرة ، وتأثير "الكوكتيل السحري للهرمونات" لن يزيد عن 3 سنوات في أحسن الأحوال .
وتتفق معها كلياً دكتورة علم النفس السيدة منى فيشباني Mona Fishbane مؤلفة كتاب "محبة الدماغ في علم الأعصاب والعلاج الزوجي Loving with the Brain in Mind Neurobiology & Couple Therapy " .
إذ تقول الدكتورة منى : الاستيقاظ من التعويذة ... إن الجنون في الحب حالة مؤقتة لا يستطيع الدماغ تحمل شدتها إلى الأبد ، وفي مرحلة ما يعود الدماغ إلى رُشده ، وتستقر الهرمونات الهائجة ، فيعود الدماغ لحالة أكثر هدوءً ، فترى مساوئ شريكك كلها ، ويحدث هذا بين سنة إلى ثلاثة سنوات من العلاقة ، فيَحِنُّ العشاق إلى نشوة الدوبامين ، فينجرف بعضهم إلى علاقات غرامية أخرى ، أو الطلاق والزواج مرة أخرى للحصول على جرعة أخرى من المخدرات الغرامية ، لكن حتى العلاقة الجديدة ستصبح لاحقاً علاقة قديمة وهكذا دواليك .
وتضيف السيدة منى : عندما يتلاشى سحر الحب يصبح العشاق كسالى في علاقاتهم ، ويتفاعلون مع سلبيات شركائهم ويتغاضون عن الإيجابيات .
أما بروفيسورة علم النفس السيدة سيندي هازان Cindy Hazan فقد قابلت ودرست 5000 رجل وامرأة ينتمون إلى 37 ثقافة مختلفة حول العالم يعيشون قصص حب ، وأكدت في بحثها أن الرجال والنساء مهيئين بيولوجياً وعقلياً ليكونوا في حالة حب لمدة تتراوح بين 18 إلى 30 شهراً فقط ثم يختفي ، وهي فترة كافية لإنجاب الأطفال ، ثم ليس هناك حاجة تطورية للدماغ ليستمر في ضخ الشغف والعشق .
إن ما تقوله السيدة سيندي في دراستها أن الحب أشبه بالغريزة الحيوانية التي تدفعنا نحو البقاء واستمرار النسل وتناقل الجينات ، وما إن ينتهي الهدف منها ستختفي .
وهذا يُفسر لك أيضاً لماذا يبـهت توهج الحب بعد الزواج بفترة يسيرة أو بعد المعاشرة الزوجية كما هو حال في الدول الغربية .
إذن اضمحلال أثر الهرمونات عن الدماغ بعد برهة من الزمن سيمحو لذة الحب ونشوته ، وسيعود الدماغ إلى رشده فتتكاسل في خدمة شريك حياتك ، وسيتحول هيامك فيه إلى تدقيق في عيوبه ، يصحبه تذمر ونزاع واتهامات ، قد تتسبب في الطلاق أو الخيانة ، أو تحيى بقية حياتك في أزمة عاطفية مع شخص أصبحت لا ترى فيه أنه شريكك الأمثل ... وهذا يُفسر لك كثرة حالات الطلاق في زمننا هذا .
ونظراً لما سبق من الدراسات - وهناك الكثير غيرها - لا بُـدَّ أن تكون واثقاً سيدي القارئ أن الأحمق وحده من يظن أن قصة حبه ستكون مختلفة عن بقية القصص ولن تنطبق عليها قوانين العلم وستدوم نشوتها لآخر العمر .
ولعلك سيدي القارئ في حيرة من أمرك الآن ، إن كان الحب إدماناً يؤثر سلباً على السلوك ، وقصة الحب أسطورة سرعان ما ينكشف زيفها وينقلب فيها السحر على الساحر ، فما هي الوسيلة المثلى لاختيار شريك الحياة وأنيس العمر؟
تبدأ علاقة الحب الرومنسي بالتَّــكون عندما تُعجب بأحدهم ، سواء كان الإعجاب بمظهره أو بعض تصرفاته وكلماته أو روح دعابته وما أشبه ، فتهتم به وتظهر ذلك له ، فيبادلك الاعجاب والاهتمام ... ثم تكتسح الهرمونات الدماغ وتُـكمل الحكاية .
بَـيـدَ أنَّ هذه الخصلة التي أُعجبت بها وقادتك هرموناتك إلى تضخيم جمالها - وإخفاء ما سواها من العيوب - ، لن تدوم كثيراً ، فسرعان ما يختفي أثر الدوبامين وتعود لرشدك وترى أنها مجرد خصلة هشة لا يُبنى عليها علاقة دائمة وستنكسر بعد ثلاثة سنين بأحسن حال من الأحوال .
لذا من المنطق - ولكي تنعم بحياة مستقرة - يجب أن تبني علاقتك على قواعد راسخة يتبناها الطرفين فتحكم ترابطهم وتضمن حقوقهم ... فما هي تلك القواعد برأيك ؟ (قف بالقراءة هنا وفَـكِّـر لدقيقة في الجواب)
لو شرَّقت وغرَّبت ودرت الأرض مفتشاً لن تجد غير الدين وأخلاقياته قاعدة تحكم سلوك الإنسان لا تتبدل مع مرور الزمان وتمنح معتنقيها السعادة والرضا وتضمن حقوقهم .
فالشريك إن كان خلوقاً مخلصاً يحترم قدسية العلاقة وراحة شريكه ومشاعره من منطلق ثابت لا يتزحزح مع الوقت فهذا سيضفي على حياتهما السكينة والرحمة والمودة للأبد ، وستكون حياة سليمة وبيئة صحية لإنجاب الأولاد وتربيتهم .
وهذا لا يعني أنهما لن يختلفا ، فالاختلاف شر لا بُـدَّ منه ، لأن البشر يأتون من بيئات ولِكُلِّ تفكيره وتربيته والاختلاف أمر راجح بينهما ، إلا أن الطرفين إن كانا رفيعي الخلق فإن اختلافهما ونقاشهما وتعايشهما سيكون جميلاً كجمال روحيهما .
وأظنك الآن فهمت لماذا قال عبقري هذه الأمة وخير خلق الله محمد صلى الله عليه وآله لرجل أتى يستشيره في الزواج : انكح وعليك بذات الدين تربت يداك .
إذن سيدي القارئ ... الحب يسيطر على الدماغ ويتحكم به نظراً لما ينتجه من هرمونات ، تُشوِّه له الواقع ، لكن سرعان ما يختفي أثرها ويزول مفعولها ، فينتج عنه الكثير من الاحتمالات السيئة كالخيانة أو المشاكل الزوجية أو الطلاق .
لذا الحل ان تُحسن اختيار شريكك وتنتقي أخلاقه بعناية ، والدين هي الوسيلة الأمثل لذلك ... فاظفر بذات الدين تربت يداك .