Blog Layout

الحب ... كما لم تعرفه من قبل

هل عِشتَ حكاية حُـبٍ من قبل ؟
في مطلع القرن الثامن بعد الميلاد ، حكم الملك "جاسوا تشان كاوييل" مدينة "تيكال" أبرز مدن حضارة المايا ، وينقل التاريخ أنه كان شديد الحب لزوجته "ليدي لهان" .
فعندما توفيت عام 704م أراد "جاسوا" تخليد ذكراها حباً لها ، فاستدعى الكهنة والمهندسين البنائين ، وشَيَّـدَ معبداً هرمياً ضخماً ليكون قبرها ، وأسس لنفسه أيضاً نصباً آخراً أُصاده ليكون قبره ، كي يجاورها حتى بعد مماته .
ولم يكونا مجرد قبرين متقابلين ، بل كانت تحفة معمارية فلكية ، ففي الإشراق تبزغ الشمس من خلف قبر جاسوا لتمد بظلالها على قبرها ، وفي المغيب تنزوي الشمس عند قبرها لتلقي بظلالها على قبره ، بطريقة في غاية الروعة والدقة ، فكأنه يُقبِّل قبرها صباحاً ، لترد له القبلة بالقبلة مساءٍ .
ومنذ أكثر من قرن لا يزال القبران يتواصلان معاً عِبرَ الشمس وظلها .
قصة رومنسية جميلة أ ليس كذلك ؟
لقد درس علماء الأنثروبولوجيا المجتمعات البشرية ووجدوا الحب الرومانسي في 170 مجتمعاً بشرياً ، ولم يخلو منه مجتمع على مدار التاريخ .
البشر عموماً تستهويهم قصص الحب والحكايات الرومنسية ، ويتمنون أن يعيشوا ذلك الشعور العَذب الذي يُداعب القلب ويتملكه .
انظر من حولك ... أحاديث الناس والأفلام والمسلسلات والكتب والقصص والأشعار والأغاني تضج بالحب ، بل إن التاريخ يؤرخ حروباً نشبت لأجل الحب .
وجدير بنا أن نتساءل ... لماذا يسيطر الحب على أدمغة البشر وتصرفاتهم ؟ لما كل هذا التلهف والقتال لأجله ؟
لنناقش هذا الأمر - علمياً - ولندع العاطفة جانباً ...
درست عالمة الأنثروبولوجيا السيدة هيلين فيشر Helen Fisher وزميلتها عالمة الأعصاب السيدة لوسي براون Lucy Brown أدمغة العديد من الأشخاص الواقعين في الحب ، عن طريق جهاز أشعة الدماغ الوظيفية FMRI ، والذي يكشف نشاط الدماغ والمناطق المستثيرة فيه .
فكانتا تتفحصان نشاط أدمغة العُشاق عندما يرون صور من هاموا فيهم حباً ، ويسألونهم بعض الأسئلة المتعلقة بالحب وبمدى استعدادهم للتضحية والموت لأجل من يحبون .
لاحظ القائمين على الدراسة أن الحب الرومنسي يُـنـشِّطُ منطقة "النواة المتكئة في الدماغ" ، مما يجعل المحب مستعداً لتحمل مخاطر هائلة من أجل الحب ، فتعميه عن الخسائر التي قد ينالها جراء ذلك ، بل وتحجب عن إدراكه عيوب محبوبه ومثالبه .
ولاحظوا أيضاً نشاطاً كبيراً في منطقة دماغية أخرى تُسمى "المنطقة السقيفية البطنية VTA" ، والتي تصنع هرمون الدوبامين وتغمر به الدماغ عند الشعور بالحب .
والدوبامين هو الهرمون الذي يخلق فينا هاجساً ورغبة تتملكنا فلا نكف عن التفكير بالمحبوب ، فنندفع بشغف اتجاهه ، ونركز عليه دون سواه ، ونشعر معه بالنشوة والرفاهية والرضا ... كأننا نحلق فوق السحاب .
لكن ما لا قد تعلمه سيدي القارئ أن هذه المناطق الدماغية هي ذاتها المناطق التي تنشط جراء تعاطي وإدمان الكوكايين أو الهروين ، فتقود المدمنين إلى المخاطرة من أجل التعاطي ، وتُنشي أدمغتهم وتضخ فيها الدوبامين الذي سيسيطر عليها ويغير سلوكها ويعميها عن الحقيقة والواقع .
أي إن الحب أشبه بالإدمان ... بل هو إدمان تام يحتوي على جميع صفات الإدمان الثلاثة .
فالتركيز على المعشوق الذي يخلقه الدوبامين ، والتعلق الشديد به والاشتياق له الذي يصنعه هرمون الأوكسايتوسين ، يُشَـوِّهُ الواقع ويجعل العاشق أعمى عن عيوب محبوبه والمساوئ المترتبة على الارتباط به وعدم كفاءته لتكوين أسرة مستقبلية ناجحة ، فينجرف لأقصى درجات المخاطرة طمعاً بالفوز في حبه ... وهذا هو الإدمان بأبهى صوره .
وكما تقول السيدة هيلين فيشر : " الحب الرومانسي واحد من أكثر المواد التي تسبب الإدمان على الأرض ... وعلى الأقل أنت يمكن أن تقلع عن الكوكايين بينما الحب هاجس يتملكك " .
إن نشوة الحب التي تتملك الدماغ وتسيطر عليه تشرح لك هوس الناس به على مدار التاريخ ، وسلوكهم الإدماني النابع من الحب يُفسر لك الكثير من تصرفاتهم ، فمخاطرة الفتاة أو عصيانها أهلها من أجل حبيبها مثلاً أمر لا يندرج ضمن نطاق العقل والمنطق ... هو مجرد سلوك إدماني هَدّام تغذيه الهرمونات لا أكثر ، يبحث عن جرعته بأي ثمن .
و رُبَّ عاشق هام حباً يقول ما الضير أن أعيش حياتي كلها تحت وطأة الهرمونات محلقاً في سماء الحب متحدياً العالم لأجله ؟
آآآه يا سيدي العاشق كم أنت مسكين ... من أخبرك أن الحب شيء دائم ؟!
هيا لنبدأ الصدمة ...
صحيح أن الحب الرومنسي شعور لطيف تحيا في ظله لحظات هانئة إلا أنه لن يدوم ، فالدماغ الذي كان يضخ الهرمونات سيأتي في يوم ويتوقف عن إنتاجها شئت أم أبيت ، لتعود حينها إلى رشدك وتنصدم بأن العالم ليس وردياً ، وهي ليست لحظة بعيدة المدى ... إن الحب لن يدوم أكثر من ثلاثة سنوات !! .
وهذا ليس توقيتاً اعتباطياً مني ... بل هذا ما توصلت له دراسات علم النفس والأعصاب والاجتماع على حدٍ سواء .
أقامت عالمة الأعصاب السيدة لوسي فينسينت Lucy Vincent عدة دراسات حول الحب كتبت على إثرها كتاباً أسمته "كيف نقع في الحب؟ How Do We Fall in Love? " ، وقد أكدت فيه أن نشوة الدوبامين لا تلبث إلا أن تقل مع مرور الزمن حتى تتلاشى نهائياً ، وسيختفي حينها الشعور بالرغبة في التحليق بين السحاب ليحل محله الشعور بالملل ، بل والندم في أحياناً كثيرة ، وتأثير "الكوكتيل السحري للهرمونات" لن يزيد عن 3 سنوات في أحسن الأحوال .
وتتفق معها كلياً دكتورة علم النفس السيدة منى فيشباني Mona Fishbane مؤلفة كتاب "محبة الدماغ في علم الأعصاب والعلاج الزوجي Loving with the Brain in Mind Neurobiology & Couple Therapy " .
إذ تقول الدكتورة منى : الاستيقاظ من التعويذة ... إن الجنون في الحب حالة مؤقتة لا يستطيع الدماغ تحمل شدتها إلى الأبد ، وفي مرحلة ما يعود الدماغ إلى رُشده ، وتستقر الهرمونات الهائجة ، فيعود الدماغ لحالة أكثر هدوءً ، فترى مساوئ شريكك كلها ، ويحدث هذا بين سنة إلى ثلاثة سنوات من العلاقة ، فيَحِنُّ العشاق إلى نشوة الدوبامين ، فينجرف بعضهم إلى علاقات غرامية أخرى ، أو الطلاق والزواج مرة أخرى للحصول على جرعة أخرى من المخدرات الغرامية ، لكن حتى العلاقة الجديدة ستصبح لاحقاً علاقة قديمة وهكذا دواليك .
وتضيف السيدة منى : عندما يتلاشى سحر الحب يصبح العشاق كسالى في علاقاتهم ، ويتفاعلون مع سلبيات شركائهم ويتغاضون عن الإيجابيات .
أما بروفيسورة علم النفس السيدة سيندي هازان Cindy Hazan فقد قابلت ودرست 5000 رجل وامرأة ينتمون إلى 37 ثقافة مختلفة حول العالم يعيشون قصص حب ، وأكدت في بحثها أن الرجال والنساء مهيئين بيولوجياً وعقلياً ليكونوا في حالة حب لمدة تتراوح بين 18 إلى 30 شهراً فقط ثم يختفي ، وهي فترة كافية لإنجاب الأطفال ، ثم ليس هناك حاجة تطورية للدماغ ليستمر في ضخ الشغف والعشق .
إن ما تقوله السيدة سيندي في دراستها أن الحب أشبه بالغريزة الحيوانية التي تدفعنا نحو البقاء واستمرار النسل وتناقل الجينات ، وما إن ينتهي الهدف منها ستختفي .
وهذا يُفسر لك أيضاً لماذا يبـهت توهج الحب بعد الزواج بفترة يسيرة أو بعد المعاشرة الزوجية كما هو حال في الدول الغربية .
إذن اضمحلال أثر الهرمونات عن الدماغ بعد برهة من الزمن سيمحو لذة الحب ونشوته ، وسيعود الدماغ إلى رشده فتتكاسل في خدمة شريك حياتك ، وسيتحول هيامك فيه إلى تدقيق في عيوبه ، يصحبه تذمر ونزاع واتهامات ، قد تتسبب في الطلاق أو الخيانة ، أو تحيى بقية حياتك في أزمة عاطفية مع شخص أصبحت لا ترى فيه أنه شريكك الأمثل ... وهذا يُفسر لك كثرة حالات الطلاق في زمننا هذا .
ونظراً لما سبق من الدراسات - وهناك الكثير غيرها - لا بُـدَّ أن تكون واثقاً سيدي القارئ أن الأحمق وحده من يظن أن قصة حبه ستكون مختلفة عن بقية القصص ولن تنطبق عليها قوانين العلم وستدوم نشوتها لآخر العمر .
ولعلك سيدي القارئ في حيرة من أمرك الآن ، إن كان الحب إدماناً يؤثر سلباً على السلوك ، وقصة الحب أسطورة سرعان ما ينكشف زيفها وينقلب فيها السحر على الساحر ، فما هي الوسيلة المثلى لاختيار شريك الحياة وأنيس العمر؟
تبدأ علاقة الحب الرومنسي بالتَّــكون عندما تُعجب بأحدهم ، سواء كان الإعجاب بمظهره أو بعض تصرفاته وكلماته أو روح دعابته وما أشبه ، فتهتم به وتظهر ذلك له ، فيبادلك الاعجاب والاهتمام ... ثم تكتسح الهرمونات الدماغ وتُـكمل الحكاية .
بَـيـدَ أنَّ هذه الخصلة التي أُعجبت بها وقادتك هرموناتك إلى تضخيم جمالها - وإخفاء ما سواها من العيوب - ، لن تدوم كثيراً ، فسرعان ما يختفي أثر الدوبامين وتعود لرشدك وترى أنها مجرد خصلة هشة لا يُبنى عليها علاقة دائمة وستنكسر بعد ثلاثة سنين بأحسن حال من الأحوال .
لذا من المنطق - ولكي تنعم بحياة مستقرة - يجب أن تبني علاقتك على قواعد راسخة يتبناها الطرفين فتحكم ترابطهم وتضمن حقوقهم ... فما هي تلك القواعد برأيك ؟ (قف بالقراءة هنا وفَـكِّـر لدقيقة في الجواب)
لو شرَّقت وغرَّبت ودرت الأرض مفتشاً لن تجد غير الدين وأخلاقياته قاعدة تحكم سلوك الإنسان لا تتبدل مع مرور الزمان وتمنح معتنقيها السعادة والرضا وتضمن حقوقهم .
فالشريك إن كان خلوقاً مخلصاً يحترم قدسية العلاقة وراحة شريكه ومشاعره من منطلق ثابت لا يتزحزح مع الوقت فهذا سيضفي على حياتهما السكينة والرحمة والمودة للأبد ، وستكون حياة سليمة وبيئة صحية لإنجاب الأولاد وتربيتهم .
وهذا لا يعني أنهما لن يختلفا ، فالاختلاف شر لا بُـدَّ منه ، لأن البشر يأتون من بيئات ولِكُلِّ تفكيره وتربيته والاختلاف أمر راجح بينهما ، إلا أن الطرفين إن كانا رفيعي الخلق فإن اختلافهما ونقاشهما وتعايشهما سيكون جميلاً كجمال روحيهما .
وأظنك الآن فهمت لماذا قال عبقري هذه الأمة وخير خلق الله محمد صلى الله عليه وآله لرجل أتى يستشيره في الزواج : انكح وعليك بذات الدين تربت يداك .
إذن سيدي القارئ ... الحب يسيطر على الدماغ ويتحكم به نظراً لما ينتجه من هرمونات ، تُشوِّه له الواقع ، لكن سرعان ما يختفي أثرها ويزول مفعولها ، فينتج عنه الكثير من الاحتمالات السيئة كالخيانة أو المشاكل الزوجية أو الطلاق .
لذا الحل ان تُحسن اختيار شريكك وتنتقي أخلاقه بعناية ، والدين هي الوسيلة الأمثل لذلك ... فاظفر بذات الدين تربت يداك .

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بقية المقالات
Share by: