مرحباً سيدي القارئ ..
لنفرض أنك ارتكبت خطئاً تسبب في انفصالك عن شريك حياتك ... ماذا ستقول لنفسك حينها؟ ما هي الألفاظ التي ستوجهها لنفسك بعد هذا التصرف ؟
سنعود للجواب لاحقاً . (أنت قاعد تجاوب ولا قام تصرفني ؟ 😒)
في عام 1882م ولدت أيقونة الأدب في القرن العشرين الكاتبة أدالاين فيرجينيا وولف ، والتي واجهت في طفولتها العديد من العراقيل التي صَعَّـبت عليها تحقيق حلمها بأن تُصبح كاتبة ، إلا أنها وضعت نفسها أمام خيارين إما النجاح أو النجاح ... وقد حققت بالفعل ذلك .
فمثلاً الفتيات في حينها لم يكن يُسمح لهن بدخول المدارس ، لذا تعلمت أدالاين في منزلها الكتابة والقراءة وفنون الأدب ، ثم إنها تحدت المجتمع بأكمله وشاركت في الحركات الإصلاحية التي تدعو لتعلم المرأة ... لم ترضى من نفسها إلا أن تكون كاتبة مميزة .
كانت أدالاين تقول : "إن النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل ماديّ خاص بهن، وإلى غرفة مستقلّة ينعزلن فيها للكتابة" .
وهذا ما سلبته ظروف الحياة منها عندما قُصف منزلها أثناء الحرب العالمية الثانية ، فتدمرت غرفتها التي تكتب فيها ، وقد ظنت في بادئ الأمر أنها مجرد أيام وستعود الأمور لطبيعتها الهادية ، إلا أن الحياة خيبت أملها ، وكانت الحرب تزداد سعيراً وكل ما حولها أصبح خراباً ، ولم تتقبل أدالاين هذا الواقع المرير فدخلت بحالة اكتئاب شديدة .
وإبان أيام الحرب كتبت أدالاين سيرة ذاتية لصديقها الفنان روجر فراي ، إلا أن الأوساط الأدبية استقبلت كتابتها استقبالاً بارداً لا يليق بفرجينيا وولف ، فهي سيدة الأدب بلا منازع ، فازدادت كآبتها بُؤساً ، وبدأت بِلَومِ نفسها واتهمت قدرتها على الكتابة بالضعف وبدأت تشعر أنها لم تعد بليغة كما كانت ... وهذا حتماً غير صحيح ، فالعالم آنذاك كان يخوض أغمار الحرب العالمية الثانية ، ولا أظن أن هناك من سيحتفل بالأدب في وسط ملايين القتلى الذين سُفكت أرواحهم .
إلا أن فيرجينيا كانت تقلل من قيمة إبداعها وتجلد نفسها دون رحمة ... فهي امرأة لا ترضى عن النجاح بدلاً .
وحتى على الصعيد الأسري كانت تكرر ذلك ، فأدالاين مثلها مثل أي زوجة في العالم ، كانت تحظى بأيام جميلة وأخرى غير ذلك ، إلا أنها كانت ترى أنها السبب في تعاسة زوجها لأنه كان يرعاها أثناء اكتئابها ، وأنه حتماً سيعيش حياة أجمل لو لم يكن معها .
لم ترضى من نفسها إلا أن تكون حياتها الزوجية جميلة فقط ... لذا قررت وبعد كل هذا اللوم لنفسها أن تنتحر وتضع حداً لحياتها .
فكتبت رسالة لزوجها قالت فيها : عزيزي، أنا على يقين بأنني سأجن فقدت قدرتي على التركيز ، لذا سأفعل ما أراه مناسبا ، لست قادرة على المقاومة بعد الآن وأعلم أنني أفسد حياتك وبدوني ستحظى بحياة أفضل أنا متأكدة من ذلك، أترى؟ لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد ، لا أستطيع أن أقرأ .
وبعد الرسالة ارتدت أدالاين معطفها وملأته بالحجارة وتوجهت لبحيرة بجانب منزلها وأغرقت نفسها .
جلدت نفسها حتى تكدرت تصرفاتها وقادها ذلك إلى الهلاك ... وهذا ما أريد أن أحدثك عنه اليوم سيدي القارئ.
لن أزاحم عقلك بكثرة الدراسات ... أريد فقط أن أخاطب قلبك بكل حب كي لا تقسو على نفسك مكتئباً ، لذا أرجوك .. أرجوك أعرني شيئاً من انتباهك . ( يا عمري الي هاد الدنيا وقاعد يقرا .... يختي الي يستحوووون😜 )
الهدف الأساسي لفطرة الإنسان هو أن يعيش بسعادة ورضا قدر الإمكان ، لذا تراه عندما يمر بأزمة - سواء نفسية أو جسدية - يسعى إلى التقليل منها والتغلب عليها ، ولكن - وبكل أسف - فللإنسان أيضاً ميول فطرية تدفعه بشكل غير مباشر نحو الكآبة والإحباط .
خُذ التسويف مثلاً ... الإنسان يعلم تماماً أن في إنجاز العمل مصلحته وسعادته ، إلا إنه يُسَوِّف ذلك عمداً مع علمه بأنه قد يترتب عليه قلق وتوتر وخسارة - كما بينت في المقال السابق - .
التسويف مجرد مثال من أمثلة عدة يقوم الإنسان بإلحاق الضرر بنفسه من خلالها دون أن يشعر ، بل يضع لنفسه الأعذار والحجج الواهية لتأكيد صحتها ، ولكنه أيضاً على الجانب الآخر يسعى لكسب المزيد من المتعة والسعادة ... أي أن الإنسان خليط مشترك بين الأفعال البناءة والهدامة على حد سواء .
وغالباً ما تنبع الأفعال الهدامة من أفكار خاطئة تتبناها أدمغتنا ، ومع تصحيح شيء من تلك الأفكار ستزداد حياتنا سعادة ، ولا أعدك في كلماتي هذه أن أريك حلاً سحرياً سيجعلك تطير من الفرحة بعد قليل ، لكني سأختصر لك شيئاً من كتب علم النفس التي من شأنها أن تُشعرك بالمزيد من الارتياح والسعادة ... وتذكر أننا نتحدث هنا عن الاكتئاب وجلد الذات .
الحياة ليست عالماً وردياً كما تعلم ، وأحياناً نتخذ قرارات وأفعال ثم نرى أننا خسرنا وفشلنا أو أُحبِطنا وخاب أملنا ، فتخيم الكآبة في صدورنا ، ونبدأ بالتذمر من أنفسنا والحياة والآخرين ، وهذا التصرف مرتبط بطفولتنا ... وسأوضح لك ذلك .
الإنسان بفطرته يسعى إلى الأفضل ، وبمجرد أن يصبح طفلاً مدركاً تتبادر إلى ذهنه رغبة العيش بسعادة ، لكنه ولقلة وعيه بالحياة سرعان ما يُحول تلك الرغبات إلى متطلبات لا محيص من حدوثها ، فينتقل الطفل مثلاً من "أرغب في النجاح وأن أحصل على إعجاب أهلي" إلى "علي أن أنجح وعلى أهلي أن يعجبوا بي" ... وهكذا هَلم جراً ، لذا تراه إن لم يتحصل على متطلباته التي يفترض وجوب تحققها ينفر ويغضب ويبكي ويعلو صياحه رافضاً حدوث عكس ذلك .
نعم نحن نكبر وندرك الحياة بشكل أفضل ، إلا أننا نستمر في تحويل رغباتنا إلى متطلبات نفترض وجوب حدوثها ، وصحيح ليس كل رغباتنا تتحول إلى ذلك ، إلا أن كل الخسائر المؤلمة وخيبات الأمل الشديدة والتي تخلِّف فينا شعوراً بالكآبة وتدعونا للقسوة على الذات نابعة من رغبات قمنا بتحويلها إلى واجبات .
هبني ذاكرتك واسترجع إحدى خيبات الأمل التي جعلتك تشعر بشيء من الكآبة ... سترى أنها إحدى هذه الثلاثة مواقف :
• الشعور بإحباط عندما قلت لنفسك : " كان يجب أن يكون أدائي أفضل .. كان يجب أن أنجح وأحصد الإعجاب ... أفعالي كانت مهولة ... اقترفت خطئاً ... أنا شخص غير جدير بالإعجاب" .
• الشعور بخيبة الأمل والغضب عندما قلت لنفسك " لماذا لا يعاملني هؤلاء الناس كما أعاملهم ، كان عليهم أن يعاملوني بذات اللطف ... ألا يرون أني أستحق هذا ... لماذا لم يفعلوا .. هم سيئون حقاً" .
• الشعور بالضيقة والسآمة عندما تقول لنفسك " لماذا ظروف الحياة هكذا ، أنا شخص جيد ، لا أستحق كل هذه الظروف السيئة ، الحظ ليس بجانبي ، لم أعد أطيق شيئاً منها " .
( أدري أنك بينك وبين نفسك ما تسولف فصحى يا أمرؤ القيس ... اقصد نفس المعنى خو 😜)
كُنتَ طفلاً طموحاً ورائعاً لذلك فرضت على نفسك إحدى هذه الثلاثة حوارات ، أو كنت مدللاً بعض الشيء ويوفر لك أهلك كل الحب والأمنيات التي ترغب بها واعتدت ذلك ، لكنك اليوم أصبحت راشداً ... ولا يصح لك أن تعيش الحياة بأحلام الأطفال ومتطلباتهم ، فهي حتماً ستجلب لقلبك مشاعر الكآبة بين الحين والآخر ، وستجعلك تقسو على نفسك وتبالغ في نقدها .
انظر للحياة من حولك ... ما تتوقعه وتطلبه من الآخرين من أن يعاملوك بعدل واهتمام على الدوام .. لن يحدث .. انسَ الأمر .. سيكونون غالباً منهمكين في إرضاء أنفسهم ورغباتهم .
أما بالنسبة للظروف والحياة ... فلن تعطيك الحياة ما تريد لأنك فقط تريد ، آسف لذلك لكنني مضطر أن أقول لك أن العالم لا يعبأ لرغباتك ، ولا يهتم لمتطلباتك ، وليس لديه أي اهتمام شخصي بتحقيق مصالحك ، الكون لا يكرهك أو يحبك بل يواصل دورانه دون اكتراث بأي أحد ، والأشخاص الذين يعيشون فيه عليهم احداث الفرق بأنفسهم .
أما على الصعيد الشخصي ... فالبشر بطبيعتهم معرضون لأخطاء التفكير والضعف ويتأثرون بالمضايقات وما أشبه ، وستكون واهماً لو ظننت أنك ستنجح دوماً ... دماغك ليس باستطاعته هذا .
كل المواقف التي أُحبطنا فيها واكتأبنا منها وبالتالي انتقدنا أنفسنا هي مواقف انطلق فيها ذلك الطفل الذي ما زال يقبع في منطقة اللاوعي رافعاً متطلباته الغير منطقية والتي هي في الأساس مجرد رغبات نستحسنها .
عندما يرى طفلك (اللاوعي الذي يُحدثك عند التفكير) الحياة على حقيقتها لن يفهمها ، أو لا يريد أن يفهمها ، سيصرخ ويقسو عليك وسيلومك وسيجلد نفسه والتي هي أنت ... هو يريد متطلباته المفروضة فقط .
لنعد يا عزيزي القارئ إلى سؤال مطلع المقال / لنفرض أنك ارتكبت خطئاً فانفصلت عن شريك حياتك .. ماذا قلت لنفسك ؟ هل وبختها ومسحت فيها بلاط الأرض ؟ هل اتهمتها بالفشل والعجز ؟
مهلاً ... صحيح أنك ترغب في أن تكون رائعاً في تصرفاتك ، وتتطلع أن يغفر لك شريك حياتك لو أسأت التصرف فلا ينسى تاريخ الفضل بينكما ... لكن ماذا لو أخطأت ولم يغفر لك ؟ هل هي نهاية العالم ؟
نعم أداؤك كان سيئاً في بعض المواقف ، لكنك أيضاً كنت لطيفاً في كثير من المواقف الأخرى .. وهذه طبيعتك البشرية التي لا مفر منها ، فلماذا تطلب من نفسك أن تكون لطيفاً فقط .. من الذي افترض أن تصرفاتك لن تخونك يوماً ما ؟!
أنت لست فاشلاً البتة أو ناجحاً تماماً ... أنت خليط بينهما ، وكلنا كذلك ، فلا تلوم نفسك ، ولا تحكم عليها بالمجمل ، لا تسمح لذلك الطفل الذي في داخلك أن يقسو عليك صارخاً في وجهك لأن افتراضاته الخيالية لم تتحقق .... نعم كان من الجيد أن تكون أفعالك دائماً رائعة لكنك بشر وهذا لن يحدث .. ولا بد من أن تسيء التصرف يوماً ... وهي ليست نهاية الحياة ... إنها طبيعتنا التي تتكرر .
وشريك حياتك ليس سيئاً مطلقاً حين أنهى المودة بينكما ... هو بشر ويبحث عن إرضاء رغباته أيضاً .
عزيزي القارئ ... أرجو أن لا تضعك الحياة في اختبار آخر يخلِّف فيك شعوراً سيئاً .. لكنها الحياة وستفعل ذلك شئنا أم أبينا ، لذلك في المرة القادمة وعندما تشعر بالاكتئاب وتقسو فيها على نفسك تأمل جيداً ما الذي يُحزنك ... سترى أنها أمور سيئة بلا شك ، لكنها في الحقيقة مجرد تفضيلات ورغبات ، ليست متطلبات في عدم تحققها نهاية العالم ، هي أشياء نودها لكنها قد لا تكون لنا لأن الحياة لا تمضي دائماً وفق ما نتمنى .
ولستَ شخصاً سيئاً أو غير كفء بالمجمل لأنك قمت بهذه الأفعال الطائشة أو الغبية ، فلا شك أنك قمت بالكثير من الأفعال الحسنة غيرها ، وحتى الآخرين الذين أساؤوا معاملتك ليسوا أشراراً بالمجمل ... هم مثلك ، لديهم أفعال حسنة وأخرى سيئة ، فلماذا تصر على أن يكونوا دائماً جيدين معك ... هم بشر وتخونهم تصرفاتهم فلا تفرض غير ذلك ... التقييم المطلق فكرة حمقاء ابتعد عنها .
إن ارجاع متطلباتك إلى مجرد تفضيلات ورغبات سيُحول كآبتك الشديدة إلى مجرد استياء ... ونعم هو ليس شعوراً رائعاً أيضاً لكنه لن يحطمك كما تفعل الكآبة الناتجة عن المتطلبات التي تفرضها على نفسك .
عندما تُريد أن تُقيم نفسك – وهذا ما تفعله يومياً – فأنت تستخدم مفردات معينة تُخاطب بها نفسك ، فإن كان لا وعيك وضع الرغبات في اطار الرغبات لا أكثر لن تقسو على نفسك بتلك المفردات وستشجعها على عمل المزيد من النجاح وتقبل الهزيمة بصدر رحب رغم كرهك لها .
بينما لو عبث ذلك الطفل واستخدم ألفاظ التي تفرض حدوث رغباتك لا محالة ، والتي لا شك أنها ستصطدم بالواقع والمجتمع اللذان يحولان دون ذلك ، فحينها ستقسو على نفسك وتوبخها ، وبالتالي ستشعر بالعجز والفشل وتتبدل تصرفاتك نحو الأسوأ ، كما حدث مع أدالاين فرجينيا .
سيدي ... خذ دقيقة من التأمل وخاطب نفسك وقَيِّمها ... ماذا ستقول لها ؟
قف وتأمل ... هل وبختها أم شجعتها لتفعل الصواب في قادم الأوقات ؟
تذكر أن لا وعيك الذي يخاطبك عند فشلك وحزنك هو ذلك الطفل الذي لم تُعلمه الحياة بعد ، لذلك وفي نقاشاتك مع نفسك حاول أن تخرس الطفل إن حاول الاستنقاص منك على خلفية متطلباته الغير منطقية .
لا الخطأ يعني أنك فاشل .. ولا عدم تحقق ما تريد تعني نهاية الحياة .
لتكن لديك الشجاعة لتغير مساوئ الحياة التي يمكن تغييرها وتحقيق رغباتك ، وقوة القلب لتتقبل - دون أن تحب - الأشياء التي لا يمكن تغييرها ، والحكمة لتعرف الفرق بين الأثنين .
لكن إياك أن تظن أنك سيء عندما تفشل ... لقد كانت مجرد رغبات لم تحصل عليها .. وهي ليست نهاية الحياة ... لذا أرجوك لا تجلد نفسك .
إنها النصيحة التي قالها الله جل علاه لنبيه محمد صلى الله عليه وآله ، عندما فرض على نفسه أن يُقنع كل الناس بالإسلام ، وكان يتأسف بشدة لائماً نفسه على عدم إيمانهم .
قال تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } .