مرحباً سيدي القارئ ... كم مرة غضبت فيها وفَضَّلتَ السكوت على الكلام والعتاب، ثم مددت "بوزك" والشحناء تملأ صدرك معتقداً أن الآخرين سيتفهمون استياءك من تصرفهم؟
أتمنى ألا يكون الجواب "مرات كثر"... إن ابتسامة الرضا تليق بجمالك يا سيدي. (يختي استحى 😜)
الآن أرجو منك القيام بهذه التجربة... قد لا تكون ملحناً بارعاً لكن قم باختيار أغنية مشهورة جداً، كأغنية عيد الميلاد "سنه حلوه يا جميل"، ثم استخدم أي طاولة أمامك وطَـبِّـل عليها لحن الأغنية وأنت تغنيها في سِرِّك، ثم اطلب من الأشخاص الذين حولك تخمين تلك الأغنية.
لنفرض أنك حولك عشرة أشخاص.... برأيك كم شخص منهم سيعرف الأغنية؟
احتفظ بالجواب سنعود له لاحقاً ... والآن قم بالتجربة.
إن كل امرئ فينا ينظر للحياة من منظوره الخاص الذي تَـكَـوَّن من خلال تجاربه ومعلوماته وتربيته، ودماغ كل واحد منا يقضي غالبية وقته في التفكير بأفكاره الخاصة وأفعاله المبنية على وجهة نظره الشخصية، لذلك فمن الصعب جداً على أدمغتنا أن تـتخيل بشكل صحيح تماماً وجهة نظر الآخرين حول الحياة.
أدمغتنا تدرك تماماً أن الآخرين لم يخوضوا تجاربنا ولم يحظوا بالتربية التي حظينا بها ولم يتعلموا كل الأشياء التي تعلمناها، إلا أن أدمغتنا لا تعتد بذلك عندما تحاول -بشكل بديهي- أن تخمن وجهة نظر الآخرين في الأمور التي نحتك بهم فيها أو نتبادل الآراء معهم حولها، بل غالباً ما سترجح أدمغتنا أن الأمور الواضحة لها بينة لهم أيضاً... وهذا ما يسميه علماء النفس "وهم الشافية - Illusion of transparency" .
دماغك الذي يقرأ معطيات الواقع من حولك ثم يتبنى فكرة أو يحس بشعور ما يظن أن الآخرين -ونظراً لوجود ذات المعطيات أمامهم أيضاً- سيرون الواقع كما تراه أنت، متوهماً أن الأمر شفاف لهم كما هو شفاف لدماغك.
إن كنت قمت بالتجربة التي اقترحتها عليك... سترى أن هنالك اختلاف شاسع بين عدد الأشخاص الذين اعتقدت أنهم سيعرفون الأغنية وبين العدد الحقيقي الذي عرفها... فأنت غنّيت الأغنية في دماغك وطبلتها بيديك، فبدا لك الأمر سهلاً، لكن الحقيقة لم تكن كذلك. (ويمكن أصلاً سحبت علي وما سويت التجربة😒)
قامت الدكتورة إليزابيث نيوتن Elizabeth Newton من جامعة ستانفورد بتجربة، كانت تنقر على طاولة أمامها لحن النشيد الوطني، فإن تعرف عليها المشارك في التجربة تسأله كم عدد الأشخاص الذين تظن أنهم سيتعرفون عليها؟
كان الأشخاص الذين يتعرفون على اللحن يعتقدون أن أكثر من 50% من الناس سيعرفون اللحن كما عرفوه هم، بينما في الواقع 3% تقريباً هم من تعرفوا على الأغنية، أي من 5 آلاف مشارك تعرف فقط 160 شخص عليها.
إن الأشياء الواضحة لنا نُرجح أنها واضحة للآخرين أيضاً، تماماً كما اعتقدت أنت عندما قمت بالتلحين والتطبيل، فالأغنية الواضحة في رأسك توهمت أنها ستكون واضحة أيضاً في أسماعهم.
ولوهم الشفافية وجوه أخرى، فمثلاً في دراسة لبروفيسور علم النفس السيد Kenneth Savitsky طلب من المشاركين فيها إخبار الآخرين ثلاثة قصص حدثت لهم، على أن تكون إحداها مكذوبة.
غالبية المشاركين اعتقدوا أن الآخرين لن يكتشفوا القصة المكذوبة، بينما في الواقع 69% منهم اكتشفوا الكذبة، وحينما ظنت أدمغتهم أن الحبكة متقنة والخداع مستتر، كان الواقع شيئاً آخراً.
وأظنك سيدي القارئ قد استمعت يوماً لشخصٍ كثير الكذب، وبينما أنت تضحك في سرك على أكاذيبه الواضحة، تراه لا يخجل من التفوه بها، ليس لانعدام حيائه، بل لأنه يظن نفسه ذكياً باستطاعته أن يخفي الكذبة، وما هو إلا وهم انحازت له نفسه.
ولِنَعد الآن يا سيدي إلى سؤال مطلع المقال، كم مرة غضبت ثم سكت وافترضت أن الآخرين سيفهمون سبب استيائك منهم؟
عندما يرتكب الأشخاص المقربون منا حماقات تجرح مشاعرنا أو تؤذينا نفترض أنهم يعرفوننا حق المعرفة ويعلمون ما يكدر صفونا، لأننا كتاب مفتوح ويسهل الاطلاع عليه، كيف لا ونحن قد قربناهم منا وضممناهم إلى جناحنا، فتكون أفعالهم أكثر إيلاماً من أفعال الغرباء.... لكن هذا مجرد وهم!!
إننا نعتقد أننا واضحون ويمكن لأحبائنا معرفة ما يؤذينا، لكننا أكثر تعقيداً من ذلك، وأشد غموضاً مما نعتقد... لسنا كتباً مفتوحة يمكن للآخرين قراءتها بسهولة... لا يوجد فينا أحد كذلك ... والله.
ثم ننتقل بعد ذلك لتوهم آخر، فنفضل السكوت و"البوز" على الكلام، أو رمي التلميحات من تحت الحزام، معتقدين أن ذلك سيشرح لهم مدى امتعاضنا... وفي الحقيقة هذا مجرد تخبط في تخبط. ( التلميحات يعني النقزات التي تقطونها يا حمامات السلام😒)
فلا التلميحات ستجدي نفعاً ولا "البوز"، علينا أن نتحدث بكل وضوح كي نُـبَــيِّــن للآخرين ما يزعج مشاعرنا، فالتوهم بأن الآخرين سيفهموننا تماماً من سكوتنا أو تلميحاتنا يُفسد العلاقات ولا يصلحها... ولن يكفوا عن أفعالهم التي جرحتك ما لم تتحدث إليهم علانية... إن السكوت جُبن وليس حكمة.
في بحث رائع لعالم النفس السيد John Gottman درس فيه ما يقرب من ألف عائلة، باحثاً عن الطريقة الأمثل للحفاظ على نجاح العلاقة الزوجية، أكد أن الأشخاص الذين يفضلون عدم الإفصاح عن استيائهم من أخطاء شريك حياتهم ولا يُـبـيِّـنونها لهم بشكل مباشر عادةً ما تنهار علاقتهم بعد مدة من الزمن.
فنحن بشر والآلام التي تخلفها أخطاء الآخرين فينا دون بث شكواها لهم وتنفيسها إليهم ستؤثر سلباً بسلوكنا دون أن نشعر، فنقلل من إحساننا إليهم، وينتقص شيئاً من حبنا لهم... ولك أن تتخيل مآل العلاقة بعد تكرار ذلك مراراً.
سيدتي القارئة إليك هذه النكتة... على سبيل المزاح لا أكثر.
لا يؤثر "وهم الشفافية" على علاقاتنا وحسب، بل وعلى جودة مهاراتنا أيضاً، فعلى سبيل المثال قد يُطلب منك يوماً التحدث أمام حشد من الجماهير، فتبدأ بالقلق والتوتر نظراً لصعوبة الموقف، وتبدأ قطرات العرق تلمع في جبينك، فتظن أن ما تشعر به من قلق واضح للناس كلياً، فتزداد قلقاً فوق اضطرابك... ولكن الواقع ليس كذلك.
مشاعرنا ليست واضحة جداً للآخرين، ومدى قلقنا غير ظاهر لهم تماماً، ولو أدركنا ذلك جيداً سيقل أثر "وهم الشفافية" علينا.
وإليك هذه الدراسة للبروفيسور Kenneth Savitsky (اهو نفسه الي كتبت اسمه قبل اشوي وأنت ما قريته مساع ولا الحين 😜)
طلب السيد سافيتسكي من المشاركين في التجربة إلقاء كلمة أمام حشد غفير من الجمهور، وأخبر مجموعة منهم أن الناس لن يتمكنوا على الأرجح من إدراك توترهم بالقدر الذي يتوقعونه، وشرح لهم "وهم الشفافية"، ولم يشرح سافيتسكي ذلك لبقية المشاركين.
الأشخاص الذين فهموا "وهم الشفافية" بدوا أكثر ثقة في أنفسهم وقدموا حديثاً أفضل من الذين لم يتم تعليمهم ذلك.
وعلى هذا قِس ما سواه... إن فهمك للوهم الذي يتخيله دماغك يجعلك أكثر انتباهاً له في المستقبل، ويُحسِّن من جودة علاقاتك ومهاراتك، ويجعل الكاذب يعي أنه مكشوف وأضحوكة في عين الآخرين فيَكُف عن ذلك.
إذن سيدي القارئ هناك خطأ تقع فيه أدمغة البشرية ألا وهو "وهم الشفافية"، وهو الاعتقاد بأن المشاعر التي يحسها الإنسان واضحة للآخرين.
لذا عليك أن تكون أكثر وضوحاً في نقاشك مع الآخرين مبتعداً عن السكوت والتلميحات، وتسألهم صراحة عما يريدون وبماذا يشعرون، كي تتجنب مشكلات سوء الفهم التي تهدم العلاقات، وتكون أنجح في إيصال معلوماتك ومشاعرك لهم، ولا أخفيك الأمر ... هذا يتطلب شيئاً من الشجاعة والجرأة، فالسكوت والتلميح آلة الخائف.
وإن أبسط شيء يمكنك القيام به لتقليل تأثير وهم الشفافية عليك وزيادة كفاءتك بين الآخرين هو أن تكون على دراية تامة به.
ولوهم الشفافية وجوهاً أخرى، ولمعرفته فوائد أخرى أيضاً ... وأترك لعقلك حرية التأمل كي يستكشفها.. دمت مبتسماً يا سيدي.