بين عام 431 إلى عام 404 قبل الميلاد نشبت حرب طاحنة بين "أثينا" وحلفائها من جهة وبين "أسبرطة" وحلفائها من جهة أخرى .
وقد دَوَّن المؤرخ ثوقيديدس Thucydides أحداث الحرب وحواراتها في كتابه (تاريخ الحرب البيلوبونسية) ، وهو كتاب رائع ودقيق يُدرس اليوم في كليات العلوم السياسية وفصول العلاقات الدولية .
ولعل أبرز فصل دَوَّنه ثوقيديدس هو الحوار الذي دار بين قادة جيش أثينا وشيوخ جزيرة "ميلوس" ، وهي جزيرة صغيرة في بحر اليونان ، كانت محايدة لم تشترك في الحرب رغم أن سكانها ينحدرون من نسل الأسبرطيين .
وسأسرد لك سيدي القارئ هذه التحفة الكلامية ... وأتمنى منك متفضلاً أن تتأمل الحجج المنطقية التي فيها ، وتتصور أنك من شيوخ جزيرة ميلوس . ( أناديك هيركوليس مو سيدي القارئ 😛 )
الأثينيون : نحن لن نُرهق أسماعكم بخطاب طويل نزعم فيه أننا نستحق امبراطوريتنا ، أو أننا محقون في الهجوم عليكم لأن استقلالكم خطر علينا ، وإن فعلنا فلن تصدقونا على أي حال ، وبالمقابل فإننا نرجو أن لا تُثقلوا أسماعنا بخطاب تبينون فيه أنكم لم تعادونا ولم تخطئوا في حقنا وتذكروننا فيه بأنكم لن تعينوا الأسبرطيين علينا رغم أنهم أنسابكم وأبناء عمومتكم .. فلا جدوى من ذلك ، وإنكم بلا شك تعلمون كما نعلم نحن أن العدل لا يجري إلا بين طرفين متساويين في القوة .. أما بين قوي وضعيف فالقوي يصنع ما يختار والضعيف يعاني ما هو مضطر إليه ومجبر عليه .. فيا أهل ميلوس إما الاستسلام والخضوع إلينا ، أو فإننا لن نبقي رجلاً على الجزيرة إلا قتلناه .
الميليون : كما تشاءون لن نكلمكم عن الحق بل عن المنفعة .. إننا لا نرى نافعاً لنا ولا لكم أن تهدموا الضمانة المشتركة التي تحمينا وتحميكم وهي العدالة والالتجاء للحق في وجه الخطر .. فهو الضامن لنا ولكم ، وإن في ذلك مصلحة في مقبل الأيام ، فلا بُدَّ من يوم تكونون فيه أضعف من عداكم ، فحينئذ ستلجؤون للعدل يحميكم ، وإلا فإن سقوطكم وانتقام عداكم منكم سيدعكم عبرة لمن يعتبر من الأمم .
الأثينيون : إن نهاية امبراطوريتنا إذا قُدَّرَ لها أن تنتهي يوماً ما لا تُخيفنا ، فإن امبراطورة منافسة ومساوية لنا في القوة كأسبرطة إذا انتصرت علينا لن تعامل المهزومين بالقسوة التي يتعامل بها الأتباع الثائرون على سادتهم .. وإن ما ندعوكم إليه من الإذعان هو في مصلحتكم كما هو في مصلحتنا ، لأنكم تنجون بالتسليم لنا من القتل .
الميليون : فأنتم لا تقبلون منا أن نبقى على الحياد بينكم وبين أسبرطة وتبقى العلاقة بيننا ودية فلا تؤذونا ولا نؤذيكم ؟!
الأثينيون : كلا ... لأن عداوتكم لن تؤذينا بقدر ما تؤذينا صداقتكم ... إذ أن صداقتكم مع بقاء استقلالكم ستُظهرنا ضعفاء أمام أتباعنا والخاضعين لنا من أهل الجزر الأخرى وقد يثورون علينا .
الميليون : طلبتم ألا نكلمكم بالحق والظلم بل بالنفع والضرر ... ولكن الحجتين كثيراً ما يلتقيان .. أفلا ترون ضرراً عليكم في ظلمكم لنا .. إنكم تعتدون علينا ونحن محايدون .. لذا سيخاف كل محايد سوانا على نفسه فيعاديكم .. إنكم تكثرون أعداءكم بالهجوم علينا وتزيدون من الأخطار المحدقة بكم .
الأثينيون : أما أهل البر فلن يحاربونا لانشغالهم عنا بغيرنا .. أما أهل البحر من المحايدين فهم مملوئون منا رعباً وسيزيدهم ما سيجري عليكم ... أين هي الجزر الصغيرة المحايدة أو الخاضعة لنا والتي سيجن أهلها ويعادوننا لأننا حاربناكم ؟!!!!!
الميليون : فإن كنتم تقهرون الناس إلى هذا الحد .. فلماذا لا نقاتلكم كي لا نصبح منهم ولماذا لا ندافع عن حريتنا واستقلالنا ؟
الأثينيون : لأنكم أضعف ونحن أقوى .
الميليون : لكننا نعلم أن الأقدار ربما نصرت الضعيف على القوي .
الأثينيون : آآآآه الأمل ... ذلك الوهم الذي يجعل الخطر مريحاً .. ويقنع الناس بآجالهم .. إنما الأمل فضيلة في الأقوياء ورذيلة في الضعفاء .. ستُعرفكم الأقدار بأنفسها حين تصبح دياركم خراباً ، لا تكونوا كالجهال من العامة حين يخذلهم ما يرونه من هذا العالم المادي فيلجؤون إلى ما لا يرون من الغيب يرجون منه النصر .. كالنبوءات والرؤى وغيرها من الاختراعات والأوهام التي تؤخذ الناس حتوفهم والبلدان إلى دمارها .
الميليون : تأكدوا أننا نعلم الفرق بيننا في القوة .. لكننا لم نزل مؤمنين بأن الآلهة ربما نظرت إلينا بعين العطف والرأفة إذ لسنا إلا أناس يدفعون الظلم عن أنفسهم .. ثم إننا نتوقع سنداً من أسبرطة وحلفائها .. إن لم يكن لروابط الدم والأخوة بيننا فلمعاداتكم .. لذلك فأملنا هذا الذي تسخرون منه ليس جنوناً بالكامل .
الأثينيون : آمنوا بالآلهة ما شئتم .. أما الأسبرطيون فإنهم لن ينصروكم إلا إن وجدوا في نصركم منفعة لهم .. وأنتم أضعف من أن تنفعوهم .. وهم جيش بر ... وأنتم أهل جزيرة ونحن سادة البحر نحاصركم ونحول بينهم وبينكم .. فكيف تتأملون أن يجوزوا البحر إليكم ونحن فيه؟! وإن ظننتم أنهم سينصرونكم ويعرضون أنفسهم للأخطار في أعالي البحار للأخوة بينكم أو أنفاً من العار .. فإننا نبارك لكم سذاجتكم .
الميليون : بل سوف ينصروننا .. لكي يثق أتباعهم وحلفاؤهم في سائر بلاد اليونان بحمايتهم وسوف يهاجمونكم من البر وسوف يبعثون لنا غيرهم من حلفائهم من أهل البحر .
الأثينيون : إننا نتعجب منكم !!! .. لقد خضتم هذه المفاوضات لتنقذوا بلدكم من الخراب .. وإلى الآن لم تقولوا شيئاً ينقذكم .. أقوى حججكم اعتماد على الأمل وعلى المستقبل وعلى غيركم .. كم مرة قلتم سوف وسوف وسوف ... سيفعلون وسيفعلون وسيفعلون ... يا أهل ميلوس نحن هنا الآن !!! ونفعل ما نفعل الآن .. انظروا إلى أسطولنا في البحر هو أمامكم الآن .. فلا تأخذكم الحمية .. فالحمية غمامة على أعين الناس تعميهم عن الخطر وتقودهم إلى الهاوية .. فلا تأنفوا من التسليم لنا ونحن أعظم مدينة في اليونان .. إنما نخيركم بين الأمن والحرب .. فإياكم والعمى .. إننا سوف نغادر هذه المفاوضات وننتظر ردكم .
لقد اختار أهل ميلوس الحرب .. إلا أن أملهم كان وهماً ، فلم ينصرهم الأسبرطيون ، أما الأثينيون فقد قتلوا كل رجل في ميلوس واستعبدوا النساء والأطفال ، وأتوا بأناس من أثينا ليستوطنوا الجزيرة . ( كلو ضرب ضرب إيييييه هو مافيش شتيمه 😛 )
ما رأيك بحجج شيوخ ميلوس ... هل كان أملهم منطقياً أو أنه وهم يحاول أن يرتدي زي العقل ؟
إن الأمل يا سيدي هو ذاك الدافع الذي يجعلك تستيقظ كل يوم من فراشك لتخوض معترك الحياة ، شعورك بأن هناك شيء ما جيد قد تستطيع فعله وسيجني نفعاً ... إنه المحرك الذي يجعلك تقوم بالكثير من الأعمال في حياتك .
لكنَّ الأمل فكرة وليس رجاء ، إنه شيء يجب أن يُبنى على المنطق لا أمنيات ، وهذا ما لا يدركه البعض فيصبح أمله وهماً ساماً منفصلاً عن الحقيقة يُفسد حياته عوضاً عن إصلاحها .
ولا تظنن أننا - وبكل سهولة - نستطيع التفريق بين الأمل والوهم ، فالتائه في الصحراء لن يُفرق بين الواحة والسراب وسيُلاحق كُلاً منهما ، تماماً كما حدث مع أهل ميلوس ، فعندما حاصرهم الأثينيون ولم يبقى أمامهم سوى ذل الاستسلام ... لم يفرقوا حينها بين الوهم والأمل .
صحيح أن الأثينيين كانوا متعجرفين مختالين بقدرتهم إلا إنهم كانوا واقعيين ... على عكس أهل ميلوس الذين اعتمدوا على غيرهم في أملهم ... فقُتلوا .
لأنه يا سيدي أحياناً يكون من الصعب مواجهة الواقع إذ أنه مرير لا يسهل تجرعه ، فنختار وهم الأمل لأنه أخف وطأة على أنفسنا ، أو لأنه محبب إلينا أكثر من الواقع .... لكنه يبقى وهماً لا يسمن ولا يغني من الجوع .
عندما تفتح مشروعاً تجارياً دون دراسة جدوى ، ويبدأ بالانهيار وتكبد الخسائر ، قد يُحدثك الأمل أنك الأمور ستصبح أجمل في المستقبل وأنك ستعوض تلك الخسائر ... لكن الأمنية شيء والحياة شيء آخر .
مهما لمع في عينيك الربح والأموال التي ستجنيها لا بُـدَّ أن تترك وهم الأمل خلف ظهرك وتعترف بالفشل وتغلق المشروع ، فعدم اتباعك المنطق في إنشاء المشروع (دراسة الجدوى) لن ينقذه وهم الأمل عند تكبد الخسائر .
فالأمل الحقيقي هو أن تدرس السوق وتنجح في الإنتاج والتسويق ثم تنتظر متأملاً الأرباح .
إن جُلَّ آلامنا التي تتخلخل حياتنا خلفها وهم الأمل ... في علاقاتنا الاجتماعية ، فالأزواج مثلاً قد تفشل حياتهم الأسرية ، إلا أنهم لا يختارون الطلاق حلاً ، بل يتعلقون في اكمال الحياة رغم كل ما فيها من سُمِّية على أمل أن الأمور ستتحسن يوماً ما ، فالاعتراف بالفشل والتقصير وسوء الفِعال أمر يتطلب شجاعة وطاقة نفسية ... لذا يختار الدماغ التعلل بالحجية الواهية ويستلطف بها عوضاً عن ذلك ... وعلى هذا قِس ما سواه من خيبات .
أحياناً يحول الوهم بينك وبين اتخاذك لخطوات حقيقية نحو الإنجاز ، فعندما يظن دماغك أنه من السهل القيام بهذا سيُؤخره لأجل غير مسمى وستقضي الأيام حالماً كأنك حققته وحصدت نتائجه .
وإليك هذه التجربة من كتاب اختبار المارشملو "The Marshmallow test" .
أتى علماء الأعصاب بمجموعتين من المتطوعين ، الأولى لديهم أهداف يظنون أنهم قادرين على تحقيقها لكن يؤجلون ذلك ، أو ليس لديهم أهداف أصلاً لكن يعتقدون أن حياتهم ستكون أجمل في قادم الأيام .
المجموعة الثانية لديهم أهداف ويسعون فعلياً لتحقيقها ولو بخطوات بسيطة .
طلب العلماء من كِلا المجموعتين أن يفكروا في أنفسهم الآن ، وفي أنفسهم في المستقبل ، ويفكروا أيضاً في شخص آخر مقرب إليهم ، وكانوا يراقبون أدمغتهم من خلال أشعة FMRI ليسجلوا حركة الدماغ وشكله .
المجموعة الأولى كان شكل أدمغتهم يختلف عند التفكير بحاضرهم عن شكله عند تفكيرهم بمستقبلهم ، لكن شكل تفكيرهم بالمستقبل يتشابه كلياً عند تفكيرهم بالشخص الآخر القريب منهم .
أما المجموعة الثانية كان شكل الدماغ عند التفكير في الحاضر يتشابه مع شكله عند التفكير في المستقبل ، ولكنه يختلف جذرياً عن شكله عند التفكير في الشخص الآخر .
وهذا يعني أن الأشخاص المتأملين وهماً والذين يخلو واقعهم من خطة واضحة لتحقيق الهدف يفصلون بين أنفسهم الآن وأنفسهم في المستقبل ، وكأن مستقبلهم شخص آخر لا يرتبط بما هم عليه الآن ... وهذا غير منطقي البتة ، فوهم الأمل يدعونا لتخيل الحياة وجمالها لو تحقق الهدف ... لكنه لن يدفعنا لأي شيء ملموس ولا لخطوات على ميدان الواقع .
بينما الذين بنو آمالهم المستقبلية على خطوات ملموسة اليوم يرون أنفسهم في المستقبل كجزء من أنفسهم اليوم ، وليس هناك ما لا يخضع للمنطق والتخطيط ... وهذا هو الأمل الحقيقي الذي يجب أن يدفعنا للتحرك.
لذا سيدي القارئ ... راقب دماغك .. قد يخدعك ويخلط لك الأمل بالوهم ، فإن دعاك أملك للتحرك بمنطقية وعقل نحو ما تريد ، فهذا أمل جدير بالاستناد عليه ، أما إن كان الأمل يزين لك الحياة مستقبلاً ويعِدُك بالنجاح دون أن يُقدم لك حجة منطقية أو خطوة ملموسة على أرض الواقع ... فهذا مجرد وهم سيُردي بك .. تماماً كما فعل بأهل ميلوس .
لا يوجد شيء اسمه "المستقبل" ... ففي كل ثانية تمر علينا نقتطع جزءاً من المستقبل ونجعله ماضياً ، هناك شيء اسمه الآن ... افعله الآن ... فكر به الآن ... واجه نفسك الآن ... خذ بيدها الآن نحو القرار الصائب ... فوهم الأمل يقول لك هناك مستقبل استرح الآن .
إن الحياة قاسية نصرت المتعجرفين من أهل أثينا على المظلومين من أهل ميلوس ... فلا تتأمل عدلها فهو وهم أيضاً .
لو كنت من أهل ميلوس لسلمت في بادئ الأمر لجيش أثينا ... ثم نظمت صفوفي وحلفائي لاسترداد استقلالي . (قديم بالحروب يا عزيزي 😛)