سيدي القارئ لنقم بتجربة .... تخيل أني جالس أمامك وطلبت منك متفضلاً أن تكتب حرف C على جبهتك ... تفضل قم بكتابته بإصبعك . ( اكتبه فضلاً ... سنحتاج نتيجة التجربة لاحقاً )
منذ القِدم كانت فرنسا تعتمد على التقويم الروماني لتوثيق التاريخ ، وهو تقويم تبدأ فيه السنة بشهر إبريل ، إلا أنه في عام 1582 أمر ملك فرنسا شارل التاسع باعتماد التقويم الميلادي عوضاً عنه ، والذي تكون فيه بداية السنة في شهر يناير .
ورغم صعوبة الفكرة وغرابتها في حينها إلا أنَّ جُـلَّ الناس تفهموها وتهيأوا للاحتفال برأس السنة قبل ثلاثة أشهر من الوقت الذي تعارفوا عليه ، بَـيدَ أنَّ بسطاء الناس ومحدودي الفكر والمنعزلين عن العالم لم يستوعبوا هذا التغير ، واحتفلوا ذلك العام برأس السنة في شهر إبريل .
فكان الناس يسمونهم "حمقى إبريل "، وأصبحوا هدفاً لمكائد وحيل الأكثر حظاً من الذكاء ، فمثلاً دخل رجل بلباس النبلاء إلى إحدى القرى الريفية التي تحتفل برأس السنة في شهر إبريل وقال لهم أن الملك سيعطي الذهب للفقراء عند باب قصره اليوم .
فتسابق أهل القرية جميعهم إلى القصر ، بينما الرجل النبيل كان مجرد لص كذاب نهب ممتلكات أهل القرية وهرب .
تغيير التقويم خَـلَـقَ تقليداً يُقام إلى اليوم في الكثير من دول العالم ، وهو "كذبة إبريل" ، إذ يكذب البعض ويصنع المقالب مزاحاً وتسلية في الأول من إبريل .
وفعلياً ... تنطلي هذه الأكاذيب على الكثير من الحمقى .
فمثلاً ... في عام 1957 نشرت الـ BBC البريطانية تقريراً مصوراً عن مزارع الاسباغتي في سويسرا ، حيث قالت أن السويسريين لا يصنعون الاسباغتي من الطحين ، بل إنهم يزرعونها كشجرة تثمر الاسباغتي على أغصانها .
ورغم أن هذه المعلومة بعيدة كل البعد عن المنطق والتصديق ، إلا أن بعض المشاهدين صدقوها ، وأرسلوا للقناة أسئلة حول كيفية زراعة أشجار الاسباغتي في بيوتهم !!!!
لترد عليهم القناة ساخرة من غبائهم " ضعوا الاسباغتي في علبة صلصة الطماطم واسقوها كل يوم بالماء " .
وأظن أننا يجب أن نسأل .... هل الكذابون أذكياء حقاً ؟
في تجربة ظريفة قام عالم النفس Kang Lee بإحضار ثلاثة مجاميع من الأطفال ، مجموعة بعمر سنتين ، وأخرى تبلغ 3 أعوام ، والأخيرة لهم من العمر 8 سنوات ، وكان يدخلهم في غرفة ويطلب منهم التعرف على الدمى المغطاة بالقماش من خلال الصوت أو الشكل ، وسيكون لهم جائزة إن تعرفوا عليها .
فمثلاً كان يخبئ دمية على شكل قطة تصدر مواءً (صوت القط) فيتعرف كل الأطفال عليها .
ثم يقدم لهم دمية على شكل سيارة إلا أنها تصدر صوت معزوفة الموسيقار بيتهوفن ، فيحتار الأطفال في ماهية اللعبة ... ويدركون أنهم قاب قوسين من خسارة الجائزة .
في هذه اللحظة يخرج المسؤول عن التجربة من الغرفة - المراقبة بالكاميرات - بحجة أنه يريد الإجابة على اتصال هاتفي ، فكان الأطفال يرفعون القماش لمعرفة ما هي اللعبة للإجابة على السؤال وأخذ الجائزة .
وعندما يعود المسؤول إلى الغرفة يسأل الأطفال "هل استرقتم النظر إلى اللعبة أثناء خروجي من الغرفة ؟" .
كان 30% من الأطفال بعمر سنتين يكذبون ، و 50% ممن بعمر 3 سنوات ، و 80% من ذو 8 سنوات .
الملفت في هذه التجربة أن الأطفال المخادعين بعمر سنتين أو ثلاثة سنوات كانوا يجيبون على سؤال ماهية اللعبة مباشرة ، وهذا يؤكد كذبهم ، بينما الأطفال في عمر 8 سنوات كانوا يحاولون إخفاء كذبهم وتضليل المسؤول عن التجربة .
فمثلاً .... أُعطيت طفلة لعبة الديناصور الصغير بارني Barney ، إلا أنها كانت تصدر صوت قطار ، وعندما اختلست نظرة سريعة لها ، وعاد المسؤول عن التجربة للغرفة وسألها عن الدمية ، طلبت منه أن تتلمس اللعبة من تحت القماش ، وأجابت بعدها أن الدمية هي بارني.
وعندما سألوها كيف عرفتي ذلك ؟ ، قالت أنها عندما لمستها شعرت أن لونها أرجواني !!! . (ربنا على المفتري يا شيخه 🤣)
الدراسة تشير بوضوح أن الأطفال كلما كبروا كلما زادت قابليتهم للكذب والخداع ، وذلك لأن قدراتهم العقلية تتطور وهي ركيزة الكذب الأساسية .
ومما أكد هذا الاستنتاج هو أن Kang Lee عندما اختبر ذكاء الأطفال وجد أن الذين كذبوا حصدوا على درجات أعلى في اختبار الذكاء ، وكانت مهاراتهم أفضل من أولئك الذين لم يكذبوا .
أي لا يمكن انكار أن الذكاء آلة قد تُستخدم للكذب والخداع .
والإنسان بطبيعته الاجتماعية والأنانية يستثمر الكذب في النجاح وأخذ الأشياء دون وجه حق ، أو يحاول تلميع صورته ودفع اللوم والتقصير عن نفسه ليكسب مكانة اجتماعية أفضل وما أشبه .
وفي دراسة لنابغة علم الأعصاب الدكتورة تالي شاروت Tali Sharot أجرت مسحاً FMRI على أدمغة بعض المعتلين اجتماعياً (سايكوباثيين) ، أثناء كذبهم وإخداعهم للآخرين ، وكانت النتيجة أن النواة المتكئة - وهي المنطقة المسؤولة عن النشوة عند الحصول على مكافأة - تتحفز عند الكذب ، وخاصة عند تصديق الآخرين لهم .
أي أن الكذب أمر يجعل الإنسان يشعر بالمتعة ، وهذا ما قد يقوده لإدمان الكذب .
ولأن النواة المتكئة تمنحنا إحساساً ممتعاً عند حصولنا على الطعام أو المال أو الجنس أو السمعة الجيدة ومدح الآخرين ، فالإنسان يتشجع أكثر على الكذب والخداع للحصول على هذه المكاسب .
وقد لاحظت الدكتورة شاروت أن اللوزة الدماغية تنشط أيضاً أثناء الكذب ، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة المشاعر ، أي أن الإنسان رغم شعوره بالمتعة جراء الكذب إلا أنه ينزعج عاطفياً لذلك ويشعر بنوع من الإجهاد ... سَمِّهِ إن شئت "تأنيب الضمير" .
بَـيدَ أنَّ السيدة شاروت أكدت أن اللوزة الدماغية تضعف تدريجياً مع كل كذبة يكذبها الإنسان ، حتى يصبح كذاباً بارعاً دون تأنيب .
وقد تظن سيدي القارئ أن مدمني الكذب يخدعون الناس وستقودهم أفعالهم إلى السجن ... وهذا صحيح ، ففي دراسة لعالم النفس والأعصاب السيد كنت كيهل Kent Kiehl ، أجرى فيها مسحاً على الكثير من المساجين الأمريكيين .
وكانت الحصيلة أن 16% من المساجين "سايكوباثيين" يدمنون الكذب ، وكانوا يستغلونه للخداع ، وانتهى بهم الأمر إلى السجن .
ولكن ... الصدمة كانت في دراسة لعالم النفس والأعصاب السيد نيثان بروك Nathan Brooks ، إذ درس فيها شخصيات أكثر من 260 مديراً تنفيذياً لشركات في قطاع التوريد في أمريكا ، وكانت النتيجة أن أكثر من 21% منهم لديهم خصائص سايكوباثية خطيرة ، كإدمان الكذب والخداع .
أي أن نسبة الكذابين في المناصب المرموقة أعلى من نسبة الكذابين في السجن !!!
وأظنك تدرك الآن كيفية حصولهم على ذلك ، ففطنتهم في الخداع والتملق وإبداء المشاعر المزيفة والكذب الذي يمتهنونه يقربهم من مبتغاهم .
وإن كنت يا سيدي القارئ موظفاً في دائرة حكومية أو شركة خاصة لا بُـدَّ أنك رأيت في حياتك المهنية زميلاً أو مسؤولاً معتلاً نفسياً ، همه نفسه ، يكذب من أجل مصلحته الشخصية ، ويفتري على الآخرين ليظهر بصورة حسنة ويقلل من شأنهم . ( بس لا تطلع واحد منهم وأنا شاخلك طول المقال 😜)
وبتلميعه صورة نفسه والسعي وراء مصلحته دون الالتفات لمشاعر الآخرين عادة ما يترقى في العمل وقد يصبح مديراً ، فالشركات الحديثة غالباً ما تهتم بالإنجاز وليس بمشاعر موظفيها .
لكن ... في حقيقة الأمر اتقانهم للكذب ذكاء زائف وفيه حماقة كبيرة في ذات الوقت ، فاستثمار الكذاب لطاقته الدماغية في الكذب والوصول إلى المناصب العليا لا يعني بالضرورة نجاحه فيها .
ففي دراسة مشتركة بين جامعة Denver وجامعة Berkeley قارنوا فيها الخصائص الشخصية للمدراء التنفيذين في شركات صناديق الاستثمار ، وعوائدهم المالية ونجاح شركاتهم من سنة 2005 إلى 2015 م .
وأكدت الدراسة أن المدراء الذين يمتلكون شخصيات معتلة تميل للكذب والخداع حققوا عوائد أقل بكثير من المدراء المتواضعين والصادقين .
ولو كنت مطلعاً على أخبار الاقتصاد ستتذكر أن الأزمة العالمية عام 2008 م حدثت بسبب تلاعب بعض مديرين الشركات بالبيانات ، واخفائهم للحقائق ، كما هو الحال مع مدراء بنك ليمان براذرز الأمريكي ، وهذا ما قادهم للإفلاس .
هذه الدراسة تجيب على أمر مهم جداً وهي أن الكذابين في الحقيقة ليسوا أذكياء ، بل هم حمقى ... وحمقى جداً ، فهم يمتلكون طاقة دماغية رائعة ، لكنهم لم يحسنوا التصرف بها .
فعوضاً عن بذلها في النجاح الحقيقي وحصد مدح هم أهلاً له ... بعثروا ذكاءهم على الأكاذيب والخداع .
الأمر أشبه - كما تقول السيدة تالي شاروت في إحدى محاضراتها - بأن تمتلك مليون دولار وعوضاً عن إنشاء شركة تحقق لك الأرباح ، تشتري بها سيارة فارهة لتتباهى بها وتجذب الناس إليك وجيبك مفلس .
لنعد إلى حرف C ... هل رسمته على جبهتك ؟
في أي اتجاه رسمته ؟ متجهاً إلى يمينك أم شمالك ؟
في دراسة إحصائية ... وجد الباحثين أن غالبية الأشخاص الذين يرسمون الحرف متجهاً إلى يمين جبهتهم لا يتعاطفون مع الآخرين ، ويميلون إلى الكذب والخداع .
بينما الذين رسموه نحو اليسار عادة ما يميلون إلى التعاطف والصدق .
وطبعاً ليس كل من رسمه إلى اليمين كذاب .... لكن "إحصائياً" قد يميل إلى الكذب أكثر . ( إذا رد زوجج البيت متأخر قولي له ارسم حرف C ... واسأليه ليش تأخرت ... أنا ياي أهدي النفوس 😜)
وسواء رسمته يميناً أم شمالاً ... تفكر في نفسك ، هل أنت ممن يصرف طاقته الدماغية في غير محلها ، وتذكر أن في كل مرة تكذب بها ستكون كذبتك خطوة نحو الانحدار الأخلاقي ، وسيتلاشى شيء من ضميرك ... إلى أن ينعدم .
بينما أنت تمتلك من الذكاء ما يخولك لتحقيق النجاح الحقيقي .... إذن قم بإنجازه فعلاً ، وابذل ذكاءك في مكانه الصحيح .