Blog Layout

من المجرم ستيف أم الذاكرة ؟

سيدي القارئ ...
الحروف ( c , i , a ) من أكثر الحروف اللغة الإنجليزية استخداماً . ( مجرد معلومة )
في عام 1980 خرجت فتاة من مطار واشنطن ، باحثة عن سيارة تقلها إلى المنزل ، فتوقفت لها سيارة زرقاء ، وأخذها السائق ولكن عوضاً عن إيصالها للمنزل ، توجه بها إلى الميناء ، ثم قام باغتصابها وفَـرَّ هارباً .
الشرطة فتَّـشت المنطقة بحثاً عن الجاني ، وقبضت على عدد من المشتبه بهم ، وكان من ضمنهم "ستيف تيتوس" ، وهو شاب في الثلاثينات من عمره يدير مطعماً ، ويمتلك سيارة زرقاء ، وكان من المقرر أن يتزوج بعد أيام من خطيبته التي يحبها .
عندما عرضت الشرطة صورة المشتبه بهم على الضحية ، أشارت إلى ستيف وقالت "هذا هو الأقرب" ، إلا أنها عندما واجهته وجهاً لوجه في قاعة المحكمة قالت للقاضي : نعم بكل تأكيد هذا هو المجرم أتذكره جيداً ، وهذه هي سيارته .
ستيف كان يؤكد للقاضي أنه بريء ، وأنه لا يريد اغتصاب أي فتاة فهو على أعتاب الزواج ، إلا أن ذلك لم يشفع له ، فقد حُكم عليه بالسجن 10 سنوات عقوبة على جريمته النكراء .
سُجن ستيف وخسر وظيفته وخطيبته ... لكنه كان مصراً على براءته ، لذا طلب من أحد الصحفيين التحقيق في قضيته وإحقاق الحق .
ورغم أن كل الأدلة - وأهمها ذاكرة الضحية - تشير إلى إدانته ، إلا أن الصحفي بدأ بالتحري ، وبعد ثلاثة أشهر من البحث تبين له براءة ستيف واكتشف الجاني الحقيقي .
حكم القاضي ببراءة ستيف ... فخرج من السجن وفي قلبه حقد يملأ الأرض على الذين انتزعوا منه وظيفته وخطيبته وسمعته وأشهراً من حياته خلف القضبان ، ليرفع قضية تعويض ضد الضحية والشرطة والقاضي .
إلا أنه قبل جلسة المحاكمة بثلاثة أيام مات ستيف بسبب الضغط النفسي ، أو إن الصح التعبير "مات قهراً" ...
الضحية كانت متأكدة من ذكرياتها وملامح ستيف وسيارته ، لكنه بريء ، فأين هي الحقيقة ؟!
تدخلت عالمة النفس الدكتورة إليزابيث لوفتوس Elizabeth Loftus ووضحت للقاضي أن الضحية "تَـكَـوَّنَ في دماغها ذكريات مغلوطة" ، ورغم اعتقادها التام أنها حدثت فعلاً إلا أنها لم تكن حقيقية .
وستيف لم يكن الوحيد .... أشارت دراسة أمريكية جمعت معلومات 300 متهم سُجنوا لمدة تتراوح من 10 إلى 30 سنة ، ثم أُثبتت براءتهم من خلال فحص الـ DNA ، أن غالبية المتهمين كانوا ضحايا ذكريات مزيفة من شهود عيان ظنوا أن ذكرياتهم حقيقية .
نعم سيدي القارئ ... قد نتذكر أشياء وكأنها حصلت معنا إلا أنها محض خيال من أدمغتنا ، وقد دفع ستيف حياته ثمناً لمثل هذه الذكريات المزيفة .
إن ذاكرة الإنسان قابلة للتشويه والتزييف ، وكما تقول السيدة إليزابيث إنها أشبه بصفحة في ويكيبيديا تقوم أنت بكتابتها ، إلا أن الآخرين من الممكن أن يدخلوا عليها فيغيروها .
قامت الدكتورة إليزابيث بدراسة حول أثر اللغة على تزييف الذكريات ، وعرضت على 100 طالب فيديو لحادث سير بين سيارتين ، ثم سألت 50 طالباً ما هي السرعة التي تتوقعها عندما "اصطدمت hit" السيارتين ببعض ؟
وسألت الـ50 الآخرين ما هي السرعة التي تخمنها عندما "حطمت السيارات بعضها البعض Smashed" ؟
إن اختلاف مفردات السؤال أثر على أجوبة المجموعتين ، فمجموعة "اصطدمت" كان متوسط السرعة هو 34 ميل ، بينما مجموعة "حطمت" - ولأنها كلمة ذات معنى أقوى - كان متوسط السرعة هو 40.8 ميل ... وهذا أمر متوقع فاللغة تؤثر على تفكيرنا ، لكن الأمر الغير متوقع هو تَكوِّن الذكريات المزيفة .
سألت الدكتورة إليزابيث جميع الطلاب هل تتذكرون الزجاج الذي وقع على الأرض جراء الحادث ؟ - وفي الحقيقة لم يكن هناك أي زجاج في الفيديو - .
16 طالباً من أصل 50 في مجموعة "تحطمت" تكَوَّنت في أدمغتهم ذكريات خاطئة وقالوا أنهم رأوا الزجاج الواقع على الأرض ، وكانوا يصفون بدقة مكان سقوط الزجاج في الفيديو ... والذي يخلو منه أصلاً !!
فقط تغيير صيغة السؤال شَوَّهَ تفكير المتطوعين للتجربة ، وأنشأ ذكريات مزيفة !!!! هذا أمر صادم حقاً .
وفي دراسة لبروفيسورة علم النفس جنيفر تلاريكو Jennifer Talaricoأجرتها بعد يومين من أحداث 11 سبتمبر وانهيار برجي التجارة العالمية ، سألت 54 طالباً ماذا كانوا يفعلون في الليلة التي سبقت الأحداث ؟ وفي يوم الحدث من أين عرفوا الخبر وماذا فعلوا في حينها ؟
وبعد أكثر من سبعة أشهر أعادت الأسئلة على الطلاب حول هذا الحدث الذي يُعتبر الأهم في حياة الأمريكيين في القرن الـ21 ، وكان غالبية الطلاب يقولون أنهم نسوا ماذا فعلوا في الليلة التي سبقت الأحداث ، لكنهم يتذكرون الانفجار والخبر وكأنه حصل بالأمس ... يتذكرونه جيداً بمعظم تفاصيله .
وعندما سألتهم إلى أي مدى تثقون بذاكرتكم والتفاصيل التي تروونها ؟ كانوا يؤكدون على ثقتهم التامة في ذاكرتهم .
لكنها ثقة لم تكن في محلها ... فبعد الإجابة تبين أن أكثر من 40% من ذكرياتهم كانت مشوهة وغير صحيحة وتزيَّفت.
أي أن الطلاب نسوا الذكريات الغير مهمة ، أما ذكريات الحدث فقد تشوهت وتزيفت ، رغم أنهم واثقين منها ويتذكرونها جيداً .
والذكريات المزيفة ليست ذكريات حقيقية يتم تحريفها بعض الشيء فقط ، بل قد تكون ذكريات خُلقت من العدم .
في دراسة للدكتورة إليزابيث أحضرت مجموعة من المتطوعين كي تزرع فيهم ذاكرة مزيفة لم تحدث قط ، وكان ذلك بتنسيق ومساعدة من أمهات المتطوعين لكن دون علمهم .
قيل للمتطوعين أنهم عندما كانوا في عمر 6 سنوات تاهوا في أحد المجمعات الكبيرة ، وبدأوا بالبكاء ، فأخذهم رجل مسن وأعادهم إلى والدتهم ، وكانت أمهات المتطوعين يخدعون أبناءهم ويؤكدون هذه الحادثة .
25% من المتطوعين تكونت في أدمغتهم ذاكرة مزيفة ورووا بعض تفاصيل الحادثة وما يتذكرونه عنها ، رغم أنها مجرد خيال لم يحدث أصلاً .
أي قليل من المعلومات المضللة من شخص مقرب خلقت ذاكرة زائفة في أدمغة المتطوعين .
وفي دراسة أخرى وضعت السيدة إليزابيث الكثير من الإعلانات لديزني لاند في إحدى جامعات كاليفورنيا ، وكانت الإعلانات تحمل صور ميكي ماوس والأرنب Bugs Bunny ، وبعد أسبوعين من عرض الإعلانات سألت بعض الطلبة الذين زاروا ديزني لاند السنة الماضية هل استمتعتم بديزني لاند ؟ هل رأيتم ميكي ماوس ؟ هل رأيتم الأرنب ؟
33% من الطلبة تذكروا رؤيتهم لميكي ماوس والأرنب Bugs Bunny ، وهذه حتماً ذاكرة مزيفة فالأرنب من إنتاج شركة Warner Brothers وليس شركة ديزني .
هل لاحظت ؟ معلومة مضلل تم تكرار عرضها كثيراً زرعت ذاكرة مزيفة في أذهان الطلاب .
والذاكرة المزيفة لا تنحصر على الأشياء المعقولة ، ففي إحدى الدراسات زرعت الدكتورة إليزابيث ذاكرة زائفة في أذهان المتطوعين وتذكروا أنهم قاموا بتقبيل ضفدع !! .
وأظن سيدي القارئ أنك مررت يوماً بموقف قلت فيه معلومة تتذكرها جيداً ، ثم نبهك الآخرون أن المعلومة مشوشة قليلاً أو خاطئة ، فمثلاً ما دعاني لكتابة هذا المقال أن صديقاً سألني عن سيارتي ولماذا بدلت لونها الذهبي بالأبيض ؟ ، رغم أن سيارتي بيضاء اللون منذ ساعة تصنيعها ، إلا أن دماغه كان يتذكر جيداً أنه رآني عدة مرات في سيارة ذهبية!!!
الذكريات - سواء المزيفة أو الحقيقية - لا تقف على أنها مجرد أحداث تدور في الدماغ ، بل إن لها أثر على سلوكنا ، فتذكرك لما يؤذيك يجعلك تبتعد عنه أو تكرهه .
وعندما خُلقت ذاكرة مزيفة في أذهان البعض على أنهم مرضوا عندما كانوا صغاراً بسبب تناولهم مثلجات الفراولة أو البيض المسلوق ، تأثر سلوكهم وأصبحوا أقل رغبة في تناول تلك الأطعمة .
وعندما زُرعت ذاكرة مزيفة في أدمغة بعض المراهقين على أنهم عندما كانوا صغاراً كانوا يضعون نبات الهليون معهم في السرير حباً ، زاد ذلك من اقبال المراهقين على أكله ، رغم أنه وجبة غير مفضلة لدى الغالبية .
هذه الدراسات والثورة المعلوماتية التي جاءت بها السيدة إليزابيث من شأنها أن تعيد تفكيرنا في الاعتماد على الذاكرة والاعتداد بها ، خاصة في الأمور المفصلية كالقضاء والأحكام الجزائية .
وهذه المعلومات تجعلك أكثر انفتاحاً وتقبلاً لرفض الآخرين للذكريات التي تقولها وتستند إليها في نقاشاتك .
وربما ينتفع بعض الآباء من هذه الاستراتيجية ويزرعوا ذكريات زائفة في أذهان أبنائهم الصغار تُقوِّم سلوكهم ، كزراعة ذكرى مزيفة لموقف يُكرِّهم في السكريات إن كان الأطفال يعانون من السمنة مثلاً .
الآن ... لنعد إلى المعلومة التي افتتحت بها المقال .
هل تتذكر الحروف الثلاثة ( e , i , a ) التي كتبتها ؟ برأيك لماذا هي أكثر الحروف استخداماً ؟
نعم هي أكثر الحروف استخداماً لأنها حروف المد ، أو كما تُسمى بالإنجليزية vowel Letters .
لكن بالمناسبة ... أنا كنت قد كتبت c ولم أكتب e .
فهل تشكلت في عقلك ذاكرة مزيفة أوحت لك أني كتبت e أم أنك من 70% الذين لن تنطلي عليهم هذه الحيلة ؟

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بقية المقالات
Share by: