سيدي القارئ ...
الحروف ( c , i , a ) من أكثر الحروف اللغة الإنجليزية استخداماً . ( مجرد معلومة )
في عام 1980 خرجت فتاة من مطار واشنطن ، باحثة عن سيارة تقلها إلى المنزل ، فتوقفت لها سيارة زرقاء ، وأخذها السائق ولكن عوضاً عن إيصالها للمنزل ، توجه بها إلى الميناء ، ثم قام باغتصابها وفَـرَّ هارباً .
الشرطة فتَّـشت المنطقة بحثاً عن الجاني ، وقبضت على عدد من المشتبه بهم ، وكان من ضمنهم "ستيف تيتوس" ، وهو شاب في الثلاثينات من عمره يدير مطعماً ، ويمتلك سيارة زرقاء ، وكان من المقرر أن يتزوج بعد أيام من خطيبته التي يحبها .
عندما عرضت الشرطة صورة المشتبه بهم على الضحية ، أشارت إلى ستيف وقالت "هذا هو الأقرب" ، إلا أنها عندما واجهته وجهاً لوجه في قاعة المحكمة قالت للقاضي : نعم بكل تأكيد هذا هو المجرم أتذكره جيداً ، وهذه هي سيارته .
ستيف كان يؤكد للقاضي أنه بريء ، وأنه لا يريد اغتصاب أي فتاة فهو على أعتاب الزواج ، إلا أن ذلك لم يشفع له ، فقد حُكم عليه بالسجن 10 سنوات عقوبة على جريمته النكراء .
سُجن ستيف وخسر وظيفته وخطيبته ... لكنه كان مصراً على براءته ، لذا طلب من أحد الصحفيين التحقيق في قضيته وإحقاق الحق .
ورغم أن كل الأدلة - وأهمها ذاكرة الضحية - تشير إلى إدانته ، إلا أن الصحفي بدأ بالتحري ، وبعد ثلاثة أشهر من البحث تبين له براءة ستيف واكتشف الجاني الحقيقي .
حكم القاضي ببراءة ستيف ... فخرج من السجن وفي قلبه حقد يملأ الأرض على الذين انتزعوا منه وظيفته وخطيبته وسمعته وأشهراً من حياته خلف القضبان ، ليرفع قضية تعويض ضد الضحية والشرطة والقاضي .
إلا أنه قبل جلسة المحاكمة بثلاثة أيام مات ستيف بسبب الضغط النفسي ، أو إن الصح التعبير "مات قهراً" ...
الضحية كانت متأكدة من ذكرياتها وملامح ستيف وسيارته ، لكنه بريء ، فأين هي الحقيقة ؟!
تدخلت عالمة النفس الدكتورة إليزابيث لوفتوس Elizabeth Loftus ووضحت للقاضي أن الضحية "تَـكَـوَّنَ في دماغها ذكريات مغلوطة" ، ورغم اعتقادها التام أنها حدثت فعلاً إلا أنها لم تكن حقيقية .
وستيف لم يكن الوحيد .... أشارت دراسة أمريكية جمعت معلومات 300 متهم سُجنوا لمدة تتراوح من 10 إلى 30 سنة ، ثم أُثبتت براءتهم من خلال فحص الـ DNA ، أن غالبية المتهمين كانوا ضحايا ذكريات مزيفة من شهود عيان ظنوا أن ذكرياتهم حقيقية .
نعم سيدي القارئ ... قد نتذكر أشياء وكأنها حصلت معنا إلا أنها محض خيال من أدمغتنا ، وقد دفع ستيف حياته ثمناً لمثل هذه الذكريات المزيفة .
إن ذاكرة الإنسان قابلة للتشويه والتزييف ، وكما تقول السيدة إليزابيث إنها أشبه بصفحة في ويكيبيديا تقوم أنت بكتابتها ، إلا أن الآخرين من الممكن أن يدخلوا عليها فيغيروها .
قامت الدكتورة إليزابيث بدراسة حول أثر اللغة على تزييف الذكريات ، وعرضت على 100 طالب فيديو لحادث سير بين سيارتين ، ثم سألت 50 طالباً ما هي السرعة التي تتوقعها عندما "اصطدمت hit" السيارتين ببعض ؟
وسألت الـ50 الآخرين ما هي السرعة التي تخمنها عندما "حطمت السيارات بعضها البعض Smashed" ؟
إن اختلاف مفردات السؤال أثر على أجوبة المجموعتين ، فمجموعة "اصطدمت" كان متوسط السرعة هو 34 ميل ، بينما مجموعة "حطمت" - ولأنها كلمة ذات معنى أقوى - كان متوسط السرعة هو 40.8 ميل ... وهذا أمر متوقع فاللغة تؤثر على تفكيرنا ، لكن الأمر الغير متوقع هو تَكوِّن الذكريات المزيفة .
سألت الدكتورة إليزابيث جميع الطلاب هل تتذكرون الزجاج الذي وقع على الأرض جراء الحادث ؟ - وفي الحقيقة لم يكن هناك أي زجاج في الفيديو - .
16 طالباً من أصل 50 في مجموعة "تحطمت" تكَوَّنت في أدمغتهم ذكريات خاطئة وقالوا أنهم رأوا الزجاج الواقع على الأرض ، وكانوا يصفون بدقة مكان سقوط الزجاج في الفيديو ... والذي يخلو منه أصلاً !!
فقط تغيير صيغة السؤال شَوَّهَ تفكير المتطوعين للتجربة ، وأنشأ ذكريات مزيفة !!!! هذا أمر صادم حقاً .
وفي دراسة لبروفيسورة علم النفس جنيفر تلاريكو Jennifer Talaricoأجرتها بعد يومين من أحداث 11 سبتمبر وانهيار برجي التجارة العالمية ، سألت 54 طالباً ماذا كانوا يفعلون في الليلة التي سبقت الأحداث ؟ وفي يوم الحدث من أين عرفوا الخبر وماذا فعلوا في حينها ؟
وبعد أكثر من سبعة أشهر أعادت الأسئلة على الطلاب حول هذا الحدث الذي يُعتبر الأهم في حياة الأمريكيين في القرن الـ21 ، وكان غالبية الطلاب يقولون أنهم نسوا ماذا فعلوا في الليلة التي سبقت الأحداث ، لكنهم يتذكرون الانفجار والخبر وكأنه حصل بالأمس ... يتذكرونه جيداً بمعظم تفاصيله .
وعندما سألتهم إلى أي مدى تثقون بذاكرتكم والتفاصيل التي تروونها ؟ كانوا يؤكدون على ثقتهم التامة في ذاكرتهم .
لكنها ثقة لم تكن في محلها ... فبعد الإجابة تبين أن أكثر من 40% من ذكرياتهم كانت مشوهة وغير صحيحة وتزيَّفت.
أي أن الطلاب نسوا الذكريات الغير مهمة ، أما ذكريات الحدث فقد تشوهت وتزيفت ، رغم أنهم واثقين منها ويتذكرونها جيداً .
والذكريات المزيفة ليست ذكريات حقيقية يتم تحريفها بعض الشيء فقط ، بل قد تكون ذكريات خُلقت من العدم .
في دراسة للدكتورة إليزابيث أحضرت مجموعة من المتطوعين كي تزرع فيهم ذاكرة مزيفة لم تحدث قط ، وكان ذلك بتنسيق ومساعدة من أمهات المتطوعين لكن دون علمهم .
قيل للمتطوعين أنهم عندما كانوا في عمر 6 سنوات تاهوا في أحد المجمعات الكبيرة ، وبدأوا بالبكاء ، فأخذهم رجل مسن وأعادهم إلى والدتهم ، وكانت أمهات المتطوعين يخدعون أبناءهم ويؤكدون هذه الحادثة .
25% من المتطوعين تكونت في أدمغتهم ذاكرة مزيفة ورووا بعض تفاصيل الحادثة وما يتذكرونه عنها ، رغم أنها مجرد خيال لم يحدث أصلاً .
أي قليل من المعلومات المضللة من شخص مقرب خلقت ذاكرة زائفة في أدمغة المتطوعين .
وفي دراسة أخرى وضعت السيدة إليزابيث الكثير من الإعلانات لديزني لاند في إحدى جامعات كاليفورنيا ، وكانت الإعلانات تحمل صور ميكي ماوس والأرنب Bugs Bunny ، وبعد أسبوعين من عرض الإعلانات سألت بعض الطلبة الذين زاروا ديزني لاند السنة الماضية هل استمتعتم بديزني لاند ؟ هل رأيتم ميكي ماوس ؟ هل رأيتم الأرنب ؟
33% من الطلبة تذكروا رؤيتهم لميكي ماوس والأرنب Bugs Bunny ، وهذه حتماً ذاكرة مزيفة فالأرنب من إنتاج شركة Warner Brothers وليس شركة ديزني .
هل لاحظت ؟ معلومة مضلل تم تكرار عرضها كثيراً زرعت ذاكرة مزيفة في أذهان الطلاب .
والذاكرة المزيفة لا تنحصر على الأشياء المعقولة ، ففي إحدى الدراسات زرعت الدكتورة إليزابيث ذاكرة زائفة في أذهان المتطوعين وتذكروا أنهم قاموا بتقبيل ضفدع !! .
وأظن سيدي القارئ أنك مررت يوماً بموقف قلت فيه معلومة تتذكرها جيداً ، ثم نبهك الآخرون أن المعلومة مشوشة قليلاً أو خاطئة ، فمثلاً ما دعاني لكتابة هذا المقال أن صديقاً سألني عن سيارتي ولماذا بدلت لونها الذهبي بالأبيض ؟ ، رغم أن سيارتي بيضاء اللون منذ ساعة تصنيعها ، إلا أن دماغه كان يتذكر جيداً أنه رآني عدة مرات في سيارة ذهبية!!!
الذكريات - سواء المزيفة أو الحقيقية - لا تقف على أنها مجرد أحداث تدور في الدماغ ، بل إن لها أثر على سلوكنا ، فتذكرك لما يؤذيك يجعلك تبتعد عنه أو تكرهه .
وعندما خُلقت ذاكرة مزيفة في أذهان البعض على أنهم مرضوا عندما كانوا صغاراً بسبب تناولهم مثلجات الفراولة أو البيض المسلوق ، تأثر سلوكهم وأصبحوا أقل رغبة في تناول تلك الأطعمة .
وعندما زُرعت ذاكرة مزيفة في أدمغة بعض المراهقين على أنهم عندما كانوا صغاراً كانوا يضعون نبات الهليون معهم في السرير حباً ، زاد ذلك من اقبال المراهقين على أكله ، رغم أنه وجبة غير مفضلة لدى الغالبية .
هذه الدراسات والثورة المعلوماتية التي جاءت بها السيدة إليزابيث من شأنها أن تعيد تفكيرنا في الاعتماد على الذاكرة والاعتداد بها ، خاصة في الأمور المفصلية كالقضاء والأحكام الجزائية .
وهذه المعلومات تجعلك أكثر انفتاحاً وتقبلاً لرفض الآخرين للذكريات التي تقولها وتستند إليها في نقاشاتك .
وربما ينتفع بعض الآباء من هذه الاستراتيجية ويزرعوا ذكريات زائفة في أذهان أبنائهم الصغار تُقوِّم سلوكهم ، كزراعة ذكرى مزيفة لموقف يُكرِّهم في السكريات إن كان الأطفال يعانون من السمنة مثلاً .
الآن ... لنعد إلى المعلومة التي افتتحت بها المقال .
هل تتذكر الحروف الثلاثة ( e , i , a ) التي كتبتها ؟ برأيك لماذا هي أكثر الحروف استخداماً ؟
نعم هي أكثر الحروف استخداماً لأنها حروف المد ، أو كما تُسمى بالإنجليزية vowel Letters .
لكن بالمناسبة ... أنا كنت قد كتبت c ولم أكتب e .
فهل تشكلت في عقلك ذاكرة مزيفة أوحت لك أني كتبت e أم أنك من 70% الذين لن تنطلي عليهم هذه الحيلة ؟