يقول نيلسون روكفلر - والذي شغل وظيفة نائب الرئيس الأمريكي عام 1974م - إنه عندما كان يطلب من والده الملياردير جون روكفلر مالاً ، لم يكن يعطيه إياه مباشرة ، بل كان يُكـلِّفه بعدة مهام مقابل ذلك .
فيطلب منه مثلاً تنظيف الحديقة ، أو ترتيب العُلِّية ، أو الذهاب مشياً لشراء بعض الحاجات للمنزل ، أي أنه كان يتصبب عرقاً لكسب المال .
"جون روكفلر" من أغنى أغنياء أمريكا ، وباستطاعته إعطاء المال لولده دون أن يُرهقه ، إلا أنه كان يقول إن تصرفه سيشرح لابنه قيمة المال ويُعرِّفَهُ كيفية اكتسابه .
وأعتقد أن السيد جون كان محقاً في فلسفته التربوية ... فنظرتنا للمال وتحديدنا لقيمته في أنفسنا تختلف وفقاً لآلية كسبنا إياه .
إن المال الذي حصلت عليه بسهولة أو بالصدفة لن يكون عزيزاً جداً على قلبك ، وغالباً ما ستصرفه على الكماليات أو توافه الأمور ، بينما المال الذي كسبته لقاء تعب وشقاء سيكون غالياً على نفسك ، ومن المرجح أنك ستصرفه على أمر ضروري عندك أو له قيمة ومنفعة حقيقية .
وهذا ما يُسميه دكتور الاقتصاد السلوكي الحاصل على جائزة نوبل ريتشارد ثالر بـ "المحاسبة العقلية" .
إليك هذا المثال ...
لنفرض أنك وجدت مبلغ 20 دينار على الأرض وقررت انفاقها... على ماذا ستصرفها ؟ (فَـكِّـر في الجواب)
مهلاً ... ماذا لو كانت الـ20 هي أجرك اليومي الذي حصلت عليه مقابل حرث الأرض باستخدام المعدات الثقيلة لمدة 10 ساعات ، هل ستصرفها على نفس الأمر ؟
غالباً سيكون الجواب لا .. قيمة الشيء في نفسك مقرونة بمدى تعبك للظفر به .
أقام مجموعة من الباحثين في جامعة ستوكهولم السويدية دراسة على 3362 شخص ربحوا قرعة اليانصيب ونالوا أموالاً طائلة - دون تعب - ، وامتدت الدراسة إلى 22 سنة بعد ربح الجائزة .
كثير من الرابحين كانوا يصرفون أموالهم على تعاطي المخدرات ، أو يشترون بها أشياء تفوق منفعتُـها سعرَها ، كهاتف مصنوع من الذهب مثلاً .
ولك أن تصدق أن أكثر من نصف الرابحين انتهى بهم الأمر إلى إعلان إفلاسهم !!
وهذا أمر متوقع ، فليس للمال قيمة عليا في أنفسهم ، إذ كسبوه دون كدح أو نَصب ، فأضاعوه بغباء وصرفوه ببذخ.
والأمر لا يتعلق بالمال فقط ، فكل شيء تحصل عليه بعد تعب وشقاء سيكون قيماً عندك .. إنه قانون الدماغ .
فمثلاً لو كنت أباً - أو كنتِ أماً - وكان طفلك لا يُحافظ على ألعابه ويقوم بتكسيرها بلا مبالاة ، اطلب منه في المرة القادمة التي يريد بها لعبة أن يقوم بعدة أشياء بالمقابل ، كأن يكنس المنزل أو يرتب المطبخ ... ارهقه واجعله يتقاطر عرقاً لكسبها ، وإني أُأكد لك أنه سيحافظ عليها بشكل أفضل هذه المرة . ( وإذا كسرها قَطِّع العقال على ظهره والأمور راح تضبط بعدها 😜)
إذن الدماغ لا ينظر لممتلكاتنا كعدد ، بل ينظر لها "كيف جاءت" .
أضف لذلك أن أدمغتنا أشبه بالبنك الذي يُقسِّم الأموال لعدة أرصدة وحسابات مختلفة ، فيودع بعض المال للطعام وبعضاً للترفيه وفاتورة الهاتف والوقود والادخار .... إلخ .
ومما أكدته التجارب أن الدماغ يتساهل بعض الشيء في تبذير الأموال التي لا تقع ضمن أي حساب أو تصنيف .
فمثلاً لو كنت خصصت مبلغ 40 دينار لتشتري فيها حذاءً قد رأيته قبل أيام ، وعند دخولك للمحل اكتشفت أن هناك تنزيلات رائعة وأصبح سعر الحذاء 20 دينار فقط ، سيكون لديك 20 متبقية لا تدخل في أي حساب .
دماغك هنا سيكون بين خيارين ... إما أن يُحسن التفكير ويبدأ ضرب الأخماس في الأسداس ليعرف أين سيستثمرها ، أو يقول لك بكل بساطة "هيا اصرفها على ما هو أمامك الآن واشتر حذاءً آخراً واستغل التنزيلات" .
والدماغ كسول في طبعه ولا يُحبذ صرف طاقة ذهنية على التفكير العميق ، وسيختار أسهل الطرق وستنفق الـ20 الأخرى على أشياء لم تخطط لها أصلاً أو لست في حاجتها .
لنقم معاً بتجربة ....
لنفرض أنك ذهبت وحدك إلى السينما لتتمتع بمشاهدة فيلم ما . ( 😢 ايييييييه سينما ها ... طشرنا الوقت مو كنا ملمومين يا كورونا )
وفي طريقك للسينما وقعت من جيبك دون علمك 3 دنانير ، وعند وصولك إلى السينما اكتشفت ذلك ... فهل ستشتري تذكرة لدخول الفيلم بـ3 دنانير ؟ ( فَكِّر في الجواب )
الآن ... إليك هذه الفرضية الجديدة .
لنفرض أنك في يوم ما اشتريت تذكرة لدخول السينما بـ3 دنانير ، وقبل العرض بساعة أضعت التذكرة ولم تحتفظ بالفاتورة ... فهل ستدفع 3 دنانير أخرى وتشتري تذكرة جديدة لدخول الفيلم ؟ ( فَـكِّـر في الجواب )
أجرى علماء من جامعة Yale هذه التجربة ، وكانت النتيجة أن 46% فقط ممن فقدوا التذكرة قرروا شراء تذكرة جديدة ، بينما 88% ممن أضاعوا المال في الطريق قرروا شراء تذكرة .
في الحالتين كانت الخسارة (3 دنانير) إلا أن القرار كان مختلفاً ... أمر غريب أ ليس كذلك ؟
أنت في المرة الأولى خسرت 3 دنانير لم يخصصها بنك دماغك بعد لحساب السينما ، لكنك في الفرضية الأخرى دفعت وخصصت 3 دنانير لحساب السينما ، وبنك دماغك قد يرفض إضافة 3 أخرى لهذا الحساب ، ولن يدفع 6 دنانير لتتمتع بأمر قيمته 3 دنانير فقط .
نعم إن أدمغتنا عبيطة بعض الشيء في محاسبتها العقلية ( العلم يقول مش أنا 😁 )
وإن كنت لا تصدق ذلك ... إليك السؤال التالي .
لو قررت شراء بعض الحاجات من البقالة ، فهل سيكون هناك فرق في مشترياتك بين دفعك نقداً وبين استخدامك البطاقة البنكية ؟ ( خذ نفساً عميقاً وفَـكِّـر )
أجرى دكتور علم النفس الاجتماعي السيد كاري موريويدج Carey Morewedge دراسةً ، وفحص إيصالات فواتير الأشخاص الخارجين من متجر البقالة ، وكان متوسط فاتورة الذين دفعوا نقداً ($6.65) بينما الأشخاص الذين دفعوا بالبطاقة البنكية ($11.45) .
فهل من قبيل الصدفة أن يشتري من استخدموا البطاقة البنكية أكثر ويدفعوا المزيد ؟
في دراسة أخرى لبروفيسور السلوك الاقتصادي السيد Manoj Thomas تفحص فيها سجلات الدفع في أحد متاجر التجزئة الكبيرة ، فوجد أن الذين يستخدمون البطاقات البنكية لدفع المشتريات يميلون إلى الانفاق باندفاع أكثر مقارنة بأولئك الذين يدفعون نقداً .
أما أولئك الذين يستخدمون البطاقات الائتمانية – والتي تحتوي على أموال البنك وسيتم خصمها منك لاحقاً – كانوا شديدي الاندفاع مقارنة بغيرهم ، وكَـأنَّ أموال البنك مالٌ سائب لن يتم خصمه منك مستقبلاً 😕 !!! . ( جلد مو جلدك جِرَّه على الشوك )
أي كأن الدماغ صَـنَّـفَ أموال القرض أو البطاقة الائتمانية على أنها أموال "سهلة" فاسترخص انفاقها .
ومن الأشياء المثيرة للاهتمام في هذه الدراسة هي أن حتى أولئك الذين كانوا أكثر اقتصاداً وسيطرة على أموالهم في الماضي باتوا أكثر عرضة لزيادة الانفاق عند استخدام البطاقات البنكية أو الائتمانية .
وإن كنت تتساءل عن سبب هذا الاختلاف في التسوق عند اختلاف طرق الدفع ، فالأمر بكل بساطة متعلق بما يُسمى "ألم الدفع" .
ليس سهلاً على قلوبنا أن نخسر المال أو ندفعه ...سنشعر ببعض الألم عند حدوث ذلك ، لكن الأشخاص الذين يستخدمون البطاقات البنكية يكون الألم عندهم أقل بكثير من أولئك الذين دفعوا نقداً فيشترون المزيد .
لأنه عندما تدفع نقداً فأنت تمد يدك إلى محفظتك وتأخذ منها المال وتعده وتعطيه للمحاسب فلا يعود إليك ، أي ترى أمام عينيك المال وهو يتلاشى ، بينما في حالة البطاقة البنكية فالمال في البنك وليس أمام عينيك ، والبطاقة التي أعطيتها للمحاسب ستعود إليك كما هي .
وهنا يكمن التفاوت في "ألم الدفع" لأنه مرتبط بالذاكرة ، فليست كل الذكريات التي في دماغك تؤثر على سلوكك وأفكارك ومشاعرك بنفس الطريقة .
هناك ذكريات تتجلى أمامك وأثرها بالغ عليك وستجد صعوبة في تجاوزها ، بينما هناك ذكريات ليست على مرأى منك ويستطيع دماغك أن يتخطاها بسهولة متغافلاً عن الشعور بالألم .
والدفع النقدي ونقص المال الورقي ذكرى حاضرة تراها وتلمسها فتؤثر على سلوكك ومشاعرك بشدة ، بينما الدفع بالبطاقة البنكية ذكرى يسهل على الدماغ التغافل عنها فيقل أثرها عليك .
لنقم بتجربة أخرى معاً ...
لنفرض أنك جائع ومتكدر بعض الشيء ، وقررت أن تُسعد نفسك وتسد جوعك بطبق بيتزا ، ودخلت إلى المطعم كي تأكل .
ولحسن حظك قَدَّمَ لك الجرسون عرضاً لطيفاً وقال لك : البيتزا التي طلبتها سعرها 5 دنانير ، وعادة ما يأكلها الزبون بـ25 قضمة ، فما رأيك بدل أن تدفع 5 دنانير للبيتزا ، أحاسبك وفقاً لعدد القضمات ، وكل قضمة ستكون بـ100 فلس ، أي بـ25 قضمة (متوسط قضمات الزبائن ) سيكون سعر البيتزا 2.5 دينار فقط ، وسأقف عند رأسك أثناء تناولك إياها وأحسب عدد القضمات .. فما رأيك ؟ ( فَـكِّـر في الجواب )
ستوفر المال وستأكل البيتزا ... عرض مغري أ ليس كذلك ؟
إن وقعت في الفخ وقبلت العرض سيكون دماغك مشغولاً في كل لقمة بحساب التكلفة ... ناهيك عن الجرسون الواقف أمامك والمحدق بك والذي يضيف على آلته الحاسبة 100 فلس بعد كل قضمة ... سيجعل مسألة الدفع والحساب المتزايد ذكرى حاضرة مسيطرة على عقلك في كل لقمة ... وذلك كفيل بتحويل غدائك إلى لحظات مزرية تخلو من المتعة التي جئت تنشدها .
إذن المحاسب الذي في أدمغتنا – والمرتبط بمشاعرنا وسلوكنا –يتأثر بالطريقة التي اخترنا أن ندفع بها ، وإذا فهمت هذا الأمر جيداً يمكن أن توظفه بالطريقة التي تخدمك .
فمثلاً لو كنت تريد تقليل الأموال التي تنفقها على الطعام ، قم بزيادة "ألم الدفع" ، وخَصِّص من مرتبك ميزانيةً للطعام ، وضع الأموال (نقداً) في ظرف ، وادفع منها في كل مرة ستشتري بها من المطعم .
رؤيتك للأموال وهي تتقلص تدريجياً وتضمحل مرة بعد الأخرى ، سيجعلك أكثر ترشيداً .
وعلى النقيض تماماً ... تستطيع أن تقلل ألم الدفع ليزداد استمتاعك في الأشياء التي ستنفق عليها المال .
فمثلاً لو كنت تريد الذهاب في رحلة سياحية إلى أوربا ، قم بدفع رسوم تذاكر رحلاتك اليومية في وطنك قبل السفر ، كي لا تضطر للدفع عند كل رحلة يومياً ، وهو ما سيقلل من متعتك حتماً .
إذن .. في رؤوسنا عبيط لا ينظر للأموال والممتلكات من منطلق مادي بحت ، بل يراها بعاطفة لا تخضع للمنطق بتاتاً ، وتفكيرك بعمق وفهمك لهذا العبط الدماغي المسمى "المحاسبة العقلية" سيجعلك أكثر اقتصاداً في مصروفاتك وأكثر استمتاعاً في مقتنياتك بعيداً عن التبذير وتبديد الأموال بغير عقل .
وكما يقول سيدي علي ابن أبي طالب عليه السلام : حسنُ تدبير المعيشة نصف العقل .