Blog Layout

العبيط الذي في رأسي يُحاسب

يقول نيلسون روكفلر - والذي شغل وظيفة نائب الرئيس الأمريكي عام 1974م - إنه عندما كان يطلب من والده الملياردير جون روكفلر مالاً ، لم يكن يعطيه إياه مباشرة ، بل كان يُكـلِّفه بعدة مهام مقابل ذلك .
فيطلب منه مثلاً تنظيف الحديقة ، أو ترتيب العُلِّية ، أو الذهاب مشياً لشراء بعض الحاجات للمنزل ، أي أنه كان يتصبب عرقاً لكسب المال .
"جون روكفلر" من أغنى أغنياء أمريكا ، وباستطاعته إعطاء المال لولده دون أن يُرهقه ، إلا أنه كان يقول إن تصرفه سيشرح لابنه قيمة المال ويُعرِّفَهُ كيفية اكتسابه .
وأعتقد أن السيد جون كان محقاً في فلسفته التربوية ... فنظرتنا للمال وتحديدنا لقيمته في أنفسنا تختلف وفقاً لآلية كسبنا إياه .
إن المال الذي حصلت عليه بسهولة أو بالصدفة لن يكون عزيزاً جداً على قلبك ، وغالباً ما ستصرفه على الكماليات أو توافه الأمور ، بينما المال الذي كسبته لقاء تعب وشقاء سيكون غالياً على نفسك ، ومن المرجح أنك ستصرفه على أمر ضروري عندك أو له قيمة ومنفعة حقيقية .
وهذا ما يُسميه دكتور الاقتصاد السلوكي الحاصل على جائزة نوبل ريتشارد ثالر بـ "المحاسبة العقلية" .
إليك هذا المثال ...
لنفرض أنك وجدت مبلغ 20 دينار على الأرض وقررت انفاقها... على ماذا ستصرفها ؟ (فَـكِّـر في الجواب)
مهلاً ... ماذا لو كانت الـ20 هي أجرك اليومي الذي حصلت عليه مقابل حرث الأرض باستخدام المعدات الثقيلة لمدة 10 ساعات ، هل ستصرفها على نفس الأمر ؟
غالباً سيكون الجواب لا .. قيمة الشيء في نفسك مقرونة بمدى تعبك للظفر به .
أقام مجموعة من الباحثين في جامعة ستوكهولم السويدية دراسة على 3362 شخص ربحوا قرعة اليانصيب ونالوا أموالاً طائلة - دون تعب - ، وامتدت الدراسة إلى 22 سنة بعد ربح الجائزة .
كثير من الرابحين كانوا يصرفون أموالهم على تعاطي المخدرات ، أو يشترون بها أشياء تفوق منفعتُـها سعرَها ، كهاتف مصنوع من الذهب مثلاً .
ولك أن تصدق أن أكثر من نصف الرابحين انتهى بهم الأمر إلى إعلان إفلاسهم !!
وهذا أمر متوقع ، فليس للمال قيمة عليا في أنفسهم ، إذ كسبوه دون كدح أو نَصب ، فأضاعوه بغباء وصرفوه ببذخ.
والأمر لا يتعلق بالمال فقط ، فكل شيء تحصل عليه بعد تعب وشقاء سيكون قيماً عندك .. إنه قانون الدماغ .
فمثلاً لو كنت أباً - أو كنتِ أماً - وكان طفلك لا يُحافظ على ألعابه ويقوم بتكسيرها بلا مبالاة ، اطلب منه في المرة القادمة التي يريد بها لعبة أن يقوم بعدة أشياء بالمقابل ، كأن يكنس المنزل أو يرتب المطبخ ... ارهقه واجعله يتقاطر عرقاً لكسبها ، وإني أُأكد لك أنه سيحافظ عليها بشكل أفضل هذه المرة . ( وإذا كسرها قَطِّع العقال على ظهره والأمور راح تضبط بعدها 😜)
إذن الدماغ لا ينظر لممتلكاتنا كعدد ، بل ينظر لها "كيف جاءت" .
أضف لذلك أن أدمغتنا أشبه بالبنك الذي يُقسِّم الأموال لعدة أرصدة وحسابات مختلفة ، فيودع بعض المال للطعام وبعضاً للترفيه وفاتورة الهاتف والوقود والادخار .... إلخ .
ومما أكدته التجارب أن الدماغ يتساهل بعض الشيء في تبذير الأموال التي لا تقع ضمن أي حساب أو تصنيف .
فمثلاً لو كنت خصصت مبلغ 40 دينار لتشتري فيها حذاءً قد رأيته قبل أيام ، وعند دخولك للمحل اكتشفت أن هناك تنزيلات رائعة وأصبح سعر الحذاء 20 دينار فقط ، سيكون لديك 20 متبقية لا تدخل في أي حساب .
دماغك هنا سيكون بين خيارين ... إما أن يُحسن التفكير ويبدأ ضرب الأخماس في الأسداس ليعرف أين سيستثمرها ، أو يقول لك بكل بساطة "هيا اصرفها على ما هو أمامك الآن واشتر حذاءً آخراً واستغل التنزيلات" .
والدماغ كسول في طبعه ولا يُحبذ صرف طاقة ذهنية على التفكير العميق ، وسيختار أسهل الطرق وستنفق الـ20 الأخرى على أشياء لم تخطط لها أصلاً أو لست في حاجتها .
لنقم معاً بتجربة ....
لنفرض أنك ذهبت وحدك إلى السينما لتتمتع بمشاهدة فيلم ما . ( 😢 ايييييييه سينما ها ... طشرنا الوقت مو كنا ملمومين يا كورونا )
وفي طريقك للسينما وقعت من جيبك دون علمك 3 دنانير ، وعند وصولك إلى السينما اكتشفت ذلك ... فهل ستشتري تذكرة لدخول الفيلم بـ3 دنانير ؟ ( فَكِّر في الجواب )
الآن ... إليك هذه الفرضية الجديدة .
لنفرض أنك في يوم ما اشتريت تذكرة لدخول السينما بـ3 دنانير ، وقبل العرض بساعة أضعت التذكرة ولم تحتفظ بالفاتورة ... فهل ستدفع 3 دنانير أخرى وتشتري تذكرة جديدة لدخول الفيلم ؟ ( فَـكِّـر في الجواب )
أجرى علماء من جامعة Yale هذه التجربة ، وكانت النتيجة أن 46% فقط ممن فقدوا التذكرة قرروا شراء تذكرة جديدة ، بينما 88% ممن أضاعوا المال في الطريق قرروا شراء تذكرة .
في الحالتين كانت الخسارة (3 دنانير) إلا أن القرار كان مختلفاً ... أمر غريب أ ليس كذلك ؟
أنت في المرة الأولى خسرت 3 دنانير لم يخصصها بنك دماغك بعد لحساب السينما ، لكنك في الفرضية الأخرى دفعت وخصصت 3 دنانير لحساب السينما ، وبنك دماغك قد يرفض إضافة 3 أخرى لهذا الحساب ، ولن يدفع 6 دنانير لتتمتع بأمر قيمته 3 دنانير فقط .
نعم إن أدمغتنا عبيطة بعض الشيء في محاسبتها العقلية ( العلم يقول مش أنا 😁 )
وإن كنت لا تصدق ذلك ... إليك السؤال التالي .
لو قررت شراء بعض الحاجات من البقالة ، فهل سيكون هناك فرق في مشترياتك بين دفعك نقداً وبين استخدامك البطاقة البنكية ؟ ( خذ نفساً عميقاً وفَـكِّـر )
أجرى دكتور علم النفس الاجتماعي السيد كاري موريويدج Carey Morewedge دراسةً ، وفحص إيصالات فواتير الأشخاص الخارجين من متجر البقالة ، وكان متوسط فاتورة الذين دفعوا نقداً ($6.65) بينما الأشخاص الذين دفعوا بالبطاقة البنكية ($11.45) .
فهل من قبيل الصدفة أن يشتري من استخدموا البطاقة البنكية أكثر ويدفعوا المزيد ؟
في دراسة أخرى لبروفيسور السلوك الاقتصادي السيد Manoj Thomas تفحص فيها سجلات الدفع في أحد متاجر التجزئة الكبيرة ، فوجد أن الذين يستخدمون البطاقات البنكية لدفع المشتريات يميلون إلى الانفاق باندفاع أكثر مقارنة بأولئك الذين يدفعون نقداً .
أما أولئك الذين يستخدمون البطاقات الائتمانية – والتي تحتوي على أموال البنك وسيتم خصمها منك لاحقاً – كانوا شديدي الاندفاع مقارنة بغيرهم ، وكَـأنَّ أموال البنك مالٌ سائب لن يتم خصمه منك مستقبلاً 😕 !!! . ( جلد مو جلدك جِرَّه على الشوك )
أي كأن الدماغ صَـنَّـفَ أموال القرض أو البطاقة الائتمانية على أنها أموال "سهلة" فاسترخص انفاقها .
ومن الأشياء المثيرة للاهتمام في هذه الدراسة هي أن حتى أولئك الذين كانوا أكثر اقتصاداً وسيطرة على أموالهم في الماضي باتوا أكثر عرضة لزيادة الانفاق عند استخدام البطاقات البنكية أو الائتمانية .
وإن كنت تتساءل عن سبب هذا الاختلاف في التسوق عند اختلاف طرق الدفع ، فالأمر بكل بساطة متعلق بما يُسمى "ألم الدفع" .
ليس سهلاً على قلوبنا أن نخسر المال أو ندفعه ...سنشعر ببعض الألم عند حدوث ذلك ، لكن الأشخاص الذين يستخدمون البطاقات البنكية يكون الألم عندهم أقل بكثير من أولئك الذين دفعوا نقداً فيشترون المزيد .
لأنه عندما تدفع نقداً فأنت تمد يدك إلى محفظتك وتأخذ منها المال وتعده وتعطيه للمحاسب فلا يعود إليك ، أي ترى أمام عينيك المال وهو يتلاشى ، بينما في حالة البطاقة البنكية فالمال في البنك وليس أمام عينيك ، والبطاقة التي أعطيتها للمحاسب ستعود إليك كما هي .
وهنا يكمن التفاوت في "ألم الدفع" لأنه مرتبط بالذاكرة ، فليست كل الذكريات التي في دماغك تؤثر على سلوكك وأفكارك ومشاعرك بنفس الطريقة .
هناك ذكريات تتجلى أمامك وأثرها بالغ عليك وستجد صعوبة في تجاوزها ، بينما هناك ذكريات ليست على مرأى منك ويستطيع دماغك أن يتخطاها بسهولة متغافلاً عن الشعور بالألم .
والدفع النقدي ونقص المال الورقي ذكرى حاضرة تراها وتلمسها فتؤثر على سلوكك ومشاعرك بشدة ، بينما الدفع بالبطاقة البنكية ذكرى يسهل على الدماغ التغافل عنها فيقل أثرها عليك .
لنقم بتجربة أخرى معاً ...
لنفرض أنك جائع ومتكدر بعض الشيء ، وقررت أن تُسعد نفسك وتسد جوعك بطبق بيتزا ، ودخلت إلى المطعم كي تأكل .
ولحسن حظك قَدَّمَ لك الجرسون عرضاً لطيفاً وقال لك : البيتزا التي طلبتها سعرها 5 دنانير ، وعادة ما يأكلها الزبون بـ25 قضمة ، فما رأيك بدل أن تدفع 5 دنانير للبيتزا ، أحاسبك وفقاً لعدد القضمات ، وكل قضمة ستكون بـ100 فلس ، أي بـ25 قضمة (متوسط قضمات الزبائن ) سيكون سعر البيتزا 2.5 دينار فقط ، وسأقف عند رأسك أثناء تناولك إياها وأحسب عدد القضمات .. فما رأيك ؟ ( فَـكِّـر في الجواب )
ستوفر المال وستأكل البيتزا ... عرض مغري أ ليس كذلك ؟
إن وقعت في الفخ وقبلت العرض سيكون دماغك مشغولاً في كل لقمة بحساب التكلفة ... ناهيك عن الجرسون الواقف أمامك والمحدق بك والذي يضيف على آلته الحاسبة 100 فلس بعد كل قضمة ... سيجعل مسألة الدفع والحساب المتزايد ذكرى حاضرة مسيطرة على عقلك في كل لقمة ... وذلك كفيل بتحويل غدائك إلى لحظات مزرية تخلو من المتعة التي جئت تنشدها .
إذن المحاسب الذي في أدمغتنا – والمرتبط بمشاعرنا وسلوكنا –يتأثر بالطريقة التي اخترنا أن ندفع بها ، وإذا فهمت هذا الأمر جيداً يمكن أن توظفه بالطريقة التي تخدمك .
فمثلاً لو كنت تريد تقليل الأموال التي تنفقها على الطعام ، قم بزيادة "ألم الدفع" ، وخَصِّص من مرتبك ميزانيةً للطعام ، وضع الأموال (نقداً) في ظرف ، وادفع منها في كل مرة ستشتري بها من المطعم .
رؤيتك للأموال وهي تتقلص تدريجياً وتضمحل مرة بعد الأخرى ، سيجعلك أكثر ترشيداً .
وعلى النقيض تماماً ... تستطيع أن تقلل ألم الدفع ليزداد استمتاعك في الأشياء التي ستنفق عليها المال .
فمثلاً لو كنت تريد الذهاب في رحلة سياحية إلى أوربا ، قم بدفع رسوم تذاكر رحلاتك اليومية في وطنك قبل السفر ، كي لا تضطر للدفع عند كل رحلة يومياً ، وهو ما سيقلل من متعتك حتماً .
إذن .. في رؤوسنا عبيط لا ينظر للأموال والممتلكات من منطلق مادي بحت ، بل يراها بعاطفة لا تخضع للمنطق بتاتاً ، وتفكيرك بعمق وفهمك لهذا العبط الدماغي المسمى "المحاسبة العقلية" سيجعلك أكثر اقتصاداً في مصروفاتك وأكثر استمتاعاً في مقتنياتك بعيداً عن التبذير وتبديد الأموال بغير عقل .
وكما يقول سيدي علي ابن أبي طالب عليه السلام : حسنُ تدبير المعيشة نصف العقل .

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بقية المقالات
Share by: