سيدتي / سيدي القارئ ... هل تشارك في الأعمال المنزلية ؟ ما نسبة % الأعمال التي تقوم بها بمفردك ؟
حسناً احتفظ بالجواب ..
قبل أيام كنت أناقش رسالتي البحثية أمام نخبة من أروع الدكاترة ، وكان قلبي يرتجف ، وقطرات العرق التي تلمع في جبيني تُخبرك مدى توتري ... لقد كان موقفاً ترتعد منه قلوب الأبطال .
في الختام وبعد قبولهم للرسالة سألني الدكتور المسؤول عن رسالتي : "كيف وصلت إلى هنا ... هل كان جهداً ذاتياً أم أن هناك من ساهم في وصولك ؟"
قبل أن أخبرك حكايتي وجوابي .. هبني أنقل لك بعض الدراسات .
في دراسةٍ قام مجموعة من الباحثين بسؤال مؤلفي عدة أعمال مشتركة عن نسبة مشاركة كل واحد منهم في كتابة الكتاب ؟
وعندما تم تجميع النسب التي أجابوا بها كانت النتيجة 140% !! .
أي أنهم نسبوا لأنفسهم مجهوداً أكبر من الذي قاموا به في الواقع .
إن غالبية الناس يعانون من "الانحياز الأناني" فيعتقدون أنهم يقومون بالكثير من العمل أو غالبيته في حالة مشاركتهم الآخرين لبعض الأعمال .
أثناء فترة الاغلاق إبان وباء كورونا ، سأل الباحثون بعض الأزواج - رجالاً نساءً - عن نسبة الأعمال المنزلية التي يقومون بها ، وكان متوسط النتيجة 130% ، إذ يعتقد كثير من الرجال أنهم يقومون بنصف الأعمال المنزلية ، بينما النساء يرين أنها يقمن بغالبية العمل . ( وآخرتها تطلع الخدامة مسويه كل شي 😜)
قد نظن سيدي القارئ أن الجواب يعكس مدى حب الطرفين لإبراز فائدتهم وتضحيتهم للعائلة ، لكن الأمر ليس كذلك .
المؤلفون وكذلك الأزواج يتذكرون جيداً وبوضوح الأشياء التي قاموا بها ، ومدى تعبهم ومساهمتهم ، إلا أنهم لم يروا الحياة بعين الآخرين ... لم يعيشوا في أدمغتهم ليروا تعبهم ، لذلك غالباً ما يقللوا من مجهودهم ومشاركتهم وينسبوا لأنفسهم الفضل الأكبر .
وما أريد أن ألفت انتباهك له سيدي القارئ أن هذا التحيز الأناني المتجذر في أدمغتنا يحجب عن أنظارنا رؤية الحظ والظروف الخارجية التي ساعدتنا وساهمت في نجاحنا ، فننسب لاجتهادنا وتعبنا وذكائنا كل أسباب النجاح ... وإليك هذا المثال على لاعبين الهوكي المحترفين في كندا .
لو سألت أي لاعب كيف وصلت إلى هذا المستوى من النجاح ؟ ، قد يخبرك باجتهاده وتمارينه الشاقة وبرنامجه الغذائي الصارم وما أشبه ، لكنه حتماً لن يخبرك أن تاريخ ميلاده ساهم أيضاً في وصوله إلى الاحتراف .
في دراسة إحصائية للاعبي الهوكي المحترفين وُلد 40% من اللاعبين في الربع الأول من العام (من شهر يناير إلى إبريل) ، مقابل 10% فقط ولدوا في الربع الأخير من العام ( من شهر سبتمبر إلى شهر ديسمبر ) .
ليس لأن برج الجدي والدلو محظوظون أكثر من غيرهم ... فالأبراج محض خرافة ، لكن في مطلع شهر يناير يتم اختيار الصغار الذين سيتدربون للعبة الهوكي ، وبالتالي فمواليد الربع الأول من السنة السابقة يكونوا أكبر من غيرهم بأشهر ، لذا من المرجح أن يكون معدل سرعتهم أعلى من غيرهم وبنيتهم أكبر وهذا ما يرفع حظوظهم في اختيارهم .
أي صحيح أن اجتهاده كان سبباً في وصوله إلى الاحتراف ، لكن لتاريخ ميلاده يد في نجاحه أيضاً .
ولو نظرت إلى المتسابقين العدائين الذي قاموا بأرقام قياسية ، سترى أن الظروف والحظ ساهموا في نجاحهم أيضاً .
لا شك أن Usain Bolt يُعد أفضل عداء في التاريخ ، وفاز بالعديد من السباقات والميداليات الذهبية ، لكنه في اليوم الذي حقق فيه رقماً قياسياً في سباق المئة متر - والذي اجتازه في 9.58 ثانية - كان هناك رياحاً خلفية تدفعه إلى الأمام .
وتكرر أمر الرياح مع العديد من العدائين والمتسابقين الأولمبيين الذين حققوا أرقاماً قياسية .... نعم التمرين يمكنك من الفوز ، لكن كسر رقم قياسي يحتاج للاجتهاد وبعض الحظ أيضاً .
إن "الانحياز الأناني" يجعلنا نقلل من أثر الحظ على حياتنا فننسب الفضل كله إلى ذكائنا واجتهادنا ... كما هو الحال مع الأعمال المنزلية التي يقوم بها شريك الحياة ونقلل من حجمها أنانية منا .
إن عدم رؤيتنا لأثر الحظ على نجاحنا يجعلنا مختالين فخورين جداً بمجهودنا أو ذكائنا ... فيخلق ذلك شعوراً في أنفسنا بأننا أفضل من غيرنا ، وبالتالي تتولد رغبة في أنفسنا بالتفاضل عليهم .
في تجربة لطيفة تم تقسيم المتطوعين للتجربة إلى مجاميع ، تتكون كل مجموعة من ثلاثة أشخاص ، ليناقشوا معضلة أخلاقية معقدة .
في كل مجموعة يتم اختيار شخص - بشكل عشوائي - ليكون قائداً للمجموعة ، وبعد نصف ساعة من النقاشات يأتي أحد القائمين على التجربة ليعطي كل مجموعة أربع حبات كوكيز ، ويتم مراقبتهم لمعرفة من سيأخذ القطعة الرابعة من أصل ثلاث أشخاص .
في كل المجاميع كانت القطعة الرابعة من نصيب قائد المجموعة ، ورغم أنه ليس له كفاءات خاصة أو مسؤوليات إضافية وحصل على منصبه صدفةً لا أكثر ، إلا أنه كان يرى نفسه الأحق بالقطعة الرابعة لأنه القائد !! . ( إلهي تغص فيها ويحوشك مغص 😒)
عندما نحصل على أي منصب نشعر أننا نستحق تلك الامتيازات والصلاحيات المرافقة له ، وذلك يدفعنا أحياناً للتصرف بتعالي على الآخرين ... وهذا يفسر لك التصرف السيء والنرجسي الذي يقوم به بعض الموظفين عندما يحصلون على منصب أعلى .
إن إهمال الظروف والحظ في نجاحنا يسلب منا جزءاً من إنسانيتنا وتعاطفنا مع الآخرين ...
ففي تجربة طلب من المتطوعين لها تذكر نجاح حققوه مؤخراً ، ثم تم تقسيمهم إلى مجموعتين .
المجموعة الأولى طُلب منها كتابة الصفات الشخصية والأفعال التي قاموا بها والتي جعلت هذا النجاح ممكناً ، أما المجموعة الثانية طُلب منها سرد الظروف الخارجية والحظ الذي ساهم في تحقيقهم لذلك النجاح ، ثم أعطي كل فرد من المجموعتين مبلغاً من المال لقاء مشاركته في هذه التجربة ... وخَـيَّـروهم بين أخذه لأنفسهم أو التبرع به لجمعية خيرية .
المجموعة التي ذكرت الظروف والحظ تبرعت بـ25% أكثر من المجموعة الأخرى !! .
أن تتذكر الحظ والعوامل الخارجية للنجاح سيجعلك ذلك أكثر تعاطفاً وامتناناً ... سيجعل ذلك منك إنساناً أكثر لُطفاً يحاول رد الجميل للحياة والبشرية .
ليس ذلك وحسب ... بس ستكون محبوباً لدى الناس أيضاً .
في دراسة تم إعطاء مجموعتين من المتطوعين نص مقابلة خيالية لرائد أعمال في التكنلوجيا ، لكن الفقرة الأخيرة في المقابلة والتي يتحدث فيها عن أسباب نجاح شركته كانتا مختلفتين .
في نسخة المجموعة الأولى ينسب رائد الأعمال النجاح لنفسه وذكائه واجتهاده ، بينما في نسخة المجموعة الثانية ينسب النجاح للحظ والظروف الخارجية .
المتطوعين في المجموعة الثانية اعتقدوا أن رائد الأعمال لطيف ومحبوب واستحسنوا فكرة أن يكونوا أصدقاءه المقربين ، بينما المجموعة الأولى رأت أنه متغطرس ولم يفضلوا فكرة مصادقته .
لذا سيدي القارئ في كل نجاح تحققه في حياتك لا تنسى أن الحظ والظروف لعبوا دوراً فيه ، كُن ممتناً للحياة وحاول أن تُحسن ظروف الآخرين أيضاً وتساهم في نجاحهم ... نعم أنت مميز لكن هناك من ساعدك على النجاح أيضاً .
والحظ سواء كان توفيقاً من الله أو دعوة أم وأب أم رُزقاً كُتب لك ... أو أياً يكن ، هو شيء لم تناله بمجهودك ، لذا ضعه في نصب عينيك دائماً .. لتكون أكثر إنسانية ولا تتعالى أو تتعجرف ، بل لتشكرها بإحسانك للآخرين .
ولو فعلت ذلك ستتحسن رؤيتك لمجهود الآخرين ... لن تقلل منه .
أعود الآن لحكايتي ...
في الحقيقة إن كل خطوة من خطواتي لإكمال دراستي كانت توفيقاً من الله وحظاً لم أسعى له أصلاً ...
أثناء مقابلتي مع طاقم الدراسات العليا في جامعة عجمان كان هناك دكتور من جامعة ليفربول ، وفي تلك المقابلة تعطلت صفحة موقع الجامعة ، ولم يعرف الطاقم كيفية إصلاحها ، فقمت بمساعدتهم على ذلك نظراً لمعرفتي البسيطة بإعدادات المتصفح الإلكتروني والبرمجة .
فقالوا مازحين يبدوا أنك متعدد المواهب ... فأجبت بسجيتي نعم لأنه لدي مدونة على الإنترنت وبرنامجاً للهواتف لذا أعرف شيئاً يسيراً من البرمجة .
نظروا إلى مدونتي وما أكتبه من مقالات مبسطة وبحوث لمكتبة اليونيسكو واقترحوا علي التحول إلى جامعة ليفربول بدلاً من جامعة عجمان ... فوافقت .
إن خللاً بسيطاً في المتصفح غَـيَّـر مسار حياتي .
وهذا مجرد موقف واحد من مواقف عدة كان الحظ فيها حليفاً لي .... لا أرى نفسي عبقرياً فذاً ، كنت فقط فتى محظوظ تحيط به دعوات والدته فكتب الله له التوفيق .
وأنت سيدي القارئ ... يا حظي الجميل وبوابتي للنجاح ، إن دخولك إلى مدونتي وقراءتك لمقالاتي - رغم بساطتها وركاكة أسلوبي- كان يُحفزني على مواصلة الكتابة ويدعوني لمزيد من التطور عرفاناً بحقك علي .
بحمد الله حققت نجاحاً .. فشكراً لله وشكراً لك سيدي ... وشكراً لكل الأشخاص الرائعين في حياتي .
عندما سألوني كيف وصلت إلى هنا أجبت بكل بساطة : أنا ممتن للحظ الذي كتبه الله لي ... لولاه لما وقفت هنا .