لماذا نتابع أحياناً أخبار أشياء ننتقدها أو نصفها بالتفاهة كبعض مشاهير البرامج الاجتماعية مثلاً ؟ أَ تظنه فضولاً ؟
تذكر الجواب ... سنعود له لاحقاً .
مع تطور العلم واستكشاف الفضاء وبداية انتشار القصص الخيالية حول الأطباق الفضائية في خمسينيات القرن الماضي ، خرجت بعض الديانات الغربية جداً ، والتي تقوم على فكرة أن الكائنات الفضائية تريد مساعدة الإنسان للتخلص من الكراهية والمشاكل المحيطة به كالحروب وتلوث البيئة وما أشبه ، وأن تلك الكائنات ملائكة توحي للبشر .
ومن تلك الديانات هي ديانة الباحثين ( The Seekers ) ، والتي ترأستها دوروثي مارتن ، والتي قالت أنها يوماً ما شعرت بتنمل في يدها حتى فقدت الشعور بها ، ثم أن يدها بدأت تتحرك دون رغبة منها في ذلك ، فالتقطت قلماً وقرطاساً وبدأت تكتب وكأن هناك من يوظف يدها لإيصال رسالة ما .
كتبت يدها رسائل تحذيرية منذرة بقدوم طوفان يبيد الأرض ومن عليها ، لأن البشر تمادوا في طغيانهم يعمهون .
وقد تكرر أمر الرسائل ، وبدأت تسمع وحياً يتردد في أذنها يُخبرها بنبوءات ستحصل عما قريب ، ويدعوها للانطلاق بدعوة تُحذر البشر من شرٍ قد اقترب ... فذهبت للناس نبياً يدعو للخلاص .
آمنت ثلة بدوروثي ، والتي طلبت منهم أن يتجمعوا في حديقة منزلها الساعة الرابعة فجراً في 17 من شهر ديسمبر كي تأتي سفينة فضائية وتأخذ بأيديهم إلى الجنة ، فالأرض ستغرق بالطوفان . (أنا لو معاهم أغرق ولا أقوم الفجر 😒 لو سمحتي يا نبي .. أبي أنام )
انتشر صيت دوروثي ودعوتها في الأرجاء ، وسمع كثير من الناس عنها ، فأثار ذلك اهتمام دكتور علم النفس ليون فيستنجر Leon Festinger ، والذي التقى بدوروثي وزعم أنه مؤمن بها ليتسلل إلى المجموعة ويرى عن قرب ردة فعل أتباعها عندما تفشل النبوءة .
في اليوم الموعود تجمع أتباع دوروثي في حديقتها وطلبت منهم أن ينزعوا عن أجسادهم كل قطعة معدن كي يصعدوا إلى السفينة بكل أمان .
وأصبحت الساعة الرابعة فجراً وأعينهم إلى السماء تنتظر الفرج ... ولكن لم يأتي أحد . ( معقوله الفضائيين ضيعوا بالدرب ؟! 😕)
بعد ساعة ونصف من الانتظار عادوا إلى المنزل وبدأ السجال بين المؤمنين إلا أنهم اتفقوا في النهاية أنها كانت مجرد جلسة تدريب لهم كي يكونوا مستعدين للموعد الحقيقي .
في اليوم التالي قالت دوروثي لأتباعها أن الفضائيين أخبروها أنهم كانوا قادمين والمؤمنون بها هم الفئة الناجية ، وأعطوها موعداً آخراً وهو 21 من ديسمبر .
تجمعوا بحماسة هذه المرة في الحديقة ، ونزعوا عن أجسادهم كل شيء يحتوي على المعدن ، وانتظروا ... لكن دون جدوى ولم يأتي أحد ، فدخلوا إلى المنزل خائبين .
فتفحصت دوروثي أتباعها ، ووجدت أن هناك امرأة لم تخلع حمالة صدرها والتي تحتوي على مشابك معدنية ، فأخبرت أتباعها أن ما حادهم عن الخلاص هو هذا المشبك . ( ما راحو الجنة بسبب ستيان 🤣)
في اليوم التالي أعطتهم موعداً جديداً وأخيراً وهو عشية عيد ميلاد السيد المسيح ، فتجمعوا في الحديقة ومسك المؤمنون بأيدي بعضهم البعض وبدأوا بالترنيم ، وحانت ساعة وصول الفضائيين ، وكالعادة ولم يأتي أحد . (دوروثي دازتلهم لوكيشن غلط 😜)
لو كنت مؤمناً بدوروثي ... ماذا ستفعل حينها ؟ هل كنت ستكفر بها وبنبوءاتها والفضائيين ؟
لك أن تتخيل أن هذه المواقف زادت من ترسيخ اعتقاد أتباعها ، بل إنهم في اليوم التالي أخرجوا بياناً قالوا فيه أن الرب دفع الطوفان عن الأرض بفضل هؤلاء الكرام الذين تجمعوا ورنموا أناشيد الميلاد . ( مولاتنا دوروثي فيج بخت ❤️)
هنا كتب الدكتور ليون فيستنجر كتابه الشهير "عندما تفشل النبوءة When Prophecy Fails" والذي تحدث فيه عن دوروثي وأتباعها و"نظرية التنافر المعرفي" التي تحصل في أدمغة الناس عندما يكون هناك تناقض بين أفكارهم ومعتقداتهم وبين سلوكهم ، والذي لا شك أننا وقعنا في فخه يوماً ما ... وسأوضح لك ذلك .
أظن أن جميعنا مررنا في حياتنا بصديق مدخن و اقترحنا عليه ترك التدخين ، فقال لك أن التدخين يمنحه التركيز ويساهم في التفكير وهدوء الأعصاب أو ممتع للدماغ ، وأنه لا يقتل لأن جد صديقه كان مدخناً وعاش للتسعين من عمره ... وما أشبه من تلك الجمل .
دماغ المدخن مدرك تماماً لضرر التدخين ، لكن سلوكه يناقضه ، وهنا يكون الدماغ في حالة صراع بين الإدراك والأفكار وبين السلوك ، فيسبب ذلك للدماغ حالة من الإزعاج والفوضى الضميرية ، فيرغب في إنهاء النزاع والتنافر الحاصل بينهما كي يزول ذلك .
ويكون هنا الدماغ بين ثلاثة اختيارات : إما أن يُغير السلوك لأجل الإدراك ، أو يغير الأفكار ويشكك فيها حفاظاً على السلوك ، أو يبرر السلوك بأفكار أخرى تجعله يرضى عنه ويعود له الاتزان النفسي الذي فقده .
والمدخن المستمر بالتدخين غالباً ما سيختار تلك الأفكار التي تُعقلن اللامعقول وتبرر سلوكه ليرتاح نفسياً ... وهذا ما يُسمى بـ"التنافر المعرفي" .
إن أدمغتنا مرنة جداً في معالجة الأفكار والمعطيات ، وبإمكانها - وبكل سهولة - إعادة صياغة التناقضات لتكون أكثر تقبلاً على العقل والنفس .
ويختلف الازعاج وتأنيب الضمير وفقاً لأهمية الأفكار المتنافرة في حياة الإنسان ، وفي تلك المسائل الحساسة جداً والمهمة كالدين والميعاد والجنة ، يعصف الدماغ تنافر حاد ، لذا يسرع في وجود مخرج لها كي يرتاح ... فالدماغ لا يملك طولة البال على تناقضاته .
وأسهل طريقة للخروج من تناقض الأفكار هو الانحياز لها وتبريرها بأفكار أخرى ولو كانت غريبة أو لا منطقية ، تماماً كما حصل مع أتباع دوروثي ، فعندما فشلت النبوءة مراراً انحازوا لأفكارهم وزاد اعتقادهم بها وبرروها بأفكار تعززها ، كفكرة أنهم المؤمنين الصادقين الذين بفضلهم أنجى الرب الأرض ومن عليها .
نحن البشر نؤمن بجمال وضرورة اللطف والرحمة ولكن أحياناً نتخذ سلوكاً عدوانياً اتجاه الآخرين ، فيدخل الدماغ في دوامة من التنافر المعرفي ، والسبيل الأمثل للخروج منها هو تبرير تلك الأفعال بأعذار في حقيقتها غير عقلانية ... وإليك هذه التجربة .
أحد أشهر تجارب علم النفس هي تجربة ملغرام لدكتور علم النفس ستانلي ملغرام Stanley Milgram ، إذ قام بتجربة على أشخاص لم يعرفوا أنهم تحت الاختبار وأن تصرفهم وردة فعلهم هو هدف التجربة .
وتمحورت التجربة بقيام هؤلاء الأشخاص بسؤال رجل في غرفة مجاورة لا يرونه - وهو في الحقيقة من فريق عمل التجربة - ، وكان بينهم سماعة وميكروفون فقط ، فيقولون له كلمات يجمعها رابط واضح كأزرق وسماء أحمر وتفاح ... إلخ ، ثم يطلبون منه تذكرها ، فإن أجاب بشكل صحيح انتقلوا إلى السؤال التالي ، وإن أخطأ يتم صعقه بالكهرباء .
وكانت الكهرباء متدرجة القوة وتزداد عند كل خطئ ، وتبدأ من 20 فولة وتنتهي عند 450 فولت ... وهو قدر موجع جداً من الطاقة .
الرجل كان يجيب مرة بشكل صحيح ثم يتعمد الخطأ ، فيقوم المتطوعون للتجربة بصعقه بالكهرباء ، إلا أنه وعند حد معين يتظاهر الرجل بالصراخ وطلب الاستغاثة .
المتطوعون كانوا يقفون لحظة سماعهم للصراخ ويطلبون من فريق العمل إيقاف التجربة ، إلا أن القائمين على التجربة كانوا يطلبون منهم الإكمال وعدم التوقف ويزجرونهم على ذلك ، ليروا كيف سيطيعون الأوامر ، وإلى أي مدى سيصلون في إيذاء الغير وكيف سيبررون ذلك بعد التجربة .
من بين ألف متطوع للتجربة من أعراق وديانات وطبقات مجتمعية مختلفة ، وصل 650 شخص منهم إلى أقصى مدى للفولت !! .
وبعد انتهاء التجربة كانوا يسألونهم لماذا وصلتم إلى هذا القدر من الفولت لرجل كان فقط لا يعرف الجواب ؟ ، غالبية المتطوعين أجابوا بأنهم كانوا يتبعون الأوامر فقط ، والبعض كان يزيد على ذلك فيقول أنه يستحق ذلك لأنه غبي ، أو يستحق ذلك لأنه تطوع إلى تجربة يعرف مخاطرها .... وأجوبة أخرى تحاول تبرير سلوكهم السادي المتطرف .
المتطوعون بشر والرحمة جزء من فطرتهم ، لكن سلوكهم تناقض مع أفكارهم ، فحدث في أدمغتهم تنافر معرفي ، لذا برروا سلوكهم بأفكار حمقاء كي يرتاحوا من تأنيب الضمير والازعاج الحاصل في أدمغتهم ... بل أصبحوا قضاة وارتضوا بعقابه بالصعق فقط لأنه غبي !! .
وهذا يُفسر لك لماذا يقوم قادة الجيش باتباع تعليمات الحكام بقتل الناس رغم أن هذا لا يتوافق مع فطرتهم ، ففي ألمانيا النازية مثلاً قام الضابط "أودلف أيخمان" بمجازر عدة منها محاولة إبادة يهود أوربا ، وفي محاكمته كتب أدولف للقاضي رسالة جاء فيها : "هناك خط فاصل يجب أن يُرسم بين أصحاب القرار وأمثالي الذين لا يملكون سوى تنفيذ الأوامر ، أنا لم أكن القائد ولم يكن هذا قراري لذا لا أشعر بالذنب على ما جرى .
لنعد إلى سؤال أول المقال ... لماذا نتابع أحياناً أخبار أشياء ننتقدها أو نصفها بالتفاهة كبعض مشاهير البرامج الاجتماعية مثلاً ؟ أَ تظنه فضولاً ؟
أدمغتنا تدرك أن من يتابع التفاهة تافه ... لكنها لن ترضى أن نصف أنفسنا بذلك ، فندخل في تنافر معرفي ، وحينها نحاول تبرير سلوكنا بأنه مجرد فضول لا أكثر ، أو أنه إضاعة وقت وما أشبه من أعذار كي نشعر بالرضا عن أنفسنا .
كثير من تصرفاتنا تخالف إدراكنا وأفكارنا ومبادئنا وأهدافنا في الحياة ، فيدخل الدماغ بحالة تنافر معرفي ويختل توازننا النفسي ، فتهرول أدمغتنا إلى عقلنة اللامعقول وتبرير أفعالها الخاطئة عوضاً عن تصحيحها .
إننا لا نمتلك جرأة محاسبة النفس ومواجهة أخطائها كي نغير سلوكها ... إن أدمغتنا غالباً ما تخدعنا ، فنقوم بتبرير أخطائنا كي نرتاح من تأنيب الضمير ونعيد لأنفسنا سلامها واتزانها .
إن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام رجل حكيم ولم يقل اعتباطاً : "أعدى أعداؤك إليك نفسك" . ، ففعلاً أنفسنا تحاول جاهدة أن تعيد توازنها ولو كان ذلك على حساب تبرير الخطأ والاستمرار فيه .
يستلزم النجاح في الحياة تقويمَ السلوك وانتهاج الطريق السليم ، وذلك يتطلب منا أن نكف عن تبرير أخطائنا في كل تنافر معرفي ... يجب أن نمتلك تلك الشجاعة لمواجهة النفس وأخطائها ، لا أن نُرَبِّـت على كتفها كي تهدأ .
كذلك المعتقدات والأفكار التي نؤمن بها ... نحن قد نصدق أفكاراً غير صحيحة ، ثم نرى بأم أعيينا الأدلة التي تكذبها ، وحينها إما أن ندخل دوامة التفكير والتمحيص - وهذا يُكلف أدمغتنا الكسولة طاقةً - أو ننحاز لها ونؤكدها ونبررها بأفكار أخرى غير عقلانية لنخرج من تنافرنا المعرفي .
قم بجولة في ذاكرتك الآن ... كم تصرف لا يليق بأفكارك ومبادئك قمت به وبررته ؟ كم فكرة تؤمن بها ورأيت مقولات تعارضها لكنك استمريت في الانحياز لها دون أن تتفحص أدلتها ؟
آمل أن لا يقول لك دماغك الآن كُف عن هذا فمقال هاشم مجرد هراء ، فهذه وسيلة منه ستريح ضميرك من إعادة التفكر بأخطائك .. وستنهي تنافرك المعرفي بسلام .
واجهه ... فهو يخادعك .