Blog Layout

الدماغ والفن

نظارة طبية موضوعة على أرض متحف الفنون ... هل تعتقد أنها عمل فني ؟ هل تحمل رسالة فنية ؟ 
في عام 2006 دخل مراهق يدعى "كيفن" إلى متحف سان فرانسيسكو للفن الحديث ، فلم تعجبه بعض المعروضات الفنية ، وشعر أنها أقل من أن يُقال عليها فناً .
ورأى أنها مجرد ترهات تم تلميعها ، ففي المتحف مثلاً مرحاض مكتوب عليه "المغفل - mutt" ، وُضع فوق منصة للعرض . ( صورته أعلاه )
ومما أثار سخرية "كيفن" أن عدداً من زوار المتحف - والذي أتى بعضهم من أقصى بقاع الأرض - كانوا يقفون ويتأملون في المرحاض . ( شنو هالفن الـ💩 )
لذا قرر أن يقوم بدعابة مستهزئاً ، فخلع نظارته الطبية ووضعها على أرض المتحف على أنها عمل فني .
ولك أن تتخيل أن النظارة جلبت أعين الزوار ، وبدأوا التأمل بها والتفكر بالمغزى الذي يريد أن يوصله الفنان من خلال هذا العمل الفني ، والتقطوا لها العديد من الصور .

(نظارات كيفن على أرض المتحف)

وبعد ساعة من الضحك التقط "كيفن" نظارته وعاد إلى منزله ... وترك خلفه المتحف والمرحاض .

سيدي القارئ ...

هل تتفق مع "كيفن" بأن بضع الأعمال الفنية تافهة لا ترقى أن تكون فناً ؟ وما هو الفن من منظورك ؟ وهل تعتقد أن للفن أثر على دماغك ؟

قبل الجواب ... قم بهذه التجربة .

احفظ نكتة مضحكة وقلها لصديقك ، واذهب بعدها إلى صديق آخر ، وقل له ذات النكتة ، ولكن اطلب منه أن يكون مبتسماً أثناء سماعه للنكتة ، وقارن بين شدة ضحكهما .

غالباً .. سيكون صديقك المبتسم استمتع وضحك للنكتة أكثر من الآخر !! .

هذا ليس سحراً ..إنه ما يُسمى بـ"الإدراك المتجسد" ، والذي يعني - باختصار وتبسيط - أن حركة أجسامنا تؤثر على إدراكنا ... وتبسمك يزيد من مرح دماغك بالنكتة .

في تجربة لبروفيسورة علم النفس السيدة آنا بورغي Anna Borghi وضعت أقلاماً في فم مشاركين وطلبت منهم أن يطبقوا عليها بأسنانهم بحيث يكونوا مبتسمين ، ثم قالت لهم جملاً سارة وأخرى كئيبة وفي كلاهما شيئاً من الإبهام .

المشاركون فهموا الجمل السارة أسرع من الجمل الكئيبة ، وذلك لأن ابتسامتهم المصطنعة أثرت على كيفية إدراكهم ، وفهموا الأشياء السارة بشكل أفضل .

قِس هذا على الفن ...

أدمغة البشر مختلفة وحواسهم متباينة ، وعندما يقفون أمام عمل فني لا ينظرون له بطريقة متشابهة ، بعضنا يتمعن به ويندمج معه كلياً وبعضنا لا ، وما تعتقد أنه جميل وفن هو الشيء الذي تحركت عيناك وحواسك له بطريقة أثرت على دماغك وإدراكك ورأته فناً ... كأن تكون عيناك ركزت على الألوان أو زوايا النحت وما أشبه .

بَـيدَ أنَّ بعض الأعمال الفنية مجردة ولا تسحر العينين والحواس ، والرسالة الفنية التي تحملها يصعب تفسيرها وبالتالي فإن كثير منا سيراها شيئاً تافهاً ، وقلة قليلة فقط قد تراها فناً لأنها فهمت مضمونها المعقد ... وإني أتفق كلياً مع منتقديها فهي مبهمة والناس تكره المبهمات عموماً ، والفن جاء ليبسط الحياة بمتعة لا ليعقدها .

لنتحدث الآن عن الأثر النفسي للفن الذي لا يختلف عليه عاقلان ... كتراث دافنشي ، ولوحات بيكاسو ، وجراح فان كوخ التي جسدها بلوحاته .

يعتبر الدكتور سمير زكي من جامعة لندن أشهر علماء النفس الذين اكتشفوا وكتبوا عن أثر الفن على الدماغ ، وقد كتب عدة كتب حول ذلك ، ككتاب "رؤية للدماغ - A vision of the brain" .

يقول السيد سمير : إن مجرد رؤية الفن يمنح الشعور بالمتعة ويدر بالدماغ المزيد من هرمون الدوبامين .. إنه يشبه إلى حد كبير الوقوع في الحب .

وكلامه لم ينبع من فراغ ، فقد قام بتجربة وعرض على مجموعة من المشاركين 30 لوحة لكبار الفنانين ، وراقب نشاط أدمغتهم عن طريق أشعة الـFMRI ، فكان الدم يتدفق أكثر بنسبة 10% في منطقة القشرة البصرية Visual Cortex عندما يرون اللوحات الفنية ، وهي ذاتها المنطقة التي تنشط عند رؤيتك لأشخاص تحبهم .

وفي تجربة أخرى اكتشف أن منطقة القشرة المدارية كانت تنشط جداً أثناء رؤية اللوحات الفنية ، وهي منطقة تتحفز عند إدراك المتعة ، أي إن النظر للفن ممتع كنظر الجائع لطبقه المفضل بين يديه .

وفي دراسة أجريت على أكثر من 10,000 طالب زاروا متحف الفنون لمدة ساعة واحدة ، لاحظ العلماء تغيراً في طريقة تفكيرهم وشعورهم ، فقد زادت مهارات التفكير النقدي لديهم ، وأظهروا تعاطفاً أكبر تجاه الناس الذين عاشوا في الماضي وعانوا الويلات ، وأعربوا عن تعاطف أكبر تجاه الأشخاص المختلفين معهم عرقياً أو فكرياً .

ويقول بروفيسور علم النفس السيد داشار كيلتنر Dacher Keltner : إن روعة وجمال الفن تعزز المستويات الصحية لبروتين السيتوكينات ، وهذا يعني أن الاندماج في الفن والنظر له بتمعن لها تأثير مباشر على الصحة ومتوسط العمر المتوقع .

وفي دراسة للبروفيسور داشار في جامعة كاليفورنيا بيركلي أجراها على مجموعة من المشاركين عاشوا لحظات ممتعة مع اللوحات الفنية ، وجد أن المشاركين كانت لديهم أدنى مستويات بروتين الإنترلوكين 6 ، وهو البروتين الذي يُفرز في الجسم عند الشعور بالضغط النفسي ويسبب التهاب خلايا الجسم وتدميرها .

أي التمتع بالفن كان استرخاءً للجسم ودورة علاجية خففت القلق والتوتر والضغط النفسي ... لذا أتفق مع بيكاسو عندما قال : الفن ينقي الروح من شوائب الحياة اليومية .

وإن كان لمشاهدة الفن هذا الأثر النفسي الرائع ، فبلا أدنى شك أن ممارسته لها أثر بالغ أيضاً على خلايا الدماغ.

يحكي الفيلم العلمي الوثائقي "أتذكر أفضل عندما أرسم" كيف حفز الرسم ذاكرة مرضى الزهايمر والخرف ، وكيف جعلهم الرسم سعداء ومَكَّـنَـهم من العودة لممارسة الحياة بشكل أفضل .

ويتضمن الفيلم مقابلات مع أشهر علماء الأعصاب وبعض المرضى الذين تبدلت حياتهم للأفضل .. لذا أدعوك لمشاهدته بعد قراءة المقال .

(رابط الفيلم Film clips from "I Remember Better When I Paint" - YouTube )

وفي عام 2017م نشرت الدكتورة كايمال Girija Kaimal وهي اختصاصية العلاج بالفن بحثاً رائعاً حول العلاج بالفن ، إذ راقبت أدمغة 26 شخصاً أثناء محاولتهم رسم لوحات فنية ، فرأت أن منطقة "نظام المكافأة في الدماغ" تنشط عند قيامهم بذلك .

أي انتشت خلاياهم وشعروا بمتعة بالغة ... الأمر أشبه بوصولك لمبتغاك وتحقيق أهدافك بعد جهد وانتظار ، أو ممارسة الجنس ، أو الأكل بعد الجوع .

لذلك تقول السيدة كايمال : إن الرسم مفيد لمعالجة اضطرابات المزاج والأكل أو سلوكيات الإدمان .

وفي بحث آخر للسيدة كايمال - عام 2016 - قاست مستوى هرمون الكورتيزول - هرمون القلق - لمشاركين يشعرون بالتوتر ، ثم ادخلتهم للمرسم وطلبت منهم محاولة الرسم لمدة 45 دقيقة ، ثم قاست مستويات الهرمون بعد ذلك .

ولاحظت انخفاضاً حاداً في مستويات الهرمون قبل الرسم وبعده ، ولم تكن هناك فروق في مستويات انخفاض الهرمون بين الفنانين ذوي الخبرة وبين الآخرين الذين لا يتقنون الرسم ... مجرد محاولة الرسم كانت سبباً في انخفاض هرمون القلق وتحسين المزاج .

وفي عام 2018 نشرت الدكتورة كايمال بحثاً آخراً حول فوائد الفن والتركيز ، إذ لاحظت أن محاول القيام بأعمال فنية - سواء النحت أو الرسم أو غيرها - يزيد من موجات "ثيتا" و "ألفا" في الدماغ .

وموجات "ثيتا" هي موجات تعلو عند الشعور بالهدوء العميق والانغماس في الذكريات والتخيلات ، أما موجات "ألفا" فهي الموجات التي تظهر في دماغك أثناء مشيك في الحديقة أو عند الاستلقاء على الشاطئ مثلاً .. إنها موجات الاسترخاء .

وكِلاهما يساعدان الدماغ على التركيز والتأمل .

وإن كنت سيدي القارئ - كحالي - لا تحسن الرسم فهذا خبر جيد جداً لك . ( زغرطي يا انشراااااااح 😜)

في دراسة للباحثة الدكتورة سوزان Susan Serice قارنت انخفاض مستويات القلق عند القيام بأعمال فنية والرسم الحر باحتراف وبين الرسم المبتدئ على النماذج الجاهزة - تصميم ماندالا الهندسي - .

ورأت أن الذين لا يتقنون الرسم عندما قاموا بتلوين الأشكال الهندسية انخفضت مستويات القلق لديهم أكثر من أولئك الذين رسموا اللوحات .


( تلوين تصميم ماندالا )

إذن سيدي القارئ لصحتك النفسية والبدنية لا تحرم عيناك من مشاهدة الفن ، وانغمس برؤية ما تعتقد أنه عمل فن حقيقي ... والأمر لا يتطلب الذهاب للمتحف يومياً ، بكل بساطة قم بتحميل برنامج Daily Art ، وهو برنامج مهتم بالفن يقدم لك جرعة يومية من الفن وأشهر اللوحات .

جرب تحميل البرنامج ... وانظر إلى اللوحات لمدة خمس دقائق يومياً فقط ، و أُأكد لك ستشعر بالفرق .

وأيضاً حاول بين الحين والآخر القيام بأعمال فنية ، وإن كنت لا تحسن ذلك فلا شك أن أقرب مكتبة من منزلك تبيع الأشكال الهندسية القابلة للتلوين - ماندالا - ، إن لها أثراً رائعاً على مشاعرك وقوة ذاكرتك وعموم دماغك.

وإن كان يومك قد مر بتقلبات وضغط نفسي أرهقا خلايا دماغك ، فلا شك أن الرسم والفن عموماً أحد الأشياء التي ستساهم في استشفائك .. جَرِّب ذلك قبل النوم ، وستذكرني حينها بدعائك .

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بقية المقالات
Share by: