مرحباً بك بـيـن حكاياتي
(نظارات كيفن على أرض المتحف)
وبعد ساعة من الضحك التقط "كيفن" نظارته وعاد إلى منزله ... وترك خلفه المتحف والمرحاض .
سيدي القارئ ...
هل تتفق مع "كيفن" بأن بضع الأعمال الفنية تافهة لا ترقى أن تكون فناً ؟ وما هو الفن من منظورك ؟ وهل تعتقد أن للفن أثر على دماغك ؟
قبل الجواب ... قم بهذه التجربة .
احفظ نكتة مضحكة وقلها لصديقك ، واذهب بعدها إلى صديق آخر ، وقل له ذات النكتة ، ولكن اطلب منه أن يكون مبتسماً أثناء سماعه للنكتة ، وقارن بين شدة ضحكهما .
غالباً .. سيكون صديقك المبتسم استمتع وضحك للنكتة أكثر من الآخر !! .
هذا ليس سحراً ..إنه ما يُسمى بـ"الإدراك المتجسد" ، والذي يعني - باختصار وتبسيط - أن حركة أجسامنا تؤثر على إدراكنا ... وتبسمك يزيد من مرح دماغك بالنكتة .
في تجربة لبروفيسورة علم النفس السيدة آنا بورغي Anna Borghi وضعت أقلاماً في فم مشاركين وطلبت منهم أن يطبقوا عليها بأسنانهم بحيث يكونوا مبتسمين ، ثم قالت لهم جملاً سارة وأخرى كئيبة وفي كلاهما شيئاً من الإبهام .
المشاركون فهموا الجمل السارة أسرع من الجمل الكئيبة ، وذلك لأن ابتسامتهم المصطنعة أثرت على كيفية إدراكهم ، وفهموا الأشياء السارة بشكل أفضل .
قِس هذا على الفن ...
أدمغة البشر مختلفة وحواسهم متباينة ، وعندما يقفون أمام عمل فني لا ينظرون له بطريقة متشابهة ، بعضنا يتمعن به ويندمج معه كلياً وبعضنا لا ، وما تعتقد أنه جميل وفن هو الشيء الذي تحركت عيناك وحواسك له بطريقة أثرت على دماغك وإدراكك ورأته فناً ... كأن تكون عيناك ركزت على الألوان أو زوايا النحت وما أشبه .
بَـيدَ أنَّ بعض الأعمال الفنية مجردة ولا تسحر العينين والحواس ، والرسالة الفنية التي تحملها يصعب تفسيرها وبالتالي فإن كثير منا سيراها شيئاً تافهاً ، وقلة قليلة فقط قد تراها فناً لأنها فهمت مضمونها المعقد ... وإني أتفق كلياً مع منتقديها فهي مبهمة والناس تكره المبهمات عموماً ، والفن جاء ليبسط الحياة بمتعة لا ليعقدها .
لنتحدث الآن عن الأثر النفسي للفن الذي لا يختلف عليه عاقلان ... كتراث دافنشي ، ولوحات بيكاسو ، وجراح فان كوخ التي جسدها بلوحاته .
يعتبر الدكتور سمير زكي من جامعة لندن أشهر علماء النفس الذين اكتشفوا وكتبوا عن أثر الفن على الدماغ ، وقد كتب عدة كتب حول ذلك ، ككتاب "رؤية للدماغ - A vision of the brain" .
يقول السيد سمير : إن مجرد رؤية الفن يمنح الشعور بالمتعة ويدر بالدماغ المزيد من هرمون الدوبامين .. إنه يشبه إلى حد كبير الوقوع في الحب .
وكلامه لم ينبع من فراغ ، فقد قام بتجربة وعرض على مجموعة من المشاركين 30 لوحة لكبار الفنانين ، وراقب نشاط أدمغتهم عن طريق أشعة الـFMRI ، فكان الدم يتدفق أكثر بنسبة 10% في منطقة القشرة البصرية Visual Cortex عندما يرون اللوحات الفنية ، وهي ذاتها المنطقة التي تنشط عند رؤيتك لأشخاص تحبهم .
وفي تجربة أخرى اكتشف أن منطقة القشرة المدارية كانت تنشط جداً أثناء رؤية اللوحات الفنية ، وهي منطقة تتحفز عند إدراك المتعة ، أي إن النظر للفن ممتع كنظر الجائع لطبقه المفضل بين يديه .
وفي دراسة أجريت على أكثر من 10,000 طالب زاروا متحف الفنون لمدة ساعة واحدة ، لاحظ العلماء تغيراً في طريقة تفكيرهم وشعورهم ، فقد زادت مهارات التفكير النقدي لديهم ، وأظهروا تعاطفاً أكبر تجاه الناس الذين عاشوا في الماضي وعانوا الويلات ، وأعربوا عن تعاطف أكبر تجاه الأشخاص المختلفين معهم عرقياً أو فكرياً .
ويقول بروفيسور علم النفس السيد داشار كيلتنر Dacher Keltner : إن روعة وجمال الفن تعزز المستويات الصحية لبروتين السيتوكينات ، وهذا يعني أن الاندماج في الفن والنظر له بتمعن لها تأثير مباشر على الصحة ومتوسط العمر المتوقع .
وفي دراسة للبروفيسور داشار في جامعة كاليفورنيا بيركلي أجراها على مجموعة من المشاركين عاشوا لحظات ممتعة مع اللوحات الفنية ، وجد أن المشاركين كانت لديهم أدنى مستويات بروتين الإنترلوكين 6 ، وهو البروتين الذي يُفرز في الجسم عند الشعور بالضغط النفسي ويسبب التهاب خلايا الجسم وتدميرها .
أي التمتع بالفن كان استرخاءً للجسم ودورة علاجية خففت القلق والتوتر والضغط النفسي ... لذا أتفق مع بيكاسو عندما قال : الفن ينقي الروح من شوائب الحياة اليومية .
وإن كان لمشاهدة الفن هذا الأثر النفسي الرائع ، فبلا أدنى شك أن ممارسته لها أثر بالغ أيضاً على خلايا الدماغ.
يحكي الفيلم العلمي الوثائقي "أتذكر أفضل عندما أرسم" كيف حفز الرسم ذاكرة مرضى الزهايمر والخرف ، وكيف جعلهم الرسم سعداء ومَكَّـنَـهم من العودة لممارسة الحياة بشكل أفضل .
ويتضمن الفيلم مقابلات مع أشهر علماء الأعصاب وبعض المرضى الذين تبدلت حياتهم للأفضل .. لذا أدعوك لمشاهدته بعد قراءة المقال .
(رابط الفيلم Film clips from "I Remember Better When I Paint" - YouTube )
وفي عام 2017م نشرت الدكتورة كايمال Girija Kaimal وهي اختصاصية العلاج بالفن بحثاً رائعاً حول العلاج بالفن ، إذ راقبت أدمغة 26 شخصاً أثناء محاولتهم رسم لوحات فنية ، فرأت أن منطقة "نظام المكافأة في الدماغ" تنشط عند قيامهم بذلك .
أي انتشت خلاياهم وشعروا بمتعة بالغة ... الأمر أشبه بوصولك لمبتغاك وتحقيق أهدافك بعد جهد وانتظار ، أو ممارسة الجنس ، أو الأكل بعد الجوع .
لذلك تقول السيدة كايمال : إن الرسم مفيد لمعالجة اضطرابات المزاج والأكل أو سلوكيات الإدمان .
وفي بحث آخر للسيدة كايمال - عام 2016 - قاست مستوى هرمون الكورتيزول - هرمون القلق - لمشاركين يشعرون بالتوتر ، ثم ادخلتهم للمرسم وطلبت منهم محاولة الرسم لمدة 45 دقيقة ، ثم قاست مستويات الهرمون بعد ذلك .
ولاحظت انخفاضاً حاداً في مستويات الهرمون قبل الرسم وبعده ، ولم تكن هناك فروق في مستويات انخفاض الهرمون بين الفنانين ذوي الخبرة وبين الآخرين الذين لا يتقنون الرسم ... مجرد محاولة الرسم كانت سبباً في انخفاض هرمون القلق وتحسين المزاج .
وفي عام 2018 نشرت الدكتورة كايمال بحثاً آخراً حول فوائد الفن والتركيز ، إذ لاحظت أن محاول القيام بأعمال فنية - سواء النحت أو الرسم أو غيرها - يزيد من موجات "ثيتا" و "ألفا" في الدماغ .
وموجات "ثيتا" هي موجات تعلو عند الشعور بالهدوء العميق والانغماس في الذكريات والتخيلات ، أما موجات "ألفا" فهي الموجات التي تظهر في دماغك أثناء مشيك في الحديقة أو عند الاستلقاء على الشاطئ مثلاً .. إنها موجات الاسترخاء .
وكِلاهما يساعدان الدماغ على التركيز والتأمل .
وإن كنت سيدي القارئ - كحالي - لا تحسن الرسم فهذا خبر جيد جداً لك . ( زغرطي يا انشراااااااح 😜)
في دراسة للباحثة الدكتورة سوزان Susan Serice قارنت انخفاض مستويات القلق عند القيام بأعمال فنية والرسم الحر باحتراف وبين الرسم المبتدئ على النماذج الجاهزة - تصميم ماندالا الهندسي - .
ورأت أن الذين لا يتقنون الرسم عندما قاموا بتلوين الأشكال الهندسية انخفضت مستويات القلق لديهم أكثر من أولئك الذين رسموا اللوحات .
( تلوين تصميم ماندالا )
إذن سيدي القارئ لصحتك النفسية والبدنية لا تحرم عيناك من مشاهدة الفن ، وانغمس برؤية ما تعتقد أنه عمل فن حقيقي ... والأمر لا يتطلب الذهاب للمتحف يومياً ، بكل بساطة قم بتحميل برنامج Daily Art ، وهو برنامج مهتم بالفن يقدم لك جرعة يومية من الفن وأشهر اللوحات .
جرب تحميل البرنامج ... وانظر إلى اللوحات لمدة خمس دقائق يومياً فقط ، و أُأكد لك ستشعر بالفرق .
وأيضاً حاول بين الحين والآخر القيام بأعمال فنية ، وإن كنت لا تحسن ذلك فلا شك أن أقرب مكتبة من منزلك تبيع الأشكال الهندسية القابلة للتلوين - ماندالا - ، إن لها أثراً رائعاً على مشاعرك وقوة ذاكرتك وعموم دماغك.
وإن كان يومك قد مر بتقلبات وضغط نفسي أرهقا خلايا دماغك ، فلا شك أن الرسم والفن عموماً أحد الأشياء التي ستساهم في استشفائك .. جَرِّب ذلك قبل النوم ، وستذكرني حينها بدعائك .
Created with GoDaddy Arabic Website Builder