مرحباً بك بـيـن حكاياتي
في عام 1977م قاد الكابتن جاكوب فان زانتين رحلة للخطوط الهولندية KLM، من مطار أمستردام إلى مطار لاس بالماس في إسبانيا.
إلا أنه أثناء الرحلة فَـجَّـرَ إرهابيون قنبلة في مطار الوصول، فاضطر جاكوب إلى النزول في مطار تينيريفي القريب منه، تمهيداً للعودة بالطائرة والركاب إلى أمستردام.
السيد جاكوب كان المشرف على تدريب طيارين شركة KLM، ورئيس برنامج الأمن والسلامة، وقد اختير ليكون الوجه الإعلاني للشركة في إعلانها التفاخري بالتزامهم في أوقات الطيران والذي يقول "الأشخاص الذين يجعلون الالتزام بالمواعيد ممكناً"، وكان أحد أهم أعمدة الشركة.
كان يريد العودة فوراً بالطائرة بعد نزوله وتزوده بالوقود، وقد أبلغ الشركة والمسافرين أنه سيعود خلال 6 ساعات بأقصى حد، إلا أن السلطات الإسبانية كانت تجبر الطيارين على فترات راحة بين الرحلة والأخرى، فاضطر إلى الانتظار لبضع ساعات، خلفت عليه ضغطاً نفسياً كبيراً... كيف لا وهو سيد الالتزام بالمواعيد؟!!
أخيراً منحت السلطات الإذن لجاكوب للعودة إلى أمستردام، فتوقف بطائرته على المدرج انتظاراً للإذن بالإقلاع، وفي المدرج بعض الطائرات الأخرى التي تريد الإقلاع أيضاً، وكان الضباب كثيفاً حينها مما يعني المزيد من التأخير وبالتالي المزيد من الضغط على جاكوب وخوفه من خسارة سمعته أو سمعة الشركة كأفضل الشركات التزاماً بالوقت.
جاكوب كان منفعلاً في قمرة القيادة وحاد الألفاظ مع زميلة وبرج المراقبة، ولم يكن يسمع بوضوح ما يقوله البرج نظراً لانفعاله وانشغاله بتوزيع الشتائم، وبالتالي انطلق بطائرته دون إذن بالإقلاع ظناً منه أن الطائرة التي سبقته قد غادرت المدرج.
وبعد أن شغل محركاته وانطلق بأعلى سرعة تفاجأ بوجود طائرة أخرى على المدرج، فحاول تفادي الاصطدام بها، ولكن لا جدوى....
لقد حدثت الكارثة بالفعل وتوفى جاكوب وجميع ركاب الطائرة، وتوفى عدد كبير من ركاب الطائرة الأخرى أيضاً، وكانت الحصيلة النهائية وفاة 583 فرد، ونجاة 61 آخرين، في كارثة تعد الأكثر دموية في تاريخ الطيران عموماً.
ماذا الذي قاد جاكوب لمثل هذا الفعل المتهور؟ أ ليس هدفه الأساسي العودة بالركاب والطائرة إلى أمستردام.. فما الذي زحزحه عن هدفه؟
قبل أن أحدثك عن طبعنا البشري... إليك هذه التجربة التي أجراها عالم الاقتصاد السلوكي الرائع دان آريلي على مجموعة من الطلبة في جامعة ماساتشوستس.
في التجربة يجلس الطالب أمام شاشة الكمبيوتر للقيام بلعبة تُـكسبه شيئاً من المال، إذ يكون أمامه ثلاثة أبواب (أحمر – أزرق – أخضر)، ويكون لديه في رصيده (100) نقرة بالفأرة، وعليه أن يفتح أحد الأبواب بنقرِهِ -لن تُـكسبه هذه النقرة شيئاً من المال- ثم يقوم بالضغط داخل الباب، وكل ضغطة ستربحه مبلغاً ما.
والأبواب تتراوح فيما بينها فالأخضر سيكسبه من 4 إلى 12 سنت بكل نقرة، والأحمر من 3 إلى 6 سنتات، والأزرق من 2إلى 5 سنتات بشكل عشوائي، وعلى الطالب التعرف على الباب الأكثر ربحاً ليكمل النقر فيه، أو يضغط بشكل اعتباطي -ولو في باب واحد- ليربح ما يربح، ولكن تبقى نقرة فتح الباب تنقص رصيد نقراته دون أن تُربحه أي مبلغ.
وهذا يعني أن الانتقال من باب إلى آخر في بادئ الأمر ستكون استراتيجية جيدة للبحث عن العائد الأكبر، إلا أن التخبط من باب إلى آخر بتهور يعني أنك استهلكت نقرات كان بإمكانها أن تربحك مالاً بدل ذلك.
كانت التجربة سهلة في هذه الحالة، وأجرتها مجموعة من الطلبة كسبوا بعضاً من المال... وسرعان ما تعرفوا على الباب الأخضر واستثمروا نقراتهم فيه.
ولكن الجزء المثير من التجربة لم يأتي بعد....
أتى السيد دان بمجموعة أخرى من الطلبة، وقدم لهم ذات اللعبة، إلا أن أي باب لا تفتحه خلال 12 نقرة ستخسره ويختفي إلى الأبد، وكانت الأبواب تتصاغر شيئاً فشيئاً إن لم يقم الطالب بفتحها، حتى تختفي تماماً بعد النقرة الـ 12.
في هذه الحالة كان غالبية الطلبة يفتحون أحد الأبواب ليستثمروا فيه نقراتهم، ولكن ما إن تتصاغر الأبواب الأخرى يسارعون بالضغط عليها كي لا يخسروها، وهذا يُصعِّب عليهم معرفة الباب الأكثر ربحاً، وبالتالي سيخسرون بعض النقرات للمحافظة على أبواب قد تكون الأقل في المكسب.
غالبية الطلبة في هذه الحالة تنقلوا من باب إلى آخر دون أن يُدركوا أن الباب الأخضر هو الأكثر ربحاً، وكانوا ينفعلون قليلاً في نقراتهم، وأجسامهم تميل بقوة إلى شاشة الكمبيوتر.
وأخيراً كانت الحصيلة أن الطلبة في هذه الحالة جنوا أموالاً أقل بشكل جوهري من المشاركين بالكيفية الأولى.
وإحصائياً لو فتح هؤلاء الطلبة أي باب واستثمروا كل نقراتهم فيه لربحوا أكثر مما ربحوا وهم يحافظون على بقاء الأبواب متاحة.
أتى السيد دان بمجموعة أخرى من الطلبة وأعاد عليهم اللعبة بالكيفية الثانية، ولكن أضاف إليها أن أي باب تريد فتحه عندما يبدأ بالتصاغر لن يُكلفك نقرة فحسب، بل سيُكلفك خصم 3 سنتات أيضاً.
فهل منع ذلك الطلبة من التنقل بشكل انفعالي بين الأبواب للمحافظة على بقائها؟
لا... لا زالت تلك الإثارة الغير منطقية تنتابهم بشأن إبقاء كل الخيارات متاحة.
وأتى السيد دان بمجموعة أخرى من الطلبة وأعاد عليهم التجربة بالكيفية الثانية، وأخبرهم أن الباب الأخضر سيكسبهم من 4 إلى 12 سنتات بكل نقرة، والأحمر من 3 إلى 6 سنت، والأزرق من 2إلى 5 سنت بشكل عشوائي.
وهنا المنطق يقول بوضوح افتح الباب الأخضر واستثمر فيه كل نقراتك ولتغب بقية الأبواب إلى الجحيم.
فهل تحمل غالبية الطلبة في هذه الحالة اختفاء الأبواب بعد النقرة الـ 12؟
سبرااااااااايز...... الجواب لا.
فكرة المحافظة على بقاء الأبواب وعدم خسارتها فكرة لا منطقية سيطرت على كل الطلبة... وشتتهم عن هدفهم الأساسي وهو حصد أكبر قدر من المال من خلال نقراتهم المحدودة.
وأتى السيد دان بمجموعة أخرى من الطلبة وأعاد عليهم اللعبة بطريقة تشبه الكيفية الثانية، ولكن الباب لن يتصاغر ويختفي إلى الأبد بعد النقرة الـ 12، فالباب سيبقى في ذات الحجم ولكن ستتباهت ألوانه، حتى يصبح شفافاً، ولكن لن يختفي إلى الأبد، بل تستطيع العودة إليه متى تشاء وفتحه بنقرة واحد، وسيعود إلى لونه الطبيعي.
وأيضاً لم يتحمل الطلبة هذا التباهت وأضاعوا نقراتهم بشكل اعتباطي ليحافظوا على بقاء الأبواب دون وصولها للونها الشفاف، رغم أن ذلك لا يعني اختفاءها للأبد وخسارتهم إياها... فقط يعني أنه غير ضروري لك فأنت منغمس في غيره.
الخوف من الخسارة سيطر على الطلبة بشكل لا منطقي، وكبدهم خسائر كان من الممكن تفاديها... وهذا هو طبعنا البشري.
نحن نحاول بلا عقلانية أن نبقي جميع الخيارات متاحة قدر المستطاع، ولو بتكلفة باهظة، عاجزين عن إلزام أنفسنا بغلق الأبواب المفتوحة وإبقاء خيار واحد مثمر وناجح... لأننا نخاف خسارتها.
كثير من تصرفاتنا في حياتنا اليومية قائمة على الخوف من الخسارة وليس الربح، فعلى نحو مشابه قد نشتري منتجاً في التنزيلات، ليس لأننا بحاجة حقيقية له، ولكن لأنه في نهاية التنزيلات سيختفي هذا السعر المميز ولن نحصل عليه بعد ذلك.
وكما يقول الفيلسوف والاقتصادي الأمريكي كينيث إي بولدينج: " قد تكون معرفة الخسائر المحتملة مؤثرة في السلوك أكثر من الأرباح المتوقعة، لذا فإن تعظيم الربح ليس هو القوة الدافعة حقاً، إن الخوف من الخسارة هو ما يحد سلوكنا".
والأمر لا ينطبق على قراراتنا المالية فقط، بل الاجتماعية والعاطفية أيضاً...
قد ننخرط أحياناً في علاقات تبدأ بشكل رائع، ويتخللها الكثير من الود أو الانجذاب، ولكن سرعان ما يتبدل الأمر لتصبح العلاقة سامة، لا لأننا لم نحسن الاختيار في بادئ الأمر، بل لأن الأيام تُغير الناس، وقد تُغيرهم للأسوأ، وهنا المنطق يقول اغلق الباب في وجه تلك العلاقة واستمتع بحياتك مع الأبواب الأخرى الأكثر لطفاً، ولكن طبعنا البشري اللامنطقي في المحافظة على جميع الأبواب سيبقيهم في حياتنا... ونتكبد مرارة وصلهم.
مشاعرنا.. ذكرياتنا... أفكارنا... كثير منها يبقى متعلقاً في تلك الأبواب التي كان يجب علينا إغلاقها...
وفي الحقيقة ما ألهمني لأكتب هذا المقال هو أنني التقيت قبل برهة بزميلتي دكتورة علم النفس الرائعة Amanda C. Marshall من جامعة ماكسمليان في ميونخ، وحكت لي حالة مرضية أنقلها لك...
"جوليا" فتاة جميلة تعرفت على شابين يتمنيان الزواج بها، وكفتاة عاقلة كان عليها أن تكرس عاطفتها لشخص واحد منهما فقط.
كانت علاقتها بالشاب الذي تعرفت عليه أولاً تنهار تدريجياً، ويشوبها بعض الغضب والمشاجرات، بينما الشاب الآخر كان أكثر هدوء وعقلانية وحباً، وكانت تظنه الأفضل ليكون زوج المستقبل، إلا أنها في ذات الوقت كانت عاجزة عن غلق باب الشاب الأول... كانت تتواصل معه خوفاً من خسارته، رغم وجود شاب آخر هو الأنجح لتكوين الأسرة... مساءلةً نفسها هل في فترة متقدمة من الحياة ستكتشف أنها ربما أحبت الأول أكثر من الآخر؟
وبالتالي... عاشت جوليا ضغطاً نفسياً، لم تستطع أن تعطي الشاب الآخر ما يستحقه من حب، ولم تكن على استعداد لخسارة الأول، ثم بدأ عقلها -المتجمد بين خوف الخسارة والتمتع بعلاقة ناجحة- بالانهيار، وبكل غضب خسرت الإثنين معاً، مما زاد الطين بلة، وأدخلها باكتئاب أفسد جودة حياتها. (بالمناسبة... السيد دان أريلي أيضاً يستشهد في بحثه بحالة مشابهة لجوليا لكنها لم تنهار، بل اتخذت القرار الأفضل متأخراً وتمسكت بالأصلح)
وعلى صعيد الحياة... أحياناً نحاول إنجاز الكثير من المشاريع، نفتح لأنفسنا العديد من الأبواب، لكن طاقتنا الإنسانية المحدودة لا تسعفنا لأدائها كلها، لكننا نخاف الخسارة ونريد المحافظة على كل المشاريع معاً، لتكون الحصيلة في النهاية عدم إنجاز أي منها.. أو القيام ببعضها بأسوأ وجه.
لا تظن أنك سيدي القارئ تستطيع أن تفتح كل الأبواب وتبدع فيها... لن تستطيع أن تنجز في عملك، وتذهب إلى الصالة الرياضية، وتزور الأصدقاء، وتحسن إلى عائلتك، وتقرأ الكتب، وتشاهد الأفلام، وتساعد مجتمعك، وتتقرب إلى الله بالعبادة و..و..و.. في ذات الوقت، كلها أبواب رائعة لكنك لا تستطيع أن تفتحها كلها وتحافظ عليها... أغلق الأبواب أمام التزاماتك واخسر بعضها لتنجح في البقية.
وفي بعض الأحوال اغلق كل الأبواب وافتح واحداً واستثمر فيه.. بالأخص لو كان لهذا الباب علاقة بقلبك ومشاعرك.. امنحه فرداً فقط.
السيد جاكوب الطيار البارع كان يمتلك سمعة رائعة، ومكانة مرموقة في الشركة، وكان يخشى خسارتها، وفي رحلته الأخيرة أراد أن يحافظ على الركاب، وأن يلتزم بالتوقيت الذي حدده والذي سيضمن استمرار سمعته البهية، ولكن كِلا البابين لم يكونا ليفتتحا معاً، وبالتالي عاش ضغطاً نفسياً قاده للتصرف بتهور، وتسبب بأكبر حادث في تاريخ الطيران إلى يومنا هذا.
تذكر دائماً أننا نخشى الخسارة، فنبقي الأبواب كلها مفتوحة، لكن النجاة في دحض هذا الطبع البشري المدمر، واغلاق الأبواب وتحمل شعور الخسارة... لذا تفكر الآن في كل الأبواب التي في حياتك... وما التي يتوجب عليك اغلاقها.
Created with GoDaddy Arabic Website Builder