مرحباً بك بـيـن حكاياتي
أبطأ من فند
أ تظن أنك لا تُعاني من مشكلة ؟!
كانت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص تمتلك عبداً شجي الصوت عَذب الغناء يُسمى "فند"، فقالت له ذات يوم اقبس لنا من الجيران ناراً واعجل علينا كي نطبخ الطعام، فقال لها على أمرك مولاتي، وخرج يتسكع في الأحياء باحثاً عن نار، وكان يمشي ويغني طرباناً، فرأى قافلة تريد السفر فوقف أمامها متطفلاً واستمر في غنائه.
استحسن أهل القافلة غناءه وأثنوا عليه، فقال لهم إلى أين تريدون السفر؟، فقالوا إلى مصر.، فقال أ تأخذوني معكم أُغني لكم وأخدمكم؟، فرحبوا به واستأنسوا بالفكرة.
فسافر معهم وقضى عاماً كاملاً في مصر، وبعد أن عاد إلى المدينة ذهب مباشرة إلى بيت أحد الجيران واقتبس ناراً، وحملها وجاءً مهرولاً إلى بيت مولاته عائشة، ولما دخل الدار مسرعاً تعثر وأسقط النار بالقرب منها فانطفأت، فالتفت إليها وقال: بئساً والله للعجلة. (أي والله يا فند يستعجلون الواحد ويخلونه يتعثر... خو نطرو سنه سنتين اشفيكم مستعجلين على بطونكم؟! 😜)
فقالت له عائشة بنت سعد:
بَـعَثـتُـكَ قابِـساً فَـلَـبِثـتَ حَولاً * متى يَـأتي غِـياثُـكَ يا مُـغيـثُ
وأصبح العرب يقولون مثلاً (أبطأ من فند) على الذي يتأخر في قضاء الحاجة.
"فند" لم يفكر في نقاش خطئه والتأخر لمدة سنة دون إذن مولاته، ولم يرى أن تصرفه كان فيه حماقة وغباء وأنه عبد أبق، بل وكأنه بالتفاته إليها يُعاتبها على استعجالها له منزهاً نفسه عن الخطأ.
"فند" نموذج حاد لحالة يمر فيها كل البشر بدرجات متفاوتة... نحن البشر عموماً ننكر في كثير من الأحيان وجود مشكلة في شخصياتنا أو سلوكنا، ولحسن حظك سيدي القارئ أنني هنا اليوم لأُنكِّد عليك وأوضح لك ذلك. 😜
الحياة كما ترى ليست عالماً وردياً، فنحن نمر بمواقف كثيرة تُخلِّف فينا مشاعر مؤلمة، وأحياناً تكون المشاعر أقسى من أن تـتحملها أدمغتنا، وغالباً ما يكون ذلك عندما يحدث لك تَغيُّر مفاجئ أو كبير في حياتك، كتعرضك لخسارة كبيرة أو انفصال عاطفي لعلاقة تخللتها أيام رائعة.
الدماغ عندما يُكابد تلك المشاعر المؤلمة يحاول أن يخفف عن نفسه وطأتها، فيلجئ إلى خداع نفسه ليتجنب مشاعر القلق والألم العاطفي أو ليرى نفسه أنه مقبول من المجتمع، أو كي لا يرى نفسه ضعيفاً بالأخص إن كان يؤمن أنه شخص قوي جداً.
ويخادع الدماغ نفسه عبر الكثير من الأفكار التي تُسمى في علم النفس بـ"الآليات الدفاعية" وأحد تلك الآليات تُسمى "الإنكار" وهي موضع نقاشنا اليوم....
إن للإنكار وجوهاً عدة، فتارة ينكر الإنسان بكل بساطة وجود مشكلة ما، أو لا يعتقد بأنه مخطئ في تصرفاته، فمثلاً ينكر الشخص الكسول أن جزءاً كبيراً من مآسي حياته ترتَّبت عليه بسبب كسله، بل ينظر للحياة على أنها غير عادلة وسيئة.
وأحياناً يكون الإنكار بالتقليل من حجم المشكلة، فالشخص سريع الانفعال بسبب مشاعره -أو سمه إن شئت حساساً- لا يرى أن لهذه الصفة أثر بالغ على الانتكاسات العاطفية التي يمر فيها ببعض علاقاته الاجتماعية، بل يرجعها لتصرفات الآخرين أو سوء التفاهم وما أشبه.
وأخيراً قد يرى الإنسان بعينيه المشكلة ويعلم الصفة السيئة التي تـتخلله لكنه ينكر حاجته لتغييرها، أو أن الأمر أكبر من أن يقوم هو بتغييره، أو يتقاعس عن حلها لثقل ما ستخلفه المواجهة من مشاعر سلبية، كشخصٍ يتخذ الكثير من القرارات السيئة في حياته ويعلم أن هناك خطئاً في شخصيته وطريقة تفكيره، بَـيـدَ أنَّـه لا يحاول أصلاً تطوير شخصيته أو استصلاح عثراتها، سواء بمساعدة معالج نفسي أو بتفكر عميق.
وإن أردت أن تسأل نفسك هل تقوم بالإنكار في حياتك أم لا... فالجواب نعم أنت حتماً تقوم بذلك ولكن يتفاوت البشر في حجم ذلك، فمنهم من مثل "فند" ومنهم من أقل من ذلك، ففي الدماغ منطقتين تُسمى (DACC - Left SMST) مسؤولتين عن ذلك، أي أن الإنكار جزء أصيل من أدمغتنا.
وفي دراسة شرح علماء النفس لـ600 شخص انحرافات التفكير وأن الإنسان قد ينكر وجود مشاكل في حياته أو سلوكه فيرى نفسه أجمل مما هي عليه في الواقع، فرأى 85% منهم أنهم بعيدون عن هذا ولم يقعوا بذلك من قبل، ومن أولئك الـ600 فقط شخصٌ واحد اقتنع وقال نعم إنه سقط في ذلك.
فلا تكن سيدي القارئ مثلهم بل كان ذلك الواحد أرجوك... بنفسي أنت.
والآن أرجو أن تـتجول في ذاكرتك وتجيبني على بعض الأسئلة.
هل شعرت بعد أزمة عاطفية أو أحد مشاكل الحياة أنك عالق أو ضائع لا تدري إلى أين يجب عليك المسير أو ماذا تريد من نفسك؟
هل ترفض الحديث عن المشكلة التي واجهتك مع أشخاص قريبون منك؟
هل تحاول أن تشغل نفسك بالكثير من العمل كي لا تفكر بالمعضلات التي تمر بها؟
هل سألك أحدهم عن شعورك فأجبته أنك بخير حتى دون التفكير في الأمر؟
هل تحاول أن تتجنب المشاعر الكبيرة كالحب أو الشغف والحماس؟
هل مررت بأشياء سلبية متكررة كخوض علاقات ضارة مراراً أو المعاناة من خسائر عدة في ذات المجال؟
هل استخدمت عبارات من نوع "جميع الأشخاص (تذكر صفة) هم (تذكر سلبية) ؟ مثلاً (جميع الرجال خونة) (جميع النساء مزاجيات) (جميع المدراء متعجرفين) ( الأمهات لا يرضيهن شيء)... إلخ
حسناً إن أجبت عن سؤالين وأكثر بنعم... فأنت تُعاني من إنكار يستوجب عليك فعلاً إعادة التفكير بعمق في اصلاح الحياة أو طلب المساعدة في ذلك، وأعني من مختص أو قراءة كتب علمية نفسية وليس من نصائح خالتك.
ولعلك سيدي تقول أنك الآن بخير وحتى إن كنت تمارس الإنكار فذلك لم يُميتك... وذلك صحيح الإنكار لن يقتلك حتماً ولكن سيربك شعورك في الكثير من الأحيان وسيقلل جودة حياتك، وسيجعلك تشعر بالكثير من الخوف أو الحزن مرارا وتكراراً دون توقف، فمن يخاف الموت سيموت في الميدان مئة مرة من القلق قبل أن يموت حقاً.
البشر تخاف من مواجهة المشكلة لذلك تلجأ لآليات الدفاع، ولكن مخاوفك لن تبتعد عنك وإن حاولت تجنبها، فما إن يخطر أمام عينيك ما يذكرك بمشاكلك، سينقض عليك الخوف ومشاعر سلبية جمة لا تتمنى أن تشعر بها... لذلك ورحمة بنفسك يجب عليك أن تتخلص من الإنكار... لذا أرجوك اعرني انتباهك.
في دراسة أقيمت في جامعة أوهايو لعالما النفس روي ليويك و ليا بولين وجدا أن من الأسهل على الناس أن يقولوا "أنا آسف لأنني آذيتك" بدلاً من قول "أنت على حق لقد ارتكبت بحقك خطأ".
أي أن البشر يحاولون تصحيح الوضع عاطفياً دون تحمل المسؤولية التامة للخطأ والاعتراف صراحة به.
لذا فأول نصيحة ممكن أن أسيدها لك هي... تحمل المسؤولية.
غالباً ما يكون الإنكار لإلقاء اللوم على شيء خارج أنفسنا، أو أن المشكلة ليست مشكلة حقاً أو إنها مشكلة لكنها ليست نهاية الحياة، فنتنزه عن مسؤوليتنا ودورنا في ظروفنا.. وذلك سخافة... والاعتراف بالمشكلة أول الحل.
أضف لذلك لكي تتحمل المزيد من المسؤولية يجب أن تقبل أنه لا يمكنك التحكم في الطريقة التي يتصرف بها الآخرون، لكن يمكنك التحكم في الطريقة التي تتفاعل بها كردة فعل على تصرفهم، يمكنك التحكم في عواطفك... وهذا هو الفرق بين أولئك الذين يتركون الحياة تحدث لهم وبين الذين يجعلون الحياة حدثاً يُعاش.
ونصيحتي الثانية لك هي كن أكثر وعياً بنفسك.
آليات الدفاع هي وسيلة لتجنب مشاعرك الحقيقية، تميل إلى الظهور كوسيلة لحماية أنفسنا عندما نشعر بالضعف أو القلق أو التوتر، لذا كُن واعياً أنك تستخدمها، وحاول أن تسمح لتلك المشاعر المكسورة فيك للتعبير عن نفسها... استمع لحزنك وخوفك وقلقك بإنصات، ولا تسمح للّاوعي أن يتغلب عليك ويخرسها.
سيدي هل تتذكر تلك المنطقتين في الدماغ المسؤولتين عن الإنكار (DACC - Left SMST) ؟
نعم هما يمارسان الإنكار لدى عامة الناس، إلا أنهما لا يمارسان نشاطهما المعتاد لمرضى الاكتئاب، ففي دراسة قام بها عالم الأعصاب الياباني ماكيكو يامادا Makiko Yamada وزملاء له عام 2013م وجد أن كِلا المنطقتين لا تمارسان نشاطهما عندما يكابد المرء الاكتئاب، وكلما زاد استماع الفرد لحزنه وخوفه وقلقه كلما قل أداء المنطقتين.
ولا أدعوك هنا للدخول بحالة اكتئاب كي تحل مشاكلك، فالشخص إن استمع لحزنه ثم تعامل مع توتره ومشاكله وبدأ بتغيير حياته فإن ذلك سيمنحه شعوراً بالرضا، وبالتالي تتجه حياته نحو الأفضل، ويكون الحزن عصياً عليه.
وأضيف أيضاً... أحياناً ولِـما نمر به من ضغوط نفسية قد يتعذر على أدمغتنا الوصول للوعي بذاتها، لذا من الرائع قضاء بعض الوقت مع أشخاص مقربون منك يفكرون بشكل مختلف عنك، اسمح لهم بنقض تفكيرك في مختلف القضايا وكن على استعداد لتحطيم ما لا يتناسب مع نسختك من الواقع.
وثالثاً أقول... اكسر الأنماط.
نحن البشر يا سيدي القارئ مخلوقون من العادة، وكلنا نتعثر في الأنماط المتكررة، لذا فالدماغ إن تعلم الإنكار فإنه سيمتهنه إلى ما لا نهاية، وبمجرد أن تتحمل المسؤولية عن عواطفك، فأنت على استعداد لكسر روتين أفكارك السلبية والتوقف عن استخدام آليات الدفاع، وستتلذذ بشعور الشجاعة في مواجهة المشكلة بعد أول انتصار لك.
ولكن يا سيدي أرجو أن لا تنصدم أن عندما ترى أن الأمر صعب بعض الشيء في البداية، إنني أؤكد لك أنك لن تتخلص من الإنكار إلا بتحمل شقاق المشاعر السلبية وآلامها، وبشيء غير يسير من التفكير... إلا أن نتائجه تستحق العناء، فحالة السلام النفسي العاطفي والفكري الذي ستمر بها بعده جنة أُعدت للكادحين.
وأخيراً سيدي القارئ... ولأننا كلنا نعاني من الإنكار -بدرجات متفاوتة- فإني أنصحك -إن أجبت بنعم على بعض الأسئلة سابقة الذكر- أن تقرأ كتاب "كيف تُسيطر على قلقك" لعالم النفس آلبرت ألس (مكتبة جرير)، وكتابه الآخر والأهم "كيف تجعل حياتك سعيدة" والذي سأفوره لك هنا... فتفضل في تحميله.
Created with GoDaddy Arabic Website Builder