Blog Layout

أبطأ من فند
أ تظن أنك لا تُعاني من مشكلة ؟!

أبطأ من فند

أ تظن أنك لا تُعاني من مشكلة ؟!

كانت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص تمتلك عبداً شجي الصوت عَذب الغناء يُسمى "فند"، فقالت له ذات يوم اقبس لنا من الجيران ناراً واعجل علينا كي نطبخ الطعام، فقال لها على أمرك مولاتي، وخرج يتسكع في الأحياء باحثاً عن نار، وكان يمشي ويغني طرباناً، فرأى قافلة تريد السفر فوقف أمامها متطفلاً واستمر في غنائه.

استحسن أهل القافلة غناءه وأثنوا عليه، فقال لهم إلى أين تريدون السفر؟، فقالوا إلى مصر.، فقال أ تأخذوني معكم أُغني لكم وأخدمكم؟، فرحبوا به واستأنسوا بالفكرة.

فسافر معهم وقضى عاماً كاملاً في مصر، وبعد أن عاد إلى المدينة ذهب مباشرة إلى بيت أحد الجيران واقتبس ناراً، وحملها وجاءً مهرولاً إلى بيت مولاته عائشة، ولما دخل الدار مسرعاً تعثر وأسقط النار بالقرب منها فانطفأت، فالتفت إليها وقال: بئساً والله للعجلة. (أي والله يا فند يستعجلون الواحد ويخلونه يتعثر... خو نطرو سنه سنتين اشفيكم مستعجلين على بطونكم؟! 😜)

فقالت له عائشة بنت سعد:

بَـعَثـتُـكَ قابِـساً فَـلَـبِثـتَ حَولاً * متى يَـأتي غِـياثُـكَ يا مُـغيـثُ

وأصبح العرب يقولون مثلاً (أبطأ من فند) على الذي يتأخر في قضاء الحاجة.

"فند" لم يفكر في نقاش خطئه والتأخر لمدة سنة دون إذن مولاته، ولم يرى أن تصرفه كان فيه حماقة وغباء وأنه عبد أبق، بل وكأنه بالتفاته إليها يُعاتبها على استعجالها له منزهاً نفسه عن الخطأ.

"فند" نموذج حاد لحالة يمر فيها كل البشر بدرجات متفاوتة... نحن البشر عموماً ننكر في كثير من الأحيان وجود مشكلة في شخصياتنا أو سلوكنا، ولحسن حظك سيدي القارئ أنني هنا اليوم لأُنكِّد عليك وأوضح لك ذلك. 😜

الحياة كما ترى ليست عالماً وردياً، فنحن نمر بمواقف كثيرة تُخلِّف فينا مشاعر مؤلمة، وأحياناً تكون المشاعر أقسى من أن تـتحملها أدمغتنا، وغالباً ما يكون ذلك عندما يحدث لك تَغيُّر مفاجئ أو كبير في حياتك، كتعرضك لخسارة كبيرة أو انفصال عاطفي لعلاقة تخللتها أيام رائعة.

الدماغ عندما يُكابد تلك المشاعر المؤلمة يحاول أن يخفف عن نفسه وطأتها، فيلجئ إلى خداع نفسه ليتجنب مشاعر القلق والألم العاطفي أو ليرى نفسه أنه مقبول من المجتمع، أو كي لا يرى نفسه ضعيفاً بالأخص إن كان يؤمن أنه شخص قوي جداً.

ويخادع الدماغ نفسه عبر الكثير من الأفكار التي تُسمى في علم النفس بـ"الآليات الدفاعية" وأحد تلك الآليات تُسمى "الإنكار" وهي موضع نقاشنا اليوم....

إن للإنكار وجوهاً عدة، فتارة ينكر الإنسان بكل بساطة وجود مشكلة ما، أو لا يعتقد بأنه مخطئ في تصرفاته، فمثلاً ينكر الشخص الكسول أن جزءاً كبيراً من مآسي حياته ترتَّبت عليه بسبب كسله، بل ينظر للحياة على أنها غير عادلة وسيئة.

وأحياناً يكون الإنكار بالتقليل من حجم المشكلة، فالشخص سريع الانفعال بسبب مشاعره -أو سمه إن شئت حساساً- لا يرى أن لهذه الصفة أثر بالغ على الانتكاسات العاطفية التي يمر فيها ببعض علاقاته الاجتماعية، بل يرجعها لتصرفات الآخرين أو سوء التفاهم وما أشبه.

وأخيراً قد يرى الإنسان بعينيه المشكلة ويعلم الصفة السيئة التي تـتخلله لكنه ينكر حاجته لتغييرها، أو أن الأمر أكبر من أن يقوم هو بتغييره، أو يتقاعس عن حلها لثقل ما ستخلفه المواجهة من مشاعر سلبية، كشخصٍ يتخذ الكثير من القرارات السيئة في حياته ويعلم أن هناك خطئاً في شخصيته وطريقة تفكيره، بَـيـدَ أنَّـه لا يحاول أصلاً تطوير شخصيته أو استصلاح عثراتها، سواء بمساعدة معالج نفسي أو بتفكر عميق.

وإن أردت أن تسأل نفسك هل تقوم بالإنكار في حياتك أم لا... فالجواب نعم أنت حتماً تقوم بذلك ولكن يتفاوت البشر في حجم ذلك، فمنهم من مثل "فند" ومنهم من أقل من ذلك، ففي الدماغ منطقتين تُسمى (DACC - Left SMST) مسؤولتين عن ذلك، أي أن الإنكار جزء أصيل من أدمغتنا.

وفي دراسة شرح علماء النفس لـ600 شخص انحرافات التفكير وأن الإنسان قد ينكر وجود مشاكل في حياته أو سلوكه فيرى نفسه أجمل مما هي عليه في الواقع، فرأى 85% منهم أنهم بعيدون عن هذا ولم يقعوا بذلك من قبل، ومن أولئك الـ600 فقط شخصٌ واحد اقتنع وقال نعم إنه سقط في ذلك.

فلا تكن سيدي القارئ مثلهم بل كان ذلك الواحد أرجوك... بنفسي أنت.

والآن أرجو أن تـتجول في ذاكرتك وتجيبني على بعض الأسئلة.

هل شعرت بعد أزمة عاطفية أو أحد مشاكل الحياة أنك عالق أو ضائع لا تدري إلى أين يجب عليك المسير أو ماذا تريد من نفسك؟

هل ترفض الحديث عن المشكلة التي واجهتك مع أشخاص قريبون منك؟

هل تحاول أن تشغل نفسك بالكثير من العمل كي لا تفكر بالمعضلات التي تمر بها؟

هل سألك أحدهم عن شعورك فأجبته أنك بخير حتى دون التفكير في الأمر؟

هل تحاول أن تتجنب المشاعر الكبيرة كالحب أو الشغف والحماس؟

هل مررت بأشياء سلبية متكررة كخوض علاقات ضارة مراراً أو المعاناة من خسائر عدة في ذات المجال؟

هل استخدمت عبارات من نوع "جميع الأشخاص (تذكر صفة) هم (تذكر سلبية) ؟ مثلاً (جميع الرجال خونة) (جميع النساء مزاجيات) (جميع المدراء متعجرفين) ( الأمهات لا يرضيهن شيء)... إلخ

حسناً إن أجبت عن سؤالين وأكثر بنعم... فأنت تُعاني من إنكار يستوجب عليك فعلاً إعادة التفكير بعمق في اصلاح الحياة أو طلب المساعدة في ذلك، وأعني من مختص أو قراءة كتب علمية نفسية وليس من نصائح خالتك.

ولعلك سيدي تقول أنك الآن بخير وحتى إن كنت تمارس الإنكار فذلك لم يُميتك... وذلك صحيح الإنكار لن يقتلك حتماً ولكن سيربك شعورك في الكثير من الأحيان وسيقلل جودة حياتك، وسيجعلك تشعر بالكثير من الخوف أو الحزن مرارا وتكراراً دون توقف، فمن يخاف الموت سيموت في الميدان مئة مرة من القلق قبل أن يموت حقاً.

البشر تخاف من مواجهة المشكلة لذلك تلجأ لآليات الدفاع، ولكن مخاوفك لن تبتعد عنك وإن حاولت تجنبها، فما إن يخطر أمام عينيك ما يذكرك بمشاكلك، سينقض عليك الخوف ومشاعر سلبية جمة لا تتمنى أن تشعر بها... لذلك ورحمة بنفسك يجب عليك أن تتخلص من الإنكار... لذا أرجوك اعرني انتباهك.

في دراسة أقيمت في جامعة أوهايو لعالما النفس روي ليويك و ليا بولين وجدا أن من الأسهل على الناس أن يقولوا "أنا آسف لأنني آذيتك" بدلاً من قول "أنت على حق لقد ارتكبت بحقك خطأ".

أي أن البشر يحاولون تصحيح الوضع عاطفياً دون تحمل المسؤولية التامة للخطأ والاعتراف صراحة به.

لذا فأول نصيحة ممكن أن أسيدها لك هي... تحمل المسؤولية.

غالباً ما يكون الإنكار لإلقاء اللوم على شيء خارج أنفسنا، أو أن المشكلة ليست مشكلة حقاً أو إنها مشكلة لكنها ليست نهاية الحياة، فنتنزه عن مسؤوليتنا ودورنا في ظروفنا.. وذلك سخافة... والاعتراف بالمشكلة أول الحل.

أضف لذلك لكي تتحمل المزيد من المسؤولية يجب أن تقبل أنه لا يمكنك التحكم في الطريقة التي يتصرف بها الآخرون، لكن يمكنك التحكم في الطريقة التي تتفاعل بها كردة فعل على تصرفهم، يمكنك التحكم في عواطفك... وهذا هو الفرق بين أولئك الذين يتركون الحياة تحدث لهم وبين الذين يجعلون الحياة حدثاً يُعاش.

ونصيحتي الثانية لك هي كن أكثر وعياً بنفسك.

آليات الدفاع هي وسيلة لتجنب مشاعرك الحقيقية، تميل إلى الظهور كوسيلة لحماية أنفسنا عندما نشعر بالضعف أو القلق أو التوتر، لذا كُن واعياً أنك تستخدمها، وحاول أن تسمح لتلك المشاعر المكسورة فيك للتعبير عن نفسها... استمع لحزنك وخوفك وقلقك بإنصات، ولا تسمح للّاوعي أن يتغلب عليك ويخرسها.

سيدي هل تتذكر تلك المنطقتين في الدماغ المسؤولتين عن الإنكار (DACC - Left SMST) ؟

نعم هما يمارسان الإنكار لدى عامة الناس، إلا أنهما لا يمارسان نشاطهما المعتاد لمرضى الاكتئاب، ففي دراسة قام بها عالم الأعصاب الياباني ماكيكو يامادا Makiko Yamada وزملاء له عام 2013م وجد أن كِلا المنطقتين لا تمارسان نشاطهما عندما يكابد المرء الاكتئاب، وكلما زاد استماع الفرد لحزنه وخوفه وقلقه كلما قل أداء المنطقتين.

ولا أدعوك هنا للدخول بحالة اكتئاب كي تحل مشاكلك، فالشخص إن استمع لحزنه ثم تعامل مع توتره ومشاكله وبدأ بتغيير حياته فإن ذلك سيمنحه شعوراً بالرضا، وبالتالي تتجه حياته نحو الأفضل، ويكون الحزن عصياً عليه.

وأضيف أيضاً... أحياناً ولِـما نمر به من ضغوط نفسية قد يتعذر على أدمغتنا الوصول للوعي بذاتها، لذا من الرائع قضاء بعض الوقت مع أشخاص مقربون منك يفكرون بشكل مختلف عنك، اسمح لهم بنقض تفكيرك في مختلف القضايا وكن على استعداد لتحطيم ما لا يتناسب مع نسختك من الواقع.

وثالثاً أقول... اكسر الأنماط.

نحن البشر يا سيدي القارئ مخلوقون من العادة، وكلنا نتعثر في الأنماط المتكررة، لذا فالدماغ إن تعلم الإنكار فإنه سيمتهنه إلى ما لا نهاية، وبمجرد أن تتحمل المسؤولية عن عواطفك، فأنت على استعداد لكسر روتين أفكارك السلبية والتوقف عن استخدام آليات الدفاع، وستتلذذ بشعور الشجاعة في مواجهة المشكلة بعد أول انتصار لك.

ولكن يا سيدي أرجو أن لا تنصدم أن عندما ترى أن الأمر صعب بعض الشيء في البداية، إنني أؤكد لك أنك لن تتخلص من الإنكار إلا بتحمل شقاق المشاعر السلبية وآلامها، وبشيء غير يسير من التفكير... إلا أن نتائجه تستحق العناء، فحالة السلام النفسي العاطفي والفكري الذي ستمر بها بعده جنة أُعدت للكادحين.

وأخيراً سيدي القارئ... ولأننا كلنا نعاني من الإنكار -بدرجات متفاوتة- فإني أنصحك -إن أجبت بنعم على بعض الأسئلة سابقة الذكر- أن تقرأ كتاب "كيف تُسيطر على قلقك" لعالم النفس آلبرت ألس (مكتبة جرير)، وكتابه الآخر والأهم "كيف تجعل حياتك سعيدة" والذي سأفوره لك هنا... فتفضل في تحميله.

تحميل كتاب اجعل حياتك سعيدة
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بقية المقالات
Share by: