مرحباً سيدي القارئ ... كم مرة تذمرت اليوم ؟
هل تذمرت من الازدحام أو سائقي السيارات في الشارع .. من العمل أو زملائك .. من الأسرة أو الأصدقاء .. من السياسة أو الاقتصاد .. من وزنك أو مظهرك .. ووو ؟
في بحث أجرته جامعة ديوك Duke حول التذمر تبين أن متسوط تذمر الإنسان العادي هو 30 مرة باليوم ، وهذا ليس عدداً بسيطاً يمكن التقاضي عنه ... إن التذمر أشبه بالعادة ، فلماذا نقوم به ؟! ما المغري كي ننغمس في تكراره ؟
إنسان الكهف الأول ... أجدادنا القدماء لم يكن بمقدورهم العيش منفردين دون أن يتكاتفوا سوياً في صراع البقاء ، وغالباً ما لاحظوا أن التذمر من الأوضاع السيئة كان يثير تضامن وتعاون أفراد المجموعة مما يعزز فرص البقاء .. لذا تَكَيَّفنا وتَوارثنا - جيلاً بعد جيل - التذمرَ كي ننجو .
والدراسات المخبرية والأشعة المقطعية تؤكد أننا عندما نتذمر نشعر بارتياح وتتحفز منطقة المكافأة في الدماغ ، إن الأمر أشبه -دماغياً- بالأكل بعد الجوع ... إنها غريزة البقاء .
ولم تختلف حياتنا عن حياة أجدادنا فهي إلى الآن لا تخلو من المتاعب ، ومنذ نعومة أظفارنا وإلى حافة القبر نواجه الآلام والأمراض والخيبات والعراقيل والظلم والصعوبات المادية والرفض والانتقادات والأحكام المسبقة وخسارة الأحبة ... إلخ .
وإن كنت تتساءل لماذا ذلك ؟ ولماذا أحياناً تصطدم أمانينا بالفشل بينما تتحقق مخاوفنا ؟ لأنه وبكل بساطة هذه هي الحياة ، وسيتكرر ذلك مع الجميع بلا استثناء ، فحتى الأطفال وهم أكثر الكائنات حظياً بالرعاية والاهتمام لا يفلتون من مواجهة الصعاب .
لذا ستستمر البشرية في التذمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وأدمغتنا المفطورة على توفير طاقتها تميل إلى التذمر عوضاً عن مواجهة المشكلة وإرهاق الفكر في حلها لأن ذلك أريح لها ... وإليك هذا المثال .
عندما تصل إلى العمل متأخراً بعض الوقت قد تتذمر من ازدحام المرور وغباء بعض سائقي السيارات ، وتحملهم وزر تأخيرك ، وبهذا ستُنهي تفكيرك ويرتاح ضميرك .
لكن مهلاً ... أنت الذي سهرت الليلة الماضية وتقاعست عن النهوض مبكراً اليوم ، وكان بإمكانك تجاوز الازدحام لو أبكرت الخروج ، كان الحل بين يديك لكنك تكاسلت !! ، ولا أدري إن كان الأمر صادماً لك لكني مضطر لأخبارك أن الحياة لم تُخلق لك فقط والدولة لم تُرصف الإسفلت لتتمخطر عليه منفرداً إلى العمل ... نحن 8 مليار إنسان نزاحمك على هذه الأرض ... وكان عليك التأقلم !! .
لكن دماغك لن يجلد ذاته ، ولن يرهق نفسه بالتفكير وضبط النفس ، سيستمتع بالسهر وسيتذمر في الصباح من غيره ... وعلى هذا قس ما سواه من أمثلة .
وما أريد أن ألفت انتباهك له سيدي القارئ أن التذمر رغم إراحته للدماغ إلا أنه لن يغير الواقع ، لذا عوضاً عن ذلك يجب أن تشكر الله أنك جزء من المشكلة وبالتالي جزء من الحل وباستطاعتك تغيير الواقع .
الحياة تدور دون أن تكترث لأحد أو تكون معه أو ضده .. هي تستمر فقط ، والناس بطبيعتهم يعيشون لأجل أنفسهم ، لذا كل ما تبقي لك هو أن تتحمل مسؤولية نفسك ومشاكلك وتترك التذمر خلف ظهرك لتبحث عن الحل .
لتكن لديك الشجاعة لتغير مساوئ الحياة التي يمكن تغييرها ، وقوة القلب لتتقبل - دون أن تحب - الأشياء التي لا يمكن تغييرها ، والحكمة لتعرف الفرق بين الأثنين .
أدمغتنا التي تخوض سباق البقاء في هذه الحياة توارثت التذمر كي تنجو ، غير مكترثة بجودة أو كيفية بقائنا بل ببقائنا فقط ولو كان ذلك بتعاسة في جو من الإحباط والاكتئاب ... وهذا ما يفعله التذمر فهَبني أوضح لك ذلك.
في دراسة لجامعة ستانفورد Stanford عام 1996م درس الباحثون أدمغة المتذمرين بالتصوير الرنين المغناطيسي ، ورأوا أن التذمر يعزز مستويات هرمون glucocorticoid والذي يقوم بتقليص حجم الحُصين في الدماغ . (احلف أنك قريت اسم الهرمون صح 😜 .. اسمه غلوكوكورتيكويد )
كان الحصين لدى كثيري التذمر أصغر بـ 15% من غيرهم ، أما الذين تعرضوا لمآسي شديدة كالحروب وانغمسوا في التذمر فقد كان حصينهم أصغر بـ 25% من غيرهم .
والحصين هو الجزء الدماغي المسؤول عن الوظائف الإدراكية ، وتقلص حجمه يؤدي إلى تدهور الذاكرة وفقدان القدرة على التفكير بذكاء وحل المشكلات والتكيف مع المواقف الجديدة .
نعم المتذمرون سيصبحون أغبياء مع مرور الوقت سيدي القارئ ...
و لَكَ أن تسأل أي شخص كثير التذمر كيف حال ذاكرتك .. هل أنت من الأشخاص شديدي التذكر ؟ وغالباً ما سيتذمر من ذاكرته وضعفها .
الدماغ يعمل بطريقة معقدة ، ويتعلم دائماً من المواقف ، ويعيد تكون نفسه باستمرار ليتكيف مع الواقع ، وكثرة التذمر تخلق دماغاً سوداوياً لا يرى من الحياة إلا جانبها المظلم .
يوجد في جميع أنحاء الدماغ مجموعة من النقاط الاشتباك العصبي في مجرى يُسمى الشق المشبكي ، فإن خاض الإنسان موقفاً يحتاج إلى تفكير ستقوم أحدى نقاط الاشتباك بإطلاق مادة كيميائية عبر الشق المشبكي إلى النقاط الأخرى ، كي تبني جسراً في الشق تتنقل فيه الإشارة الكهربائية بين نقاط الاشتباك ، حاملة معها المعلومات ، وبالتالي تتكون لديك الأفكار وتتخذ القرارات .
عندما يختار الإنسان -مراراً- التذمر حلاً لمواجهة صعاب الحياة ولا يرى بأنه جزء منها وبيده حلها لن تقوم نقاط الاشتباك العصبي ببناء جسر كيميائي جديد لكل مشكلة لنقل المعلومات وتكون الأفكار ، بل ستبني جسراً ثابتاً لذلك .
تكرار التذمر يعيد توصيل دماغك ليكون التذمر الاحتمال الأكثر حظاً مستقبلاً ، وبمرور الوقت تجد أنه من الأسهل أن تكون سلبياً بدلاً من أن تكون إيجابياً ، بغض النظر عما يحدث من حولك ، تصبح الشكوى سلوكك الافتراضي ، وستميل إلى الانسحاب والتبرير والاستسلام وما أشبه من أفكار سلبية ، وسيصعب عليك رؤية الجانب الإيجابي من الحياة وستُحرم من التمتع بسعادتها .
وبصراحة لا يُلام الدماغ على ذلك ... فمن منا يريد بناء جسر مؤقت في كل مرة يريد فيها عبور النهر ؟ من المنطقي أن يبني الدماغ جسراً سوداوياً ثابتاً ، وهذا ما يُسميه علماء الأعصاب "المشابك التي تنطلق معاً ، تتشابك معاً - Synapses That Fire Together Wire Together " .
سيدي القارئ .. أنا لست كثير التذمر ، وأتمنى أن تكون أنت كذلك ، لكن وكما تعلم أن الحياة بطبيعتها قاسية بعض الشيء ، وإن كنا لا نتذمر فلا شك أن هناك حولنا العديد من المتذمرين ... فما تأثيرهم علينا ؟
عندما نرى شخصاً قريباً يُعاني من عاطفة ما – سواء كان ذلك غضباً أو حزناً أو سعادةً ... إلخ – فإن أدمغتنا تجرب نفس المشاعر التي يمر بها لتتخيل ما يمر به الشخص الآخر ، وذلك عن طريق إطلاق نفس نقاط الاشتباك العصبي في الدماغ ، لتتمكن من محاولة الارتباط وفهم المشاعر التي تلاحظها .. وهذا هو التعاطف بالأساس .
وعندما يتذمر الإنسان يريد من الآخرين أن ينضموا إلى حفلة الشفقة التي يقيمها ، فيواسوه أو يؤيدوا حزنه كي يشعر هو بالتحسن تجاه نفسه عوضاً عن التفكير ولوم النفس ، لكنه ببؤسه هذا يؤثر سلباً على الآخرين ، إنه يبني جسوراً سوداوية في أدمغتهم أيضاً.... الأمر أشبه بالتدخين إذ يلوث رئة صاحبه ومن ومعه .
المستمعون للتذمر باستمرار ستتأثر رؤيتهم للحياة دون أن يشعروا ، لذا من المنطق أن تكف عن الاستماع للتذمر ، لا تجعل من نفسك ساحة تُرمى فيه ركام حطام نفوس الآخرين ... ستفسد بستان أفكارك .
إذن سيدي القارئ ... إن كنت كثير الشكوى فإني أرجوك .. رحمةً بدماغك كفاك تذمراً ، تحمل مسؤولية المشاكل التي تمر بها والظروف السيئة فهذه هي الحياة ... ليست ديزني لاند ، إنها قاسية .
اشكر الله أنك سبب المشكلة أو أحد أسبابها فهذا يعني أنك قادر على حلها ولو جزئياً .
قم -وبكل شجاعة- بتغيير ما يمكنك تغييره ، وتقبل بروح صلبة ما ليس بحيلتك تبديله ، وتحلى بالحكمة لمعرفة الفرق بين الإثنين .. فغالبية المصاعب يمكنك حلها .