مرحباً سيدي القارئ ... ما هي أعز فكرة تؤمن بها ؟ وأجمل سلوك تقوم به ؟
ماذا لو جاء أحدهم وحاول تسقيط فكرتك ونقد تصرفك ؟ ماذا ستفعل ؟
عندما بعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام رسولاً إلى بنبي إسرائيل ، وبدأ الناس بالالتفاف حوله وتصديقه ، شَعَر قيصر الروم أنه سينازعه على سلطانه ، كذلك علماء اليهود وأحبارهم توجسوا خيفة من خسارة نفوذهم الدينية التي تمكنهم من رقاب الناس وأموالهم .
وهذا ما جعل كُــلّاً من قيصر واليهود يصطدمون بعيسى عليه السلام ويعادونه لأن الشعور بالعجز بدأ يتسلل إلى أنفسهم ، فَـلَم يستمع قيصر لنبوة عيسى عليه السلام ، ولم يفكر غالبية اليهود بمنطق ولم يبحثوا أدلة هذا النبي العظيم ، بل حَكَّموا مشاعرهم وجهلهم ونصبوا له العداء .
إلا أن عيسى عليه السلام كان منطلقاً في دعوته محاولاً هداية الناس ، لا يعبأ بمن يحاول اتهامه ولا ينشغل بمن يجادله ، ففي حادثة أتى بعض اليهود المقربين من السلطة (الهيرودسيين) لنبي الله عيسى عليه السلام وقالوا له: يا عيسى أنت صادق ولا تبالي بأحد ... أ يجوز لنا أن نعطي الجزية لقيصر الروم أم لا ؟
وهذا سؤال ينطوي على لؤم وخبث وسَيُوَلِّد جدالاً لا نهاية له ، فإن قال لهم نعم أعطوها ... سيقولون له إن بسطاء بني إسرائيل آمنوا بك مخلصاً لترفع عنهم أثقال ظلم قيصر الروم لا أن تُؤيده ، وإن قال لهم لا يجوز أن تعطوها له سيجادلونه بهيمنة قيصر وسطوته عليهم وسيوشون به إلى السلطات كي تلاحقه وتقتله ، إذ أنه بذلك يشجع التمرد على حكومة روما .
فقال لهم عيسى عليه السلام بهدوئه المعروف : أعطوني ديناراً لأنظره ، فأتوه به ، فقال لهم لمن هذه الصورة المسكوكة على الدينار ؟
فقالوا لقيصر ...
فقال عليه السلام : أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله .
الهيرودسيين لم يأتوا لعيسى عليه السلام كي يسمعوا كلمات الله ، ولم يناقشوه بحثاً عن الحق ، جاءوا ليجادلوه كي ينتصروا لأنفسهم ليس إلا ، فلم يعطهم مرادهم بل أهملهم ... وهذا هو التصرف الذي أستميحك بالتحدث عنه في كلماتي البسيطة سيدي القارئ .
على مدار السنين التي عشناها تكونت في أذهاننا قناعاتنا ومعتقداتنا وأفكارنا والتي تمثل شخصيتنا ، ولأننا نحن البشر من بيئات مختلفة ولكل منا تربيته الخاصة فلا بُـدَّ أننا سنكون مختلفين في الرأي .
وكوننا اجتماعيين فنحن نتبادل الآراء و وجهات النظر بمعاملاتنا اليومية ، إلا أن في كثير من الأحيان - وخاصة عند نقاش الأفكار الحساسة - يتجه البعض منا إلى التعصب لرأيه وازدراء الرأي الآخر والتقليل من صاحبه ، وهذا ليس سلوكاً مستغرباً بل هذه هي الآلية التي يعمل بها الدماغ .
فأدمغتنا مرتبطة شعورياً برأيها وتعتبرها جزءاً منه ، فتتعصب له وتخشى فراقه وتغييره ، لذا فهي تدافع عنه بالعاطفة لا بالمنطق ، وكونها مفتقرة لقوة الدليل والتفكير العميق فستلجأ إلى تهميش الرأي الآخر .
في عام 2004 كان هنالك انتخابات رئاسية في أمريكا بين جورج بوش وبين جون كيري ، وفي ذلك الحين أقام بعض علماء النفس تجربة وأتوا بمجموعة من محبي وأنصار كِلا الطرفين .
ثم عرضوا لمحبي "جون كيري" مقاطع سخيفة من كلامه ، وكذلك أنصار جورج بوش عُرضت عليهم مشاهد من كلامه بذات الحماقة .
ثم وضعت أدمغة المتطوعين تحت أشعة FMRI ليروا كيفية تفاعلها ، ويجلس مع كل متطوع محلل سياسي يقوم بنقد وتفنيد آراء مرشحه السياسي ويوضح له البلاهة التي يتفوه بها مرشحه .
وكانت النتيجة أن المناطق الدماغية التي نشطت مباشرة عند نقد رأي الناخبين هي المناطق المسؤولة عن المشاعر والعاطفة ، فاستخدموها لتبرير رأيهم عوضاً عن مناطق التفكير العميق .
وصحيح أننا بعد ثورة المشاعر قد تنشط مناطق التفكير لدينا ، إلا أن اليد العليا والاستثارة الأكبر ستبقى لمناطق الشعور ... أي أننا غالباً ما نميل للدفاع عن تراثنا الفكري بحجج تفتقر للمنطق ، فنتخذ أسلوب التقليل من الرأي الآخر كوسيلة إضافية للدفاع عن رأينا .
أضف لذلك أن أدمغتنا تميل بالفطرة إلى التشكيك بالمعلومات التي تُخالف آراءها ، لذا من الطبيعي جداً أن لا يلتفت الآخرون لأفكارك عندما يختلفون معك في الرأي .
في دراسة حديثة من جامعة ستانفورد Stanford جمع الباحثون مجموعة من الطلبة ، نصفهم كان يؤيد عقوبة الإعدام كونها رادعاً للجريمة ، والنصف الآخر يعتقد بأن ليس لها أي تأثير واضح في ذلك .
ثم قَـدَّم أحد الباحثين عرضاً فيه بيانات تدعم فكرة أنها رادعة ، وقدم باحث آخر عرضاً مناهضاً له ، وكان كِلا العرضين كُتبا بدقة متناهية ليكونا بنفس القدر من الإقناع والموضوعية والعلمية .
الطلاب الذين دعوا في الأصل لعقوبة الإعدام صنفوا البيانات المؤيدة للردع على أنها ذات مصداقية عالية والبيانات الأخرى هزيلة غير مقنعة ومضللة ، أما الطلاب الذين عارضوا عقوبة الإعدام أساساً فعلوا العكس تماماً .
ورغم أن البيانات بذات القدر من العلمية والموضوعية والإقناع إلا أن عقولنا انحازت لرأيها وقللت من الرأي الآخر .
لذا سيدي القارئ ليس من المنطق أن تصل بدماغك حد الارهاق في محاولة اقناع الآخرين برأيك ، فالناس متعصبين لآرائهم بالفطرة ، والعديد من الدراسات الاقصائية تشير إلى أن فقط 5% من الناس يُغيرون آراءهم عن أشياء شكلوا فيها رأياً مسبقاً ، و95% متحجرة عقولهم ... لذا مجرد مشاركتهم رأيك ببساطة تكفي .
ويحدث أحياناً أنك سيدي القارئ تُبتلى بأشخاص يأتون إليك - دون دعوة - ويبالغون في نقدك وتسقيط رأيك ، ويجادلونك في تصرفاتك وسلوك حياتك ، ويبحثون عن زلاتك لذمك وتوبيخك ، تماماً كما حدث مع عيسى عليه السلام .... فلماذا يفعلون ذلك ؟
الجواب ... لأنهم - وبكل بساطة - مشوهون نفسياً ويعانون من عقدة النقص .
عندما ينتقد أحدُهم الآخرين ويصب جماح غضبه على تصرفاتهم وأفكارهم فإنه بذلك يقول ضمنياً لنفسه أنا على حق وأفضل منهم .. أنا أذكى منهم .. أنا أقوى موقفاً .. ووو إلخ .
وهذه هي عقدة الحقارة والنقص ... هذا هو التشوه النفسي بعينه ... يحاول أن ينتصر لنفسه على حساب مشاعر الآخرين وأفكارهم .
وإليك هذا الاقتباس من كتاب "How To Make Yourself Happy" لرائد العلاج والتحليل النفسي في العصر الحديث الدكتور آلبرت إليس Albert Ellis والذي سيختصر لك الكثير :
" الغضب وتسقيط الآخرين مشاعر قوية من الصعب التغلب عليها ، لأنها غالباً ما ترضى غرورك . فأنت تُـنَـزِّل من مقام الآخرين بينما ترى نفسك أفضل بالمقارنة . أنت تشعر بالقوة عندما يتملكك الغضب وتنحاز لموقفك ، مع أنك في الواقع تحاول أن تُغطي ضعفاً أو تتصرف بشكل طفولي عندما تترك لطباعك كامل الحرية . أنت تشعر أنك أفضل من الشخص موقع الغضب لأنك بالطبع على حق تماماً بينما الآخر على خطأ تماماً . أنت تسيطر على عدوك . أنت تعوض عن تشوهات ماضيك عندما تظهر إلى أي حد أنت على حق ومحق !
في الواقع إن الغضب وازدراء الآخرين يكشفان نقاط الضعف لأنهما يجعلانك متحجراً وفاقد السيطرة وعفوياً بشكل متهور " .
سيدي القارئ ... من ينتقدك تصرفاتك نقداً غير بناء أو ينغمس في جدالك حول أفكارك لا يريد مصلحتك ولا يهمه في الأساس تقويم سلوكك أو تطوير عقلك ، هو يمارس عقدة حقارته ونقصه النفسي عليك باسم النصيحة أو تبادل الآراء ... وإن جُرحت مشاعرك من تصرفه سيزداد جبروتاً ويقول لك : يا لك من امرئ حساس تضايقه النصيحة .
لا ... لم تزعجه النصيحة .. بل خدش شعورَه ركامُك النفسي المحطم .
نعم هناك من ينتقدك بكل لطف وحب كي يُصحح تفكيرك ويُقَوِّم سلوكك ، وهناك العديد من المشوهين نفسياً سيحاولون ترميم خربتهم النفسية على حسابك .
اليهود الحمقى الذين أتوا لنبي الله عيسى عليه السلام كانوا يخشون على نفوذهم ومصالحهم ، والعجز سيطر عليهم ، فأتوا له ليتصدوا عليه الزلات ، وليس همهم دين ولا فقه .
عندما تُبتلى في المرة القادمة بمن يحاول مجادلتك والتقليل من رأيك أو شخصك بكل وقاحة خذ لحظات من التأمل العميق وتَـفَـكَّــر في كلماته ، رَكِّز على مفرداته التي سيقولها لك ، سترى أنه ينتقد سلوكك ويمدح نفسه .. يقلل من فكرتك ويجلل رأيه .. سترى بكل وضوح عقدة حقارة تتلكم ليس إلا .
لذا وكما فعل عيسى عليه السلام عِش حياتك وأفكارك ... لا تعطهم غايتهم .. لا تدعهم يمارسون عليك عقدهم النفسية .. امنح نفسك لمن يحبك ولمن يهتم بعقلك حقاً .. أما البقية فاهملهم .. قل لهم ما لقيصر لقيصر وما لله لله ... لا تنتصر لأفكارك ... انتصر لراحتك النفسية ... طَنِّشهم يا سيدي .