سأحكي لك نكتة حدثت فعلاً ...
في ساحة مريم العذراء Marienplatz في مدينة ميونخ حيث الأسواق والمطاعم والمقاهي ، أرادت الكاتدرائية الموجودة هناك بيع "الإنجيل" على السُـوّاح والمارة .
فوضعت إعلاناً على باب الكاتدرائية تطلب موظفين لمهنة "بائع الكتاب المقدس" ، والذي عليه أن يتجول في الساحة فيُقنع المارة بضرورة اقتنائهم "للإنجيل" .
فتقدم للوظيفة رجل يُعاني من تلعثم في الكلام وصعوبة في نطق الكلمات ، فسخر منه المسؤولون في الكاتدرائية ، فكيف لشخصٍ يتلعثم أن يُقنع الآخرين .
أصر على الوظيفة وأخبرهم أنه يمتلك مؤهلات تخوله لذلك ، فأعطوه 20 نسخة من الإنجيل وطلبوا منه أن يبيعها في ساعة واحدة وسيحصل على الوظيفة ، وهذا العدد أكبر من الكمية التي يبيعها أفضل بائع لديهم طوال اليوم .
خرج المتلعثم إلى الساحة ... وعاد بعد نصف ساعة إلى الكاتدرائية وقد باع الكمية كلها . 😁
فتعجب منه المسؤولون وسألوه كيف بعت هذه الكمية بهذه السرعة ؟!!!
فقال : كــ كـ ... كـ كنت أ أ أ أقول لــ لـــ له ... تشـ تشـ تشـــ تشــتري الكتاب مــ مـ مـ مني أو أ أ أ أ أقراه عليك لـ لـ لـ لترى فـ فـــ فــ فائدته ؟ 😂
إن ميزته في بيع الكتب أنه لا يمتلك أي ميزة ، لذا تعاطف معه الناس ، واختاروا أن يشتروا منه . ( أنا مستعد أصير مسيحي بس لا تقرا 😅)
نحن البشر غالباً ما نتعاطف مع المستضعفين - سواء البائع المتلعثم أم غيره - في أي صراع ومنافسة ، بل ونحاول دعمه وتشجيعه ، وعطفنا ليس حصراً على الإنسان ، بل كل الكائنات الحية المستضعفة .
فمثلاً لو رأيت أمام عينيك في الشارع كلباً ضخماً ممسكاً بكلب صغير يحاول عضه ، ستتعاطف معه وستحاول إبعاد الضخم عنه ، فهذا الأمر جزء متأصل في فطرتنا .
إن تعاطفنا مع المستضعفين أو ما يُسمى بـ" تأثير الكلب المستضعف The Underdog effect" من الممكن أن تلاحظه في جميع مجالات الحياة وتنافساتها ، فنحن نميل إلى تشجيع المستضعف وليس الأقوى أو المفضل للفوز .
فمثلاً في الدوري الإنجليزي الممتاز لكرة القدم ، موسم 2018-2019 - كان نادي ليفربول بمنافسة شديدة مع نادي مانشستر ستي في صراع الفوز بالدوري .
وقد أجرت قناة الـ BBC البريطانية استطلاعاً للرأي أثناء المنافسة ، وسألت محبي كرة القدم والجماهير المحايدة -التي لا تشجع أي من الفريقين السابقين- في 17 مدينة إنجليزية عن الفريق الذي يتمنون فوزه ، فكانت 15مدينة تتمنى فوز نادي ليفربول رغم الإنجاز القياسي الذي قام به مانشستر .
لأنهم كانوا يرون ليفربول Underdog المكافح الأضعف والأقل ثروة ، في أصاد مانشستر الساحق فاحش الثراء والذي يمتلك أفضل مدرب على الإطلاق وبعضاً من أغلى لاعبين العالم .
وترى تأثير الكلب المستضعف في السياسة أيضاً ، فمثلاً في الانتخابات الأمريكية 2008م كان الرئيس السابق براك أوباما يُعرِّف نفسه للناخبين على أنه المستضعف ، وكان يقول : عندما يكون أسمك براك وبشرتك سمراء فأنت دائماً الـUnderdog .
وهذا سبب من عدة أسباب أشعلت حماسة الناخبين في نصرته ليكون حاكماً على أمريكا لمدة ثمان سنوات متتالية .
ولكن هناك ملاحظة مهمة جداً في المثالين السابقين ....
في الدوري الإنجليزي كان هناك 15 مدينة تتمنى فوز ليفربول من أصل 17 ، فأما المدينة الأولى التي رفضت التعاطف مع ليفربول هي مدينة مانشستر موطن مشجعي مانشستر يونايتد الغريم الأول لليفربول ، وانتمائهم لليونايتد يقودهم لعدم التعاطف مع خصمهم بل ويتمنون خسارته .
أما المدينة الثانية فهي ليفربول في حد ذاتها ، فمشجعي نادي إيفرتون الذي يقع في ليفربول يكرهون نظيرهم في المدينة نادي ليفربول كرهاً شديداً ، ونظراً لانتمائهم وحبهم لإيفرتون سيتمنون فوز مانشستر ستي باللقب .
وفي مثال الانتخابات الأمريكية كان براك أوباما ممثلاً للحزب الديمقراطي ، لذلك فإن الديمقراطيين سيصوتون له على أي حال ، والجمهوريون سيقفون ضده أيضاً سواء كان مستضعفاً أم لا ، ولكنه سيكسب قلوب بقية الناخبين الغير منتميين لأي حزب ، وهم الذين يحددون هوية الفائز غالباً .
أي في كِلا المثالين وقف الانتماء حاجزاً يمنع صاحبه من التعاطف مع المستضعف ...
وهذا أمر غير مستغرب ، فحاجات الإنسان الاجتماعية كالانتماء تعميه عن حاجاته العليا كالأخلاق والتعاطف مع المستضعف .
ولك أن تتذكر هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية والذي يؤكد هذا الأمر .
وإليك أيضاً هذه الدراسة التي توضح موقف الإنسان لو وضع على المحك بين انتمائه ومصلحته وبين التعاطف مع المستضعف .
في جامعة Richmond الأمريكية سأل الباحثون مجموعة من الناس "لنفرض أن هناك مدينة ما تأخذ حاجتها من الماء من نهر قريب منها ، ونحن نريد فحص الماء بغرض التأكد من خلوه من الملوثات ، وهناك شركة صغيرة ناشئة منذ سنتين تحاول أن تنجح وتشق طريقها للتميز في هذا المجال (المستضعف) ، وهناك شركة عملاقة تمتهن هذا الأمر منذ سنين (الطرف الأقوى) .... فأي الشركتين ستختار لفحص الماء ؟
اختار 70% من الناس الشركة الصغيرة الناشئة وتعاطفوا معها .
ثم سألوا مجموعة أخرى من الناس ذات السؤال ، ولكن على فرض أن المدينة هي مدينتك التي تعيش بها ، فهل ستختار الشركة الناشئة أم الشركة العملاقة ذات الخبرة لفحص الماء الذي تشربه ؟
وكانت النتيجة أن أكثر من 80% من الناس اختاروا الشركة العملاقة على الشركة الناشئة !!!! .
وهذا يؤكد أننا نتعاطف مع الأضعف غالباً ... ولكن ليس على حساب مصلحتنا ، فما دمنا طرفاً في النزاع فلا تعاطف.
إن تعاطفنا مع المستضعف لا ينحصر على تشجيعنا له وتفضيلنا إياه ، بل لك أن تصدق أن نظرتنا له وأفكارنا عنه ستتغير ، وسنراه أفضل مما هو عليه فقط لكونه مستضعفاً .
في دراسة قام بها عالم النفس Guy Winch ، قَـسَّـمَ المتطوعين للتجربة إلى أربعة مجاميع ، وعرض عليهم CV سيرة ذاتية لمهندس كمبيوتر يحاول الحصول على وظيفة في شركة مرموقة .
المجموعة الأولى قيل لها أن المهندس ذكي جداً وخبير في البرمجة واستحق الوظيفة ، المجموعة الثانية أخبروها أن المهندس حصل على الوظيفة بالواسطة ، فأخذ وظيفةً لا يستحقها .
المجموعة الثالثة قيل لها أن المهندس تم رفضه من الشركة لأنه لا يتقن البرمجة المطلوبة في الشركة رغم أنه مميز في برمجيات أخرى ، أما المجموعة الرابعة أخبروها أن المهندس ذكي بعض الشيء ولكنه لا يمتلك أي سنوات خبرة من قبل ، إلا أن سكرتيراً في قسم الموارد البشرية قد ضَيَّعَ أوراق سيرته الذاتية ، وبالتالي لم يحصل على الوظيفة .
جميع السير الذاتية الأربعة السابقة كانت تحتوي على صورة لشخص واحد ، إلا أن القائمين على التجربة اخترعوا لكل مجموعة قصة مختلفة عن هذا الشخص .
ثم طلب القائمين على التجربة من المشاركين أن يُقيِّموا وسامة هذا الشخص ، وإلى أي مدى يتوقعون أنه ذا شخصية ممتعة .
المجموعة الأولى قيمت وسامته وشخصيته 8/10 وهذا أمر متوقع فنحن نرى المميزين غالباً على أنهم وسيمون ورائعون ، والمجموعة الثانية قيمته 3/10 فنظرتهم له على أنه محتال مخادع أثرت على تقييمهم .
المجموعة الثالثة قيمته 5/10 وهذا قد يكون تقييماً عادلاً لأن لا مجال للكثير من عواطف فيه ، أما المجموعة الرابعة قيمته 8/10 وهذا يدل على أن تعاطفنا مع المستضعف يؤثر على تقييمنا وأفكارنا عنه ... لقد رأوه أكثر وسامة مما هو عليه فقط لكونه مستضعفاً .
وهذا أمر يستغله بعض ضعاف النفوس من أجل مصالحهم ...
فكثير من أصحاب الشخصيات التافهة مثلاً يحاولون كسب اهتمام الآخرين من خلال استعطافهم والظهور بهيئة المستضعف والمظلوم ، وغالباً ما يفلحون في ذلك ، بل قد يكذبون ليستعطفوا الآخرين ويحظون بشيء من مشاعرهم ويؤثروا على نظرتهم لهم .
في دراسة لبروفيسور علم النفس Joseph Vandello ذهب فيها إلى الأماكن العامة وسأل الناس عن دعمهم لإسرائيل أو كرههم لها ، وكان المشاركون الذين يدعمون إسرائيل يصورونها على أنها المستضعف الـUnderdog والدولة التي يحيطها أعداء عرب يتمنون زوالها .
بينما الناس الذين رفضوا إسرائيل كانوا يرونها كياناً محتلاً يقتل الأطفال والنساء ويهجر الناس من أوطانهم .
وعندما ناقش البروفيسور جوزيف الداعمين لإسرائيل ووضح لهم الحقائق التاريخية وكيف أن إسرائيل مجرد كياني طائفي عنصري محتل دعمه البريطانيون ، كان بعضاً منهم يقلل من دعمه لإسرائيل ... لأنها لم تعد الـUnderdog .
إن جُـلَّ قراراتنا تتراوح بين قاعدتي المستضعف والانتماء ، وأحياناً نميل إلى الاختيار الخطأ دون وعي منا بسبب تأثير هاتين القاعدتين .
وقد نظلم المميز حقه في الدعم والتشجيع لأن قلوبنا تميل للمستضعف ، وقد نتجاهل مستضعفاً لأن مصلحتنا أو انتماءنا يدعونا لذلك .
لذا سيدي القارئ ... أرجو أن تعيد كلماتي البسيطة تفكيرك في ذلك ، و في من يحاول استغلال عاطفتك من أجل مصلحته ، فقد يصدق أحياناً المثل الشعبي القائل : "يتمسكن حتى يتمكن".
وأتمنى أن لا تكون عاطفتك هي قاعدتك الوحيدة في بناء قراراتك أو ركيزتك في دعمك وتشجيعك للآخرين ، فكما قرأت إن العاطفة قد تكون مضللة أحياناً .
وآمل أن ترى بوضوح مستقبلاً أثر قاعدتي (المستضعف والانتماء) على قرارتك ، وأن لا يكون انتماؤك هو الحجر الذي تتحطم عليه عاطفتك وأخلاقك العليا .
هل كنت ستشتري الكتاب المقدس لو جاءك الـمتـ ... الـمتـ .... المـتلعثم ؟ 😜