Blog Layout

محمود دروش وريتا

سواء كنت تعشق الشعر أم لا .... لا بُـدَّ أنك سمعت بالشاعر الفلسطيني الرائع محمود درويش ، أو كما يسمونه شاعر الوطن والثورة .
في عام 1960م في حفلة موسيقية التقى محمود بفتاة إسرائيلية تُسمى "تماري" - أو كما سماها في قصائده "ريتا" - ، لكنه لم يكن لقاءً عابراً ، فقد تسلل حبها إلى قلبه ، وتكونت بينهما علاقة حب استمرت سبع سنوات .
لم يكن بين ريتا ومحمود أي مقومات أو تكافئ أو تشابه فكري يخولهما لقصة حب ... إلا أنه أحبها رغم ذلك ، وقال متحدياً :
إني أُحبك رغم أنف قبيلتي ومدينتي وسلاسل العادات
لكني أخشى إذا بِعتُ الجميعَ تبيعني فأعودُ بالخيباتِ
ولقد حدث ما كان يخشاه ...
ففي عام 1967م اندلعت حرب بين الكيان الصهيوني المحتل والدول العربية المحيطة به ، والتي هُـجِّـرَ وقُتل على أثرها عشرات الآلاف من الفلسطينيين .
أثناء الحرب فَضَّلت ريتا الالتحاق بالجيش الصهيوني على محمود وحبه ، بينما هو اختار وطنه وكتب القصيدة تلو القصيدة من أجل فلسطين . ( ما باع الكضيه 😁 )
أي أن فراقهما لم يكن عادياً ... قد كان حرباً دموية ، ومن المفروض أن لا يُجرح محمود برفض وهجر ريتا له ... فهي خصمه وعدوة وطنه ، إلا أنه تأثر وكتب عدة قصائد في فراقها ، منها قصيدة "ريتا والشتاء الطويل" ، وقصيدة "ريتا والبندقية" والتي يقول فيها مطلعها :
بين ريتا وعيوني بندقية ... آه ريتا
أي شيء ردّ عن عينيك عينيَّ
سوى إغفاءتين وغيوم عسليّة ... قبل هذي البندقية
إن تألم محمود وندبه لريتا أمر ملفت للانتباه حقاً .... ويجعلك تتساءل /
لو رُفِضنا في علاقة عاطفية ، أو من فئة مجتمعية ، أو من أصدقاء وزملاء أو حتى وظيفة .. هل سيكون ذلك مؤلم حقاً ؟ وعلى فرض أنه مؤلم ... فهل سيبقى كذلك لو كان من عدو لنا ؟
لناقش هذا الأمر علمياً ...
قام دكتور علم النفس كيبلنغ وليامز Kipling Williams بدعوة مجموعة من الطلاب للقيام بتجربة Cyberball ، وهي لعبة في الكمبيوتر تعتمد على تمرير الكرة بين المشاركين فيها .
وما لا يعرفه الخاضع للتجربة أن المشاركين معه ليسوا أشخاصاً حقيقيين ، بل هم مجرد برمجة حاسوبية ، وسيمررون الكرة فيما بينهم فقط ، وسيهملونه ويجفونه ، ويُخبرونه بعدم استلطافهم له ، كي يشعر بالعزلة والرفض.
وكان دماغ المشارك في اللعبة خاضع لجهاز FMRI ، ليتسنى للخبراء رؤية المناطق التي ستنشط أثناء شعوره بالرفض .
والمفاجأة كانت أن المناطق التي نشطت أثناء ذلك هي ( anterior insula - dorsal anterior cingulate ) ، وهي المناطق الدماغية المسؤولة عن الشعور بالألم الجسدي عند التعرض للضرب أو للّسع مثلاً .
أي أن أدمغتنا تتعامل مع رفض الآخرين أو عدم استلطافهم لنا أو هجرهم إيانا كتعاملها مع الألم الجسدي ... إذن الرفض مؤلم حقاً .
لكن التجربة لم تنتهي هنا ....
الدكتور وليامز دعا طلاباً أمريكيين ذو أصول أفريقية إلى مختبره للقيام بالتجربة ، وقبل بدئ اللعبة يُقال للطالب أنه سيلعب مع أفرادٍ من مجموعة Ku Klux Klan ، وهي مجموعة عنصرية متطرفة ترتدي زياً أبيضاً وتشتهر بعدائها لذوي البشرة السمراء ... بل قاموا بمجازة عدة في حقهم على مدار التاريخ .
أي أن الطالب الأسمر يدرك تماماً عداءهم له واستحقارهم إياه ، ومن المرجح أنه يبادلهم شعور الكُرهِ نظراً لتطرفهم ، ويدرك تماماً أنه لن يمرروا له الكرة وسينبذونه .
رغم ذلك جُرِح الطلبة نفسياً ونشطت مناطق الألم في أدمغتهم عندما ازدراهم العنصريون ولم يمرروا لهم الكرة .
أي حتى رفضنا ممن لا نتمنى الانتماء له ، ولا نتوقع أصلاً ميله لنا ، سيؤلمنا بعض الشيء .
لذا لا يُلام محمود درويش عندما تألم لرفض ريتا له وتفضيل الجيش الصهيوني عليه ... رغم أنها عدوة وطنه .
نعم الرفض مؤلم ... لكن الخبر السعيد أن هذا الألم لا يدوم كثيراً ، فقد لاحظت الدكتورة نيومي ايزنبرغر Naomi Eisenberger زميلة السيد وليامز في التجربة السابقة أن الدماغ يفرز بعد ألم الرفض مهدئات تحسن المزاج ... أي إنه سيعالج نفسه بنفسه ، وسينسى الألم .
أي أن تجربته الاجتماعية المؤلمة ستصبح مع مرور الوقت مجرد ذكرى ليس إلا . ( عبيط الدماغ يتألم ويعالج نفسه ... خو لا تزعل من البداية 😒)
لكن الخبر الغير مفرح للنساء هنا ... دراسة قام بها بروفيسور الطب النفسي جون كار زوبيتا Jon-kar Zubieta وجد أن أدمغة النساء تفرز مهدئات أقل مقارنة بالرجال ، أي أنهن يعالج آلامهن بأنفسهن ولكن يستغرق ذلك وقتاً أطول بعض الشيء . ( لازم تعطيها شوي دراما بعدين تصير زينه 😜)
ولا يختلف اثنان أن أفضل دواء للرفض الاجتماعي أو علاقة فاشلة هو بيئة وعلاقة اجتماعية جديدة صحية وإيجابية ، والدماغ سيدعوك نحو ذلك ...
يقول الدكتور وليامز أن الأشخاص الذين تعرضوا للرفض عادة ما يكونوا بعد ذلك أكثر انفتاحاً على المجتمع ، وأعطف قلباً ، ويقدمون المزيد من التنازلات في علاقاتهم ، وأشد نشاطاً في خدمة غيرهم ، وهذه مقومات تزيد من فرصة احتوائهم من قِبل الآخرين وانخراطهم في علاقات أو بيئة اجتماعية جديدة .
أي أن الدماغ غالباً ما سيداوي نفسه بنفسه بأي طريقة ممكنة ، إلا أن ذلك لا يحدث دائماً ، فقد يتجه لطريقة أخرى لمعالجة آلامه .
أحياناً يختار الدماغ أن يصبح عدوانياً عندما يُرفض اجتماعياً ، فيشتط غضباً وحقداً على الذين رفضوه أو على المجتمع ككل فيقرر الانتقام .
في تجربة Cyberball قال الدكتور وليامز لبعض الطلبة الذين تعرضوا للعزل والرفض أنه يمكنهم أخذ ثأرهم بوضع كمية من الصلصة الحارة في الطعام الذي أمامهم والذي سيُقدَّم لبقية المشاركين الذين رفضوهم ، وكان بعض الطلبة يضعون الكثير من الصلصة في محاولة للانتقام .
وفي دراسة أخرى لبروفيسور علم النفس والأعصاب السيد مارك ليري Mark Leary درس وحلل 15 حالة لطلاب يافعين أطلقوا النار على زملائهم في المدرسة ، فوجد أن 13 طالباً منهم كانوا قد رُفضوا اجتماعياً من قبل زملائهم ، وفشلوا في صداقاتهم ، فاختاروا طريقة عدائية لتخفف عن آلامهم . ( ألعب أو أحرق الملعب 😁)
وإن كنت سيدي القارئ تُعاني من جرح نفسي بسبب رفض مجتمعي أو علاقة عاطفية فاشلة أو وظيفة لم تُقبل فيها ... سأُعلمك بعض السحر لتتجاوز ذلك .
أجرت دكتورة علم الأعصاب السيدة ليوني كابان Leonie Koban دراسة على أشخاصٍ انفصلوا للتو من علاقة غرامية باءت بالفشل .
وُضع الخاضعين للدراسة في جهاز FMRI لمراقبة نشاط أدمغتهم ، ثم عُرض على كل واحد منهم صورة قرينه الذي انفصلوا عنه ، فكانوا يتألمون نفسياً ، وتنشط مناطق الألم الجسدي في أدمغتهم .
بعد ذلك أعطت الدكتورة ليوني بخاخ أنف فيه دواء مزيف (مجرد ماء له رائحة) ، لكنها قالت للمشاركين أن هذا الرذاذ دواء يقلل الألم النفسي ، ويخفف عن القلب أوجاعه ، وسيساعدكم على تخطي مرحلة الرفض هذه .
بعد يومين من استخدام البخاخ ، أجريت لأدمغتهم أشعة FMRI مرة أخرى وعُرضت عليهم صور شركائهم السابقين أيضاً ، لكن هنا كانت المفارقة ...
لقد خف نشاط مناطق الألم عندهم ، وزاد نشاط المنطقة المسؤولة عن التحكم في المشاعر وكبح الحزن ، والمنطقة المسؤولة عن تسكين الآلام .
أي أن توقعاتهم الإيجابية عن الدواء كان لها تأثير السحر في تخفيف آلامهم وتجاوزهم لمرارة الرفض العاطفي ... وعلى هذا قس ما سواه .
لكي تتخلص من آلامك النفسية فَـكِّـر في الأشياء التي تؤمن بأنها تخفف عنك أو تمنحك شعوراً رائعاً عند قيامك بها ، مثلاً إن كنت تعتقد أن السفر أو التنزه أو طبقاً من الشوكولاتة يمنحك مزاجاً رائعاً فبادر له إن كنت تمر بأزمة نفسية .
عن مشاعري أقول ... إن أقوى زلزال نفسي قد أمر به لا يتجاوز حَلَّهُ عندي طبق شاورما ... أو قُل تنازلاً ماعون كنافه ، وأضيف صادقاً لم أمر بحياتي إلى الآن بمعضلة نفسية لم أرى حلها في ابتسامة وجه أمي ، ولا شكَّ أن جلسة مزاحٌ مع أصدقائي تمسح من على قلبي كل همومه .
وصحيح أنك أحياناً عند شعورك بألم نفسي تستثقل القيام بأي شيء ، إلا أن راحتك تكمن في القيام بما تهوى ، فلا تجعل تثاقلك حاجزاً يحجبك عن راحتك النفسية .
هذا هو السحر ... فلا تنساه .
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بقية المقالات
Share by: