سواء كنت تعشق الشعر أم لا .... لا بُـدَّ أنك سمعت بالشاعر الفلسطيني الرائع محمود درويش ، أو كما يسمونه شاعر الوطن والثورة .
في عام 1960م في حفلة موسيقية التقى محمود بفتاة إسرائيلية تُسمى "تماري" - أو كما سماها في قصائده "ريتا" - ، لكنه لم يكن لقاءً عابراً ، فقد تسلل حبها إلى قلبه ، وتكونت بينهما علاقة حب استمرت سبع سنوات .
لم يكن بين ريتا ومحمود أي مقومات أو تكافئ أو تشابه فكري يخولهما لقصة حب ... إلا أنه أحبها رغم ذلك ، وقال متحدياً :
إني أُحبك رغم أنف قبيلتي ومدينتي وسلاسل العادات
لكني أخشى إذا بِعتُ الجميعَ تبيعني فأعودُ بالخيباتِ
ولقد حدث ما كان يخشاه ...
ففي عام 1967م اندلعت حرب بين الكيان الصهيوني المحتل والدول العربية المحيطة به ، والتي هُـجِّـرَ وقُتل على أثرها عشرات الآلاف من الفلسطينيين .
أثناء الحرب فَضَّلت ريتا الالتحاق بالجيش الصهيوني على محمود وحبه ، بينما هو اختار وطنه وكتب القصيدة تلو القصيدة من أجل فلسطين . ( ما باع الكضيه 😁 )
أي أن فراقهما لم يكن عادياً ... قد كان حرباً دموية ، ومن المفروض أن لا يُجرح محمود برفض وهجر ريتا له ... فهي خصمه وعدوة وطنه ، إلا أنه تأثر وكتب عدة قصائد في فراقها ، منها قصيدة "ريتا والشتاء الطويل" ، وقصيدة "ريتا والبندقية" والتي يقول فيها مطلعها :
بين ريتا وعيوني بندقية ... آه ريتا
أي شيء ردّ عن عينيك عينيَّ
سوى إغفاءتين وغيوم عسليّة ... قبل هذي البندقية
إن تألم محمود وندبه لريتا أمر ملفت للانتباه حقاً .... ويجعلك تتساءل /
لو رُفِضنا في علاقة عاطفية ، أو من فئة مجتمعية ، أو من أصدقاء وزملاء أو حتى وظيفة .. هل سيكون ذلك مؤلم حقاً ؟ وعلى فرض أنه مؤلم ... فهل سيبقى كذلك لو كان من عدو لنا ؟
لناقش هذا الأمر علمياً ...
قام دكتور علم النفس كيبلنغ وليامز Kipling Williams بدعوة مجموعة من الطلاب للقيام بتجربة Cyberball ، وهي لعبة في الكمبيوتر تعتمد على تمرير الكرة بين المشاركين فيها .
وما لا يعرفه الخاضع للتجربة أن المشاركين معه ليسوا أشخاصاً حقيقيين ، بل هم مجرد برمجة حاسوبية ، وسيمررون الكرة فيما بينهم فقط ، وسيهملونه ويجفونه ، ويُخبرونه بعدم استلطافهم له ، كي يشعر بالعزلة والرفض.
وكان دماغ المشارك في اللعبة خاضع لجهاز FMRI ، ليتسنى للخبراء رؤية المناطق التي ستنشط أثناء شعوره بالرفض .
والمفاجأة كانت أن المناطق التي نشطت أثناء ذلك هي ( anterior insula - dorsal anterior cingulate ) ، وهي المناطق الدماغية المسؤولة عن الشعور بالألم الجسدي عند التعرض للضرب أو للّسع مثلاً .
أي أن أدمغتنا تتعامل مع رفض الآخرين أو عدم استلطافهم لنا أو هجرهم إيانا كتعاملها مع الألم الجسدي ... إذن الرفض مؤلم حقاً .
لكن التجربة لم تنتهي هنا ....
الدكتور وليامز دعا طلاباً أمريكيين ذو أصول أفريقية إلى مختبره للقيام بالتجربة ، وقبل بدئ اللعبة يُقال للطالب أنه سيلعب مع أفرادٍ من مجموعة Ku Klux Klan ، وهي مجموعة عنصرية متطرفة ترتدي زياً أبيضاً وتشتهر بعدائها لذوي البشرة السمراء ... بل قاموا بمجازة عدة في حقهم على مدار التاريخ .
أي أن الطالب الأسمر يدرك تماماً عداءهم له واستحقارهم إياه ، ومن المرجح أنه يبادلهم شعور الكُرهِ نظراً لتطرفهم ، ويدرك تماماً أنه لن يمرروا له الكرة وسينبذونه .
رغم ذلك جُرِح الطلبة نفسياً ونشطت مناطق الألم في أدمغتهم عندما ازدراهم العنصريون ولم يمرروا لهم الكرة .
أي حتى رفضنا ممن لا نتمنى الانتماء له ، ولا نتوقع أصلاً ميله لنا ، سيؤلمنا بعض الشيء .
لذا لا يُلام محمود درويش عندما تألم لرفض ريتا له وتفضيل الجيش الصهيوني عليه ... رغم أنها عدوة وطنه .
نعم الرفض مؤلم ... لكن الخبر السعيد أن هذا الألم لا يدوم كثيراً ، فقد لاحظت الدكتورة نيومي ايزنبرغر Naomi Eisenberger زميلة السيد وليامز في التجربة السابقة أن الدماغ يفرز بعد ألم الرفض مهدئات تحسن المزاج ... أي إنه سيعالج نفسه بنفسه ، وسينسى الألم .
أي أن تجربته الاجتماعية المؤلمة ستصبح مع مرور الوقت مجرد ذكرى ليس إلا . ( عبيط الدماغ يتألم ويعالج نفسه ... خو لا تزعل من البداية 😒)
لكن الخبر الغير مفرح للنساء هنا ... دراسة قام بها بروفيسور الطب النفسي جون كار زوبيتا Jon-kar Zubieta وجد أن أدمغة النساء تفرز مهدئات أقل مقارنة بالرجال ، أي أنهن يعالج آلامهن بأنفسهن ولكن يستغرق ذلك وقتاً أطول بعض الشيء . ( لازم تعطيها شوي دراما بعدين تصير زينه 😜)
ولا يختلف اثنان أن أفضل دواء للرفض الاجتماعي أو علاقة فاشلة هو بيئة وعلاقة اجتماعية جديدة صحية وإيجابية ، والدماغ سيدعوك نحو ذلك ...
يقول الدكتور وليامز أن الأشخاص الذين تعرضوا للرفض عادة ما يكونوا بعد ذلك أكثر انفتاحاً على المجتمع ، وأعطف قلباً ، ويقدمون المزيد من التنازلات في علاقاتهم ، وأشد نشاطاً في خدمة غيرهم ، وهذه مقومات تزيد من فرصة احتوائهم من قِبل الآخرين وانخراطهم في علاقات أو بيئة اجتماعية جديدة .
أي أن الدماغ غالباً ما سيداوي نفسه بنفسه بأي طريقة ممكنة ، إلا أن ذلك لا يحدث دائماً ، فقد يتجه لطريقة أخرى لمعالجة آلامه .
أحياناً يختار الدماغ أن يصبح عدوانياً عندما يُرفض اجتماعياً ، فيشتط غضباً وحقداً على الذين رفضوه أو على المجتمع ككل فيقرر الانتقام .
في تجربة Cyberball قال الدكتور وليامز لبعض الطلبة الذين تعرضوا للعزل والرفض أنه يمكنهم أخذ ثأرهم بوضع كمية من الصلصة الحارة في الطعام الذي أمامهم والذي سيُقدَّم لبقية المشاركين الذين رفضوهم ، وكان بعض الطلبة يضعون الكثير من الصلصة في محاولة للانتقام .
وفي دراسة أخرى لبروفيسور علم النفس والأعصاب السيد مارك ليري Mark Leary درس وحلل 15 حالة لطلاب يافعين أطلقوا النار على زملائهم في المدرسة ، فوجد أن 13 طالباً منهم كانوا قد رُفضوا اجتماعياً من قبل زملائهم ، وفشلوا في صداقاتهم ، فاختاروا طريقة عدائية لتخفف عن آلامهم . ( ألعب أو أحرق الملعب 😁)
وإن كنت سيدي القارئ تُعاني من جرح نفسي بسبب رفض مجتمعي أو علاقة عاطفية فاشلة أو وظيفة لم تُقبل فيها ... سأُعلمك بعض السحر لتتجاوز ذلك .
أجرت دكتورة علم الأعصاب السيدة ليوني كابان Leonie Koban دراسة على أشخاصٍ انفصلوا للتو من علاقة غرامية باءت بالفشل .
وُضع الخاضعين للدراسة في جهاز FMRI لمراقبة نشاط أدمغتهم ، ثم عُرض على كل واحد منهم صورة قرينه الذي انفصلوا عنه ، فكانوا يتألمون نفسياً ، وتنشط مناطق الألم الجسدي في أدمغتهم .
بعد ذلك أعطت الدكتورة ليوني بخاخ أنف فيه دواء مزيف (مجرد ماء له رائحة) ، لكنها قالت للمشاركين أن هذا الرذاذ دواء يقلل الألم النفسي ، ويخفف عن القلب أوجاعه ، وسيساعدكم على تخطي مرحلة الرفض هذه .
بعد يومين من استخدام البخاخ ، أجريت لأدمغتهم أشعة FMRI مرة أخرى وعُرضت عليهم صور شركائهم السابقين أيضاً ، لكن هنا كانت المفارقة ...
لقد خف نشاط مناطق الألم عندهم ، وزاد نشاط المنطقة المسؤولة عن التحكم في المشاعر وكبح الحزن ، والمنطقة المسؤولة عن تسكين الآلام .
أي أن توقعاتهم الإيجابية عن الدواء كان لها تأثير السحر في تخفيف آلامهم وتجاوزهم لمرارة الرفض العاطفي ... وعلى هذا قس ما سواه .
لكي تتخلص من آلامك النفسية فَـكِّـر في الأشياء التي تؤمن بأنها تخفف عنك أو تمنحك شعوراً رائعاً عند قيامك بها ، مثلاً إن كنت تعتقد أن السفر أو التنزه أو طبقاً من الشوكولاتة يمنحك مزاجاً رائعاً فبادر له إن كنت تمر بأزمة نفسية .
عن مشاعري أقول ... إن أقوى زلزال نفسي قد أمر به لا يتجاوز حَلَّهُ عندي طبق شاورما ... أو قُل تنازلاً ماعون كنافه ، وأضيف صادقاً لم أمر بحياتي إلى الآن بمعضلة نفسية لم أرى حلها في ابتسامة وجه أمي ، ولا شكَّ أن جلسة مزاحٌ مع أصدقائي تمسح من على قلبي كل همومه .
وصحيح أنك أحياناً عند شعورك بألم نفسي تستثقل القيام بأي شيء ، إلا أن راحتك تكمن في القيام بما تهوى ، فلا تجعل تثاقلك حاجزاً يحجبك عن راحتك النفسية .
هذا هو السحر ... فلا تنساه .