هل أنت من عشاق الفن واللوحات ؟ هل زرت متحفاً يعرض لوحات لفنان مبهر مثل "فان كوخ" أو "دافنشي" أو العظيم "مايكل أنجلو" ؟
ماذا كان شعورك عندما شاهدت اللوحة ؟
في عام 1955م ولد الطفل "مارك" لأبوين مثقفين يعشقان الفن ، وكان أبوه عسكرياً أمريكياً يعمل في أوروبا .
الأب كان يصحب زوجته وابنه مارك إلى المتاحف ودور الفن ، والكنائس الأثرية المليئة بالرسومات لأشهر الفنانين ، ومن هناك بدأ ينمو في هذا الطفل حب الفن والرسم واللوحات .
في السابع عشر من عمر "مارك" توفى أبوه بسكتة قلبية ، تسببت له بأزمة نفسية حادة دخل على أثرها مستشفى الأمراض النفسية لمدة عام كامل .
عندما خرج "مارك" من المستشفى دخل إلى معهد الفنون في شيكاغو ، وكان معلموه يرونه فناناً بارعاً وسيكون له مستقبلاً زاهراً لا محالة .
بعد تخرجه من المعهد بدأ العمل في معارض الفن ، فكان يصلح اللوحات المتضررة بالبقع وما أشبه .
جمع خلال فترة عشر سنوات من العمل مبلغاً جيداً ، فقرر أن يقوم بمعرض خاص يعرض لوحاته وإبداعاته ، والذي قد يعود عليه بأرباح طائلة ، إلا أن المعرض فشل فشلاً ذريعاً ، وخسر كل ما يملك من المال .
كانوا رواد المعرض ينظرون إليه على أنه مجرد حشرة متطفلة على أنف الفن ، لذا شعر بالعار والإحباط جراء فشله ، فاهتزت ثقته بإبداعه وفنه ، وقرر أن يعود إلى بيت والدته ليقضي بقية حياته هناك .
قبل أن يعود إلى بيته قرر "مارك" أن يرسم لوحة مزورة طبق الأصل للفنان الأمريكي Maynard Dixon ، ويتبرع بها إلى متحف صغير ، لتكون أشبه بعمل خيري يخلد ذكرى والده المتوفى .
رسم مارك اللوحة بعناية استثنائية كي لا يُكتشف أمره ، وقدمها للمتحف ، وادعى أن والده كان مهووساً بجمع التحف واللوحات الأثرية ، وأنه سيتبرع بلوحة من مجموعته كتخليد لذكراه .
المتحف تفحص اللوحة ، ولم يستطع أن يكتشف أنها مزورة ، فهي تشبه الأصلية تماماً دون أدنى اختلاف ، فشكروه وعاملوه بكل لطف واحترام وتقدير ، وقد قال مارك عن هذه التجربة : "عاملني الجميع مثل الملوك ، ولم يكن هذا شيئًا اعتدت عليه" .
قرر مارك أن يُزَوِّر العديد من اللوحات المفقودة أو التي رسم مبدعيها أكثر من نسخة ، وأرسل إلى العديد من المتاحف الصغيرة رسالة مفادها أنه رجل ثري مهتم باللوحات يعاني من مرض القلب ولم يبقى من عمره الكثير ، ويريد أن يتبرع بمجموعته كعمل خيري يخلد ذكراه وذكرى والده .
جميع المتاحف رَحَّبت بمارك وكَرمه وحبه الشديد لوالده ، واستقبلوا لوحاته - التي فحصوها جيداً ولم يكتشفوا أنها مزورة - بكل حب واحترام .
واستمر مارك على هذا المنوال ثلاثين عاماً ... حتى تبين لأحد مسؤولي المعارض أن مارك تبرع بلوحة إلى متحفين مختلفين ، والتي لا يوجد منها إلا نسخة واحدة أصلاً !! .
ومن هنا بدأ بتتبع أثره وتبين له أن مارك خدع عشرات المتاحف البسيطة بلوحات لم يطلب أي مقابل مادي لها ، كل ما كان يريده هو تخليد ذكرى والده ، وأن يرى الناس يستمتعون باللوحات .
في مطلع الألفية الثانية كان اسم مارك قد انتشر بين المتاحف على أنه مزور نبيل ، وكانوا يرفضون أي تبرع منه ، وكانت أمه قد توفيت حينها ويريد تخليد ذكراها أيضاً ، فتنكر حينها بزي راهب وغَيَّرَ اسمه ، وكان يجول المتاحف ويدعي أن أمه كانت مليونيرة تجمع اللوحات بينما هو راهب لا حاجة له باللوحات .
استقبلت المتاحف لوحاته ولم يستطيعوا كشف زيفها ، وكل ما كان يطلبه بالمقابل أن يكتب المتحف اسم والديه على اللوحات كتخليد لهما .
كان مارك يدخل المتاحف متنكراً ويرى كيف يُسعد الناس بمشاهدة لوحاته ، ومدى المتعة التي يعيشوها بعد تأملهم بلوحات يُفترض أنها أثرية وفريدة لأروع الفنانين .
بعد أكثر من ثلاثين عام من العمل الخيري المزيف قبضت الشرطة على "مارك" وطالبوا بسجنه ، إلا أن القاضي حكم ببراءته فهو لم يستغل الناس ولم يضر أحداً ولم يطلب أي أموال على لوحات تقدر أسعار الأصلية منها بملايين الدولارات ... كل ما كان ينشده هو العمل الخيري وتخليد والديه . ( خو يا مارك حط لهم برادة ماي وفكنا ... عجبتك جرجرة المحاكم ؟! 😜)
بعد أن عرفت المتاحف بتدليس مارك لم يعد للوحاته أي قيمة ، وما كانت بالأمس تبهر الناس وتمتعهم أمست اليوم منبوذة ... يُنظر إليها على أنها مجرد ألوان على لوح خشبي تحكي كذب صاحبها .
هذه قصة أشهر مزور في التاريخ - صاحبة صورة المقال - مارك لاندس Mark Landis.
واسمح لي سيدي القارئ أن أسألك هنا ... لماذا لم تعد لوحات مارك تسعد الناس في المتحف ؟ إنها طبق الأصل عن لوحات رسمها أعظم الفنانين ... تسحر العين بفكرتها وجمالها وتناسق ألوانها ، ما الذي تغير ؟!!!
فَـكِّـر ملياً ...
أعتقد أن الجواب هو المصدر .
نحن البشر لا نستمتع بالأشياء وفقاً لخصائها وتفاعل حواسنا معها فقط ، بل إن مصدرها ومعتقداتنا وأفكارنا وقناعاتنا تؤثر تماماً على مدى استمتاعنا وانبهارنا بها .
لذا فإن اللوحات التي مصدرها فنانون عظماء مثل مايكل أنجلو ممتعه ومبهره ، بينما لوحات مارك مستفزة .
وهذا لا ينطبق على الأشياء الراقية فقط كاللوحات بل حتى أبسط الأشياء كالطعام مثلاً ، فالمسلم الملتزم لن يستمتع بقطعة ستيك لحم مصدرها الخنزير ، على عكس المسيحي في عيد الشكر مثلاً ... المصدر يجعل الآخر سعيد مستمتع والأول يكاد أن يتقيأ .
قام الدكتور توم روبنسون Tom Robinson بدراسة على 63 طفل ، تُوضح كيف أن المصدر مؤثر على استمتاعنا وذوقنا حتى بالأطعمة .
في الدراسة أعطى السيد توم لكل طفل عينتين متطابقتين تماماً من الطعام ، تحتوي كل عينة على بطاط وهامبرغر وقطع الدجاج وحليب وجزر مشتراة من السوبر ماركت ، لكن العينة الأولى مغلفة بأكياس مطعم ماكدونالدز والأخرى بكيس لا يحتوي أي علامة تجارية .
ثم سأل الأطفال هل الأطعمة متشابهة في مذاقها أم مختلفة ؟
غالبية الأطفال فضلوا الأطعمة المغلفة بأكياس ماكدونالدز رغم إنها متشابهة أصلاً !!! بل حتى الجزر الذي غُلِّف بأكياس ماكدونالدز كان ألذ !!! .
وفي تجربة ظريفة أخرى أتى العلماء بمعهد كاليفورنيا للدراسات بمجموعة من طلبة الدراسات العليا الذين يحبون شرب النبيذ الأحمر ، وأعطوهم نوعين من النبيذ ، الأول سعر الزجاجة منه 5$ ، والآخر سعر الزجاجة منه 45$ ، ثم طلبوا منهم تحديد أيهما أروع طعماً ، وكانت أدمغتهم متصلة بجهاز MRI لمعرفة ما يدور فيها .
الطلبة بأجمعهم اتفقوا على أن النبيذ الأغلى كان طعمه ألذ ، وكانت مناطق المتعة في الدماغ تزداد نشاطاً وتوجهاً عند شرب النبيذ الأغلى مقارنة بالنوع الآخر .
والمضحك في الأمر أن كِلا النبيذين في الحقيقة كانا من نفس الزجاجة ... ولكن اعتقادهم باختلاف المصدر زاد تمتعهم .
الأمر ينطبق على الحب أيضاً سيدي القارئ ... فمن سيختاره قلبك ستراه أجمل وأكثر جاذبية مما هو عليه بالواقع . ( يعني عادي ترى يطلع سحت بس أنت ماخذ فيه مقلب ... أنا ياي أهدي النفوس أنت عارفني 😜)
وكما يقول الشاعر المغرم :
قَلِيلٌ مِنْكَ يَكْفِيني ولَكِنْ *** قَلِيلُكَ لاَ يُقَالُ له قَلِيلُ
وإليك هذه القصة الغريبة ...
هناك اضطراب عصبي يُسمى "متلازمة كابجراس" يصيب الإنسان فيتوهم أن هناك كائنات فضائية أو ملائكة أو شياطين أو محتالاً استبدل صديقه أو شريك حياته أو شخصاً من عائلته أو حتى حيوانه الأليف ووضع شخصاً آخراً في مكانه .
عادة ما تكون نتائج هذا الاضطراب كارثية ، إذ يقدم المصابون به على قتل أعز الناس حولهم ظناً منهم بأنهم أشخاص آخرون ... صحيح أن لهم نفس الصوت والهيئة .. إلا أن المصدر مختلف .
لكن في عام 1931 م كان هناك امرأة تشتكي من زوجها على أنه غير مثير جنسياً وغير ملائم لها فكرياً ، وكانت تفكر ملياً بالطلاق ، إلا أنها بعد ذلك أُصيبت بمتلازمة كابجراس وتوهمت أن هناك من قام باستبداله ، لكنها كانت مستمتعة بالبديل وتراه أكثر جاذبية وملائم لها وأحبته جداً ... لقد أنساها حب زوجها ، رغم إنه ذات الشخص . ( لو ضاربه حشيش وحياتك مو جذي 😜)
سيدي القارئ هل تمتلك هدية أو ذكرى من شخص توفاه الأجل ؟
لو استبدلناها منك وأهديناك أخرى جديدة .... هل ستكون مشاعرك متشابهة اتجاهها ؟ غالباً لا .. لأن المصدر يعني لك الكثير .
نعم الأشياء ممتعة حسب المصدر ... وكذلك الألم ، قد يكون ممتعاً حسب المصدر .
ذلك الألم الذي تشعر به من حرقة البهارات التي وضعتها على الطعام ممتع جداً أ ليس كذلك ؟ خوفك من أفلام الرعب التي تحب مشاهدتها ممتع أيضاً صحيح ؟
والألم قد يكون مؤلماً أكثر لو كان من شخص قريب منك تتوقع منه المودة .
في دراسة لدكتور علم النفس الاجتماعي السيد دان ويغنر Daniel Wegner قام بإيصال مجموعة من طلبة جامعة هارفرد بصاعق كهربائي ، وأخبرهم أن هناك خمس مستويات من الصعق سوف يتلقونها من رجل موجود في الغرفة المجاورة والذي يمتلك زر الصاعق .
أخبر نصف الطلبة أن الشخص الموجود في الغرفة المجاورة لا يملك أي ضغينة اتجاههم ، والموضوع ليس شخصياً نهائياً هو فقط يقوم بعمله من أجل البحث العلمي .
وكانت الصعقة الأولى لهؤلاء الطلبة مؤلمة .. لكن الثانية أخف والثالثة أخف فأخف حتى الخامسة ، لأنهم في كل مرة يعتادون على الألم أكثر .
ولكن السيد دان أخبر النصف الآخر من الطلبة أن الشخص الذي في الغرفة المجاورة يعرفهم جيداً ، وسيقوم بصعقهم رغم ذلك عن عمد .
كانت الصعقة الأولى مؤلمة جداً والثانية بنفس الحدة ، لكن الثالثة والرابعة والخامسة أكثر إيلاماً .
في كِلا الحالتين كانت الصعقات متساوية ... لكن نصف الطلبة شعروا أنها أكثر حدة عندما اعتقدوا أن هناك من يتعمد أذيتهم .
هل رأيت سيدي القارئ كيف تخدعنا أدمغتنا ؟
نشعر بمتعة مضاعفة لأشياء متشابهة ونتألم أكثر ... فقط لاختلاف المصدر .
ولعلك تتساءل الآن " أوكي يعني اشتبي ؟ لا تقتل المتعة يا مسلم 😒"
اشدعوه يباااااا ما نزيد معلوماتك يعني 😜
ما أريد قوله من خلال هذا المقال سيدي القارئ هو أن أفكارنا ومعتقداتنا ونظرتنا للأمور مسؤولة جداً عن مشاعرنا ، ولو غيرنا شيئاً من طريقة تفكيرنا حول مصدر الأشياء ستتغير مشاعرنا ... وهذا ما قد يعود علينا بالمزيد من السعادة أو الراحة النفسية أو السلام الداخلي ... وحتماً سيقلل من مشاعرنا السلبية .
عندما تعتقد أن أقرباءك يقومون بالأشياء اللطيفة اتجاهك بدافع الحب ستُسعد أكثر بها ، بينما لو كنت تعتقد -يا محور الكون- أنهم يفعلون ذلك لغاية تخلو من المودة ... وأنهم يريدون بذلك التفضل عليك كي تشعر بالمنة مثلاً ، فإنك حينها ستُستفز منهم وتستاء ... وستستثقل تصرفاتهم .
لذلك لو أحسنت ظنك بمصادر أفعال الآخرين ستزداد سعادة ... وعلى هذا قِس ما سواه .
تَذكَّر دائماً أن أفكارك ونظرتك للأمور هي المسبب الأول لمشاعرك ، وتغيير أفكارك حول مصادر الأشياء سيُغير مشاعرك ... عندما تضع الأعذار للدافع الذي صدرت منه أخطاء الآخرين ستشعر بالمزيد من الراحة ... وعندما تحسن ظنك بلُطفهم ستزداد سعادة .
ولو تأملت بفكرة ارتباط المصدر بالسعادة لن يخدعوك ... فستيك اللحم الذي ستأكله بالمطاعم العادية متشابه تماماً مع ذاك الذي يطبخه الشيف نصرت مثلاً ... الفرق بينهم أنهم خدعوك بالسعر لا أكثر .
ولو كنت في المتحف لاستمتعت بلوحات مارك ... إنه أروع مزور على الأطلاق .
واترك الآن البقية لعقلك ... وكيفية استفادته من معرفة ذلك .