بعد الأحداث الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 دخل الاقتصاد الأمريكي في ركود حاد أَثَّــر على الاقتصاد العالمي بأجمعه ، وترتب على ذلك خسائر هائلة لمعظم الشركات وتسريح للموظفين .
وكما هو الحال في كل أزمة اقتصادية فإن الناس - من الطبقة المتوسطة خاصة - تتجه حينها إلى ادخار أموالها تحسباً لما هو أسوأ ، فتقلل من شرائها للكماليات والسلع الاستهلاكية ، فحتى أسواق الخضروات تقل مبيعاتها .
إلا أنه في عام 2001 لاحظ السيد ليوناردو لودير المدير التنفيذي لشركة مستحضرات التجميل Estee Lauder أن مبيعات أحمر الشفاه ارتفعت بشكل ملحوظ أثناء الأزمة بنسبة 11% على عكس المتوقع تماماً .
ثم إن السيد لودير تفحص سجل مبيعات الشركة في السنوات التي حدثت بها أزمات اقتصادية ، ورأى أن مبيعات أحمر الشفاه كانت ترتفع في تلك السنوات أيضاً .
ومن هنا ابتكر السيد لودير "مؤشر أحمر الشفاه" ، والذي من خلاله يمكن أن نقيس أو نتنبأ بالأزمات الاقتصادية بناءً على نسبة مبيعات أحمر الشفاه .
وتأكيداً على ذلك وفي عام 2012 قامت مجموعة من الباحثين بتدقيق سجل مبيعات كبرى شركات مستحضرات التجميل ، كشركة LOREAL الفرنسية مثلاً ، وقد أيدت السجلات نظرية "مؤشر أحمر الشفاه" ففي أزمة عام 1930م الكبرى وأزمة 1990م مثلاً زادت مبيعات أحمر الشفاه بنسبة 25% ، بينما الاقتصاد كان ينهار حرفياً .
وهذا ما تكرر أيضاً في أزمتنا الاقتصادية اليوم - عام 2021م - فبعد أن خلعت النساء كماماتهن وصار وبإمكانهن وضع أحمر الشفاه ارتفعت مبيعاته حول العالم بنسبة 80% - وفقاً لبيانات شركة أبحاث السوق IRI - .
خذ بعضاً من الثواني وفَـكِّـر ... لماذا ترتفع مبيعات أحمر الشفاه أثناء الأزمات الاقتصادية ؟
البشر عموماً والنساء خصوصاً لا ينفكون عن شراء الكماليات ومنتجات الرفاهية ، إذ أنها تشعرهم بالمتعة وتُعزز ثقتهم بأنفسهم ، وفي الأزمات الاقتصادية ونظراً لظروفهم المادية التي تحول بينهم وبين شراء الكماليات الغالية فإن كثير من النساء - وبالأخص اللاتي من الطبقة المتوسطة - يلجئن لأحمر الشفاه ، إذ أنه يمنحهن شعوراً فورياً بالرفاهية والمتعة ويعزز شعورهن بالثقة ، وسعره المنخفض معقول حتى في وسط الأزمات .
في دراسة أجرتها جامعة Edith cowan شاركت فيها مئات النساء ، قالت 85% من النساء أن أحمر الشفاه يعزز من ثقتهن في أنفسهن ، ويزيد من رضاهن عن ذاتهن بعد استخدامه .
لذا لا شك أن المرأة في الأزمة الاقتصادية ستُفضِّل أن تدفع 30 دولار لشراء أحمر شفاه ، عوضاً عن دفع 3000 دولار لشراء حقيبة فاخرة مثلاً ، فهو يمنحها حاجتها من الرفاهية والثقة والرضا بأقل تكلفة ممكنة . ( طبعاً إذا أنت من طبقة مخملية انسي كلامي ... هذا حق عيال الطبقة الكادحة 😜)
وهنا أود أن ألفت انتباهك سيدي القارئ لأمر كتب بين السطور الفائتة ، وهو أن عمليات الشراء متعلقة أحياناً بمشاعرنا وشخصيتنا وليس احتياجاتنا ... وسأوضح لك ذلك .
في كتابها الرائع (The Overspent American) تقول عالمة الاقتصاد والعلوم الاجتماعية جولييت شور Juliet Schor أن كُلاً منا يحاول أن يُصدِّر للمجتمع صورة عن نفسه ، والمجتمع غالباً ما يربط بين مقتنيات الإنسان وشخصيته ومكانته الاجتماعية ، لذا فسيارتنا أو هاتفنا أو شركة ملابسنا أو حتى طعامنا ... كلها أشياء تدعم الصورة التي نحاول أن نريها للعالم عن أنفسنا .
وهذا لا يعني أن مشترياتنا من أجل التباهي ، بل إننا نستخدم أموالنا لخلق صورة جَذّابة عنا ، وما يدعونا لذلك هو الضغوط المجتمعية ، لأننا نقارن أسلوب حياتنا وممتلكاتنا مع أشخاص قريبين منا أو نحترمهم ، أو نعتقد أننا ننتمي للطبقة التي ينتمون لها ، لذا سنقوم بشراء أشياء تحكي للعالم تساوينا معهم كي لا نظهر بصورة البخلاء أو المختلفين عنهم أو أقل منهم بالمستوى ، مما نظن بأنه سيتسبب بنظرة دونية عنا .
قد يشتري صديقك المقرب أو ابن عمك أو حتى مشهور في البرامج الاجتماعية - تشعر بمساواتك معه - ساعة بسعر 500 دينار مثلاً ، فتستثمر أنت أموالك لشرائها أو شراء شيء يُحاكيها من حيث الرفاهية سواء ساعة أو أي شيء آخر ، تُريد بذلك أن تقول للمجتمع "وأنا أيضاً أستطيع" ، فتشعر بالثقة والرضا عن نفسك عند المقارنة ... وهذا ما يُسمى بالاستهلاك التنافسي .
أي أن استهلاكنا لا يُعبِّـر عن احتياجاتنا ، بل ننتهجه بحثاً عن مكانة اجتماعية ، وكما يقول المثل السويدي : "مُشتري ما لا يحتاج يسرق نفسه" .
والمعضلة أننا - وكما تقول الدكتورة جولييت - دائماً ما نختار أشخاصاً نقارن أنفسنا بهم يكونون أعلى منا مكانة أو أقدر مادياً ، فالإنسان غالباً ما ينظر لما هو أعلى .
دقيقة من التأمل بما سبق تُخبرك بكل تأكيد أن هذا التصرف غير منطقي ، فلماذا هو التصرف الغالب على سلوك البشر ؟
الجواب وبكل بساطة يتمثل في أمر واحد وهو "الهشاشة النفسية" .
إن الأشخاص الذين لا يمتلكون صلابة نفسية وشخصياتهم مهزوزة من الداخل ليس بمقدورهم مواجهة الضغوط المجتمعية وآثارها السلبية - كالرفض أو النظرة الدونية مثلاً - يستسلمون لهذه المقارنات وتكون وارداتهم المالية مبذولة على الصورة التي يحاولون أن يصدروها للمجتمع ... مظاهر لا أكثر .
سيدي القارئ انظر للبرامج الاجتماعية .. تلك الأشياء التي يدفع لها الناس ثم يشاركون صورها للآخرين ، إنهم يقولون من خلالها هذه هي شخصيتنا هذه هي طبقتنا هذا هو عالمنا ، ساعين بذلك نحو تعزيز ثقتهم بأنفسهم قائلين نحن لسنا أقل من العالم بشيء .
وسؤالي هل لو كان الإنسان واثقاً من نفسه وذا شخصية صلبة سيفعل ذلك ؟
المال في الغربة وطن والمليونير غالباً ما يكون واثقاً من نفسه يعلم حجم ثروته وقدرته ، وقد أجرى الدكتور توماس ستانلي Thomas Stanley العديد من الدراسات الاستقصائية على مئات المليونيرين أصحاب الثروات الضخمة ، والتي جمعها في كتابه المدهش "The Millionaire Next Door - المليونير المجاور" .
وعلى عكس التصور الشائع لأساليب حياة المليونير فإن الدراسات تؤكد أن غالبية أصحاب الملايين يعيشون حياة مقتصدة ، ويشترون سيارات مستعملة ، وملابسهم من محلات اقتصادية ، ويبحثون عن العروض الشرائية ، ولا يشعرون بحاجة إلى إعلام العالم بقدرتهم على العيش بشكل أفضل بتباهي منقطع النظير .
نَعم هناك حديثي عهد بالثراء يحاولون العيش بترف مبالغ فيه ، وكفى تشخيصاً لهم قول فيلسوف العرب علي ابن أبي طالب عليه السلام : "ما من امرئ تجبر أو تكبر إلا لذلة وجدها في نفسه ، لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل" . ، كلما زادت التشوهات النفسية لدى الإنسان زادت محاولاته بإبراز نفسه من خلال العيش ببذخ ... يُغطي بالمال تشوهاته النفسية .
إن العلامات التجارية باهظة الثمن خُلقِت لتميز طبقة عن أخرى وتعزز ثقة وهمية لأناسٍ فوق آخرين ، لكننا أحياناً نتحجج بأنها أكثر جودة من غيرها ، فالبشر عموماً يستندون إلى السعر كوسيلة لتحديد جودة الأشياء ، وهذا ما نجح التسويق في إيهام الناس به .
في تجربة ظريفة أتى العلماء بمعهد كاليفورنيا للدراسات بمجموعة من طلبة الدراسات العليا الذين يحبون شرب النبيذ الأحمر ، وأعطوهم نوعين من النبيذ ، الأول سعر الزجاجة منه 5$ ، والآخر سعر الزجاجة منه 45$ ، ثم طلبوا منهم تحديد أيهما أروع طعماً ، وكانت أدمغتهم متصلة بجهاز MRI لمعرفة ما يدور فيها .
الطلبة بأجمعهم اتفقوا على أن النبيذ الأغلى كان طعمه ألذ ، وكانت مناطق المتعة في الدماغ تزداد نشاطاً وتوجهاً عند شرب النبيذ الأغلى مقارنة بالنوع الآخر .
والمضحك في الأمر أن كِلا النبيذين في الحقيقة كانا من نفس الزجاجة ولكن تم خداع الطلبة لرؤية كيفية تأثير السعر على تقييمنا للأمور .
نَعم السعر يوهمنا بالتفوق ويزيد متعة الأشياء .. لكنه ليس الوسيلة المثلى لتحديد جودة الأشياء ، لكنه الطريقة الأمثل للشعور بالتفوق على الآخرين .
سيدي القارئ ...
الحياة تسع الجميع ، ومن الطبيعي أن يتفوق فيها البعض على البعض الآخر ... وليس فشلاً أن يكون غيرنا أفضل منا .. إنها الحياة . ( حياة مو سباق فورملا ون والله 😜)
لماذا الاكتئاب هو مرض العصر ؟! لأن البشر يعيشون حالة تنافس غير منطقية ، يعيشون تحت ضغط مجتمعي هم فرضوه على أنفسهم ، فيُرهقون لكسب المال كي يبذلونه على صورة يُجهدون في إيصالها للمجتمع .
ولو اقتنع الناس بأنهم ليسوا في تنافس مع الآخرين وليس عليهم إثبات شيء لأحد سيرتاحون ... سيضعون عن كاهلهم ثقل تلك الأغلال ، ولو تقبل ذوي الهشاشة النفسية أن العقل يبرز شخصيتهم أفضل من البنطالون لما تنافسوا في البرامج على تصوير المقتنيات ، بل لاستثمروا أموالهم على تطوير أنفسهم عوضاً عن مظاهرهم .
إن الأشياء التي ندفع من أجلها المال هي مصدر للمتعة وليس السعادة ... وهناك فرق شاسع بينهما .
لا تنافس أحد .. اهتم بتقوية نفسك لا أكثر .