مرحباً بك بـيـن حكاياتي
لست مجنوناً.... أو أقلاً هذا ما أستطيع ادعاءه عن نفسي، وإن كان يحلو لبعض الناس أن ينعتوني مخبولاً، فاصغ إلي واستمع مني هذه القصة والدراسات، وراقب سلامة عقلي، فإن رأيتني رزين الدماغ فتقبلها مني.
قبل أربع سنوات وفي مدينة ليفربول وعلى رصيف محطة القطار، في برودة شهر يناير عندما يترجف الضمير قبل المفاصل من شدة البرد، رأيت رجلاً ذو ملامح عربية قحاح يرتدي معطفاً طويلاً ويتحدث بكل غضب وامتعاض على الهاتف بلهجته السعودية، يكيل وابلاً من الاتهامات بالحماقة وعدم المراعاة.
عندما أنهى مكالمته تحولت فورة غضبه إلى لحظات من الانكسار والضعف لا يملك سيطرة على دموعه، بدا وأن الدنيا -بما رحبت- في عينيه أضيق من محطة القطار، حينها -ودون أي مقدمات- شعرت بمسؤولية على عاتقي أن أُقدم له شيئاً وأن أخض معه حرب المشاعر هذه وإن لم تكن حربي.... أحسست لوهلة أن هذا السيد هو مهمتي القادمة في الحياة.
دنيت منه، ولعلها كانت إحدى لحظات حياته التي يتمنى المرء فيها أن يتمتع بعزلته عن العالم، لكنني زاحمته وقلت له بلطف وصوت هادئ "أعتقد أنك سعودي... يا سيد معطفك رائع جداً... تبدو أنيقاً حقاً، فقط أحببت قول هذا"، ورجعت خطوتين إلى الوراء وبقيت أنظر إليه... وليتك يا سيدي القارئ معي في تلك اللحظة، لرأيت شمساً انتهى كسوفها للتو، وجهه الذي كان قُبيل لحظات تتلاطم على خديه الدموع تسللت له ابتسامة مبهجة، تكاد تستحي منها الأحزان أن تجلس في قلبه.
شكرني بصوت يرتجف متقطعاً تدرك عند سماعه أنه يحاول كبح سيل من العويل والبكاء لائذاً بباقية صبر وتجلد، وأخبرني أنه يمكنني أخذه كهدية إن أعجبني صدقاً، فقلت له "تبارك الرحمن!!! علاوة على أناقة هندامك هناك شخصية كريمة معها!!! لو كانت الحياة تعطينا على قدر استحقاقنا لما أظنك بكيت... لكنها وللأسف لا تعمل بهذه الطريقة، إن لكل امرئ منا حصته من المصاعب والمشاكل التي قد لا يريدها أو يتمناها لكنها ستقع حتماً رغماً عنه فهذه هي الحياة كما ترى"
احتضنني حينها... ولربما ذلك كان كل ما يحتاجه في تلك اللحظة، تكللني الندم عندئذ... فمن المبتذل أن تعطي نصيحة لشخصٍ جُل ما يحتاجه "عناق".
ومن ليفربول إلى مدينة يورك نادمته في القطار وبقينا نتحدث لما يزهو عن الساعتين بقليل، وبقلب صادق أشدت بشخصيته وتفكيره مثنياً عليه مادحاً إياه... لقد تمخطرت إلى حرب مشاعره بسيف من خشب يُدعى "المجاملة" بـيدَ إني انتصرت... كان يضحك معي ويمازحني بشدة، وكأنه يريد -بقسوة- الانتقام من تلك الدموع.
لم أره بعدها... إلا أننا بقينا متواصلين على برامج التواصل الاجتماعي، ولقد أخبرني قبل كتابتي لهذا المقال بأسبوع أن تلك المحادثة العابرة قد غيرت مسار حياته، فلقد كان ينوي الانسحاب من برنامج الماجستير المنتسب إليه، إلا أنه أدرك أن قراره كان تحت طائلة الحزن، وتلك حتماً أتعس قرارات الإنسان وأكثرها ندماً، وها هو اليوم تخرج أخيراً بدرجة الدكتوراه من ذات الجامعة التي حظيت منها بدرجة الدكتوراه أيضاً في ليفربول.
سيدي القارئ... أ تعلم أن تؤدي بالإنسان مجاملة عابرة؟
في الدماغ في النواة المتكئة وما حولها، هناك هياكل ومسارات عصبية يُسميها علماء الأعصاب بنظام المكافأة، تتحفز عندما يكسب الإنسان بعض المتعة كأن يمارس الجنس أو يأكلاً طعاماً يحبه أو يكسب شيئاً من المال، وفي دراسة عام 2008 لعالم الأعصاب الياباني Keise Izuma من جامعة كاناغاوا اليابانية، راقب فيها أدمغة عدة أشخاص من خلال أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي FMRI، رأى أن "نظام المكافأة في الدماغ" يتحفز بشكل كبير عندما يتلقى المشاركون في التجربة بعض المجاملات، فإحدى المشارِكات في التجربة عندما تلقت مجاملة حول ثوبها -المليء بالورد الذي يشبه لون خديها- بدا الأمر وكأن هناك مهرجان من الدوبامين -هرمون السعادة- في تلك المسارات العصبية.
يا لرقة الإنسان... تصنع به كلمة كل هذا المستوى من الفرح!!
وفي دراسة من ذات الجامعة ولكن للدكتور Sho Sugawara عام 2012 جيء بـ48 بالغ، وحاول مدربون مختصون تعليمهم مهارات جديدة لم يتدربوا عليها من قبل، كالرقص والعزف على البيانو، تلقى 16 مشاركاً ثناءً ومجاملات على أداءاتهم الأولية وممارستهم المبتدئة، وفي الحصيلة كان أداء من تلقوا المجاملات مميزاً جداً وأتقنوا المهارات بشكل أفضل عن البقية ممن لم يتلقوا تلك المجاملات.
وهذا لا ينعكس على المهارات الحركية فقط، بل إن المجاملات تُـحسن من أداء الشخص عموماً في أي مهارة كانت سواء عقلية أو حركية أو غيرها، ناهيك عن كونهاً تقطع شوطاً طويلاً في سعادته.
في سلسلة دراسات وتجارب لعالمة النفس الاجتماعي من جامعة كورنيل السيدة فانيسا بونز Vanessa Bohns نشرتها قبل سنتين، تناولت فيها تقديم المجاملات من أكثر من زاوية... وإليك بعض تلك الدراسات:
في دراستها الأولى جعلت السيدة فانيسا بعض الطلبة المشاركين في التجربة يذهبون إلى حرم الجامعة ويقدمون مجاملات لطلبة -لا تربطهم بهم أية علاقة مسبقة- حول أناقتهم وجمال لباسهم، الطلاب الذكور لزملائهم الشباب، والطالبات لزميلاتهن الفتيات، وبعد أن يخرج متلقي المدح من الجامعة يتم إعطاؤه ظرفاً فيه استطلاع رأي حول مدى سعادته بالمجاملات التي سمعها اليوم، كذلك مقدمي الإطراء يتم استطلاع رأي حول اعتقادهم بمدى سعادة غيرهم بما سمعوه منهم من مجاملة.
أظهرت هذه الدراسة الاستقصائية أن مقدمي المجاملات قللوا من شأن مجاملاتهم وأنها حتماً لن تضيف الكثير لسعادة الآخرين، بينما البيانات أكدت أن متلقي المجاملة شعروا بسعادة كبيرة وارتياح أكثر بكثير مما توقعه مانح المجاملة.
في الدراسة الثانية منح الطلبة المشاركون حرية المجاملة حول أي شيء وليس فقط الملابس، وكذلك قلل مقدمي المجاملة من مدى إسعادها للآخرين، بينما البيانات أكدت أن متلقي المجاملة شعروا بلذة وبهجة شديدة بما سمعوا.
في الدراسة الثالثة طرحت الدكتورة سؤال "هل يتجنب الناس إعطاء المجاملات للغرباء لأنهم قلقون بشأن جعل المستمعين لها يشعرون بالحرج أو عدم الارتياح أو الريبة؟، وفي هذه الدراسة طُـلب من مقدي المجاملات التنبؤ إن كان لدى متلقي المجاملة مشاعر سلبية بسبب مجاملة الغرباء لهم، وتم عمل استطلاع رأي لمتلقي المجاملة وكذلك مانحيها، وكانت النتيجة أن مقدمي المجاملات بالغوا بشكل كبير في تقدير مدى انزعاج الآخرين منهم وعدم ارتياحهم لمجاملة الغرباء، بينما حقيقة البيانات كان غالبية متلقي المجاملة مستمتعين بما سمعوه ولم يقلقوا -إلى حد كبير- من مجاملة غريب لهم بالأخص كونها مجاملة عابرة.
وفي دراسة أخرى لدكتورة علم النفس كرستينا تايلور Christina Taylor من جامعة القلب المقدس جعلت مجموعة من الأشخاص يمارسون المجاملات يومياً ويدونوا مشاعرهم في مذكراتهم اليومية، فتوصلت إلى أن تقديم المجاملة عمل إنساني لطيف يجعل الإنسان يشعر بالرضا اتجاه نفسه وهو حتماً ما سينعكس على احترامه لذاته وبالتالي سعادته ونجاحه في الحياة.
إذاً سيدي القارئ الدراسات تؤكد على روعة المجاملة وانعكاسها على شعور المتلقي والمعطي على حد سواء، فلماذا يعرض الكثيرون عنها؟
كما قرأت في الدراسة الثالثة للدكتورة فانيسا مقدمي المجاملات قد يعتقدون أن مجاملة شخص غريب قد تسبب له شعوراً بعدم الارتياح أو الانزعاج، ولعلهم يتجنبون تقديمها أدباً، مع العلم أن البيانات تؤكد أن الغالبية الساحقة تفضل المجاملة -ولو من الغرباء-، وبالأخص إن كان من ذات جنس مقدم المجاملة.
أما عن مجاملة الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقة ومعرفة مسبقة فإننا نحجم عن مجاملتهم لأسباب مختلفة، فكما قرأت في الدراسة الأولى والثانية السابقتين للدكتورة فانيسا أننا نقلل من حجم تأثير المجاملة على سعادة الآخرين فنستنقص منها ولا نبديها.
وفي ذات البحث للدكتورة فانيسا أشار الكثير من المشاركين في التجربة أنهم لا يُفضلون إبداء المجاملات لأنهم يظنون أن مجاملاتهم قد تكون ساذجة أو غير جيدة بما يكفي لكي يتقبلها الآخرون بصدر رحب وسعادة، وهذا ما كذبته بيانات الدراسة أيضاً.
لذا سيدي القارئ إن كنت لا تستحسن تقديم المجاملات للآخرين وإبداء الثناء والمدح اللطيف لهم أرجو أن تغير هذه الدراسات شيئاً من تفكيرك... امنح نفسك الفرصة لتكون سبباً في إسعاد الآخرين ونفسك على حدٍ سواء، وكن دافعاً لتطوير أداء الآخرين ونجاحهم، ولا تتردد في تقديمها متكهناً بأنها ستزعجهم.... العلم يحثك ويدفعك بإصرار على تقديمها، فهي بلا شك ستسعدك وتسعدهم وتُحسن أداءهم، واترك تلك الاقتباسات الحمقاء التي تعج بها برامج التواصل الاجتماعي عن قبح المجاملة، كما رأيت هذا ليس كلام العلم.
وإليك هذه النصائح اليسيرة لتكون مجاملتك أشد فاعلية وأقرب لقلب المتلقي.
1- اجعل مجاملتك شخصية، امتدح شيئاً فيه كطريقة تفكيره أو ذوقه وما أشبه، لا تمتدح أشياءً عامة كعرقه أو سكان دولته أو قبيلته.
2- قدم المجاملة بصدق دون وجود نية سيئة خلفها، لتكن فعلاً معجباً -ولو نسبياً- بالشيء الذي تمدحه، وتذكر أن الناس مثلاً لا تحبذ مجاملات مندوب المبيعات لأنه ربما يقول ذلك مستغفلاً غيره، وحتماً سترفض فتاة تغزل أحدهم فيها متحرشاً ولو من باب المجاملة.
3- لتكن مجاملتك في نقطة محددة، سيكون ذلك أكثر صدقاً من تكديس الثناء العام، قلوب الناس عموماً تميل لتلك المحادثة القصيرة.
أما السيد ذو المعطف الدكتور نايف.... فلقد كان أنيقاً حقاً وحذق بعقلية رائعة ويستحق هذه الدرجة العلمية، ولكن عليه أن يحمد الله أنني لم أقبل مجاملته بأخذ المعطف... لكان تجمد من البرد 😜 .
Created with GoDaddy Arabic Website Builder