سيدي القارئ لو خيرت بين الشعور بالألم والشعور بالملل .. أيهما ستختار ؟
في عام 1975م تخرج السيد "مهران ناصري" من جامعة برادفورد البريطانية وقرر العودة إلى وطنه إيران ، وما إن وصل إلى المطار استقبلته القوات الخاصة الإيرانية واقتادته إلى السجن ، ومارست عليه أنواع التعذيب ، لاشتراكه في مظاهرات مناهضة لشاه إيران في بريطانيا .
وبعد أشهر من السجن خرج مهران وطلب اللجوء من عدة دول أوربية ، ولم تقبله سوى بلجيكا ، والتي بقي فيها عدة سنوات .
بعد ذلك قرر العودة إلى بريطانيا عن طريق مطار شارلي ديغول الفرنسي ، لكن حظه العاثر سَلَّطَ عليه لصاً سرق أوراقه الثبوتية أثناء رحلته ، فلما وصل إلى مطار هيثرو في لندن ، رفضته السلطات البريطانية وقررت إرجاعه إلى مطار شارلي ديغول الفرنسي لعدم حمله أي أوراق رسمية .
السلطات الفرنسية أبقته في صالة الترانزيت في المطار كي تنظر في موضوعه ، وقد طال مكوثه هناك ... لقد بقي في المطار 18 عام كاملة !!! .
تأقلم السيد مهران على حياة صالة الترانزيت ، كان يقوم يومياً من النوم في الساعة الخامسة فجراً ليستحم في دورات المياه ، ويمارس نشاطه اليومي كالاستماع إلى الراديو وقراءة الكتب وكتابة مذكراته والقيام ببعض الأعمال اليدوية التي تُكسبه المال لشراء الطعام أو الملابس .
وفي المطار التقى السيد مهران بالكاتب البريطاني أندرو دونكين ، والذي ساعده على تحويل مذكراته إلى كتاب نُشر في العديد من دول العالم وتُرجم إلى لغات مختلفة ، وقد صُنعت منه عدة أفلام سنيمائية كالفيلم الفرنسي "ضائع في الترانزيت" وفيلم "ذا تريمينال" للقدير توم هانكس .
الكتب والأفلام أربحت السيد مهران الكثير من الأموال ، والتي جعلته يتكاسل عن الأنشطة التي كان يقوم بها لكسب المال ، وذلك ما جعل الملل يتسلل إلى دماغه ، فانتكست صحته العقلية !! ، وبدأ يُسمي نفسه "السير ألفريد" ، ولا يلتفت إلى كل من يناديه مهران ، بل ونسي لغته وهويته الإيرانية .
وفي عام 1999م منحته السلطات الفرنسية حق اللجوء إليها ، إلا أنه رفض ذلك وبقي في المطار ، لأن السلطات كتبت في أوراق اللجوء أنه إيراني ، بينما مهران كان يرى نفسه بريطانياً !! .
توالت الأيام المملة على مهران مخلفة فيه الكثير من الاضطرابات النفسية ، وفي عام 2007 وبعد أن انهارت صحته وجن جنونه وافقت فرنسا على إدخاله إلى مركز رعاية للاجئين في باريس ، ولا يزال فيه وعمره اليوم 75 عاماً .
السنوات العشر الأولى التي استثمر فيها مهران عقله لكسب المال والكتابة حافظت على قواه العقلية ، بينما المال الذي شجعه على الكسل قاده إلى حافة الجنون إذ سَلَّمه إلى الملل ليفتك به .
ولا تظن سيدي القارئ إنني أبالغ حين أقول لك أن الملل فتك بقواها العقلية ... إنه أسوأ مما تتصور ، إليك هذه الدراسة .
قام دكتور علم النفس والأعصاب السيد دونالد هيب Donald Hebb بتجربة مثيرة على مجموعة من الأشخاص الأصحاء نفسياً وعقلياً ، إذ يوضع المتطوع للتجربة في غرف محدودة المسافة منعزلة عن الناس والأصوات ، وبإضاءة معدمة ، وبيده قفازات كي لا يشعر بملمس أي شيء حوله .... أي ملل تام لا يمكن لعقله أن يتمتع بأي من حواسه .
بعد سويعات قليلة من سيطرة الشعور بالملل ظهرت على المتطوعين أعراض القلق والتوتر ، ثم انتابتهم بعد ذلك بعض الهلاوس ، فأحدهم ادعى رؤية غابات مليئة بالحيوانات ، وآخر رأى بشراً لونهم أصفر ، ومن رأى مظاهرات تقوم بها نظارات شمسية ، ومنهم من سمع أصوات طيارات حربية تحلق فوق رأسه ، ومنهم من شعر بآلام في يديه كأنه تعرض لإطلاق نار ، وأحدهم قال : رأيت دماغي كأنه كرة من القطن يخرج من رأسي ويطير في أرجاء الغرفة .
بعد خروجهم من تلك العزلة المملة طُلب منهم حل بعض المسائل الحسابية وتشكيل بعض الأشكال في المكعبات ، إلا أنه كان هناك تدهور شديد في قدرتهم العقلية وعجزوا عن ذلك .
وقد سألهم السيد دونالد عن رأيهم حول الأشباح والأرواح الشريرة ، فكان بعض المتطوعين يجيبون بأنهم يشعرون بها ويخافون من ظهورها ويعتقدون بوجودها ، رغم أن كثيراً منهم - كما يقول أقاربهم - لم يكن يؤمنون بها قبل التجربة . ( وايي لك واحد الملل لاعب بمخه ويقول لك التطعيم مؤامرة .. عطوني عقاااال 😒)
فهل اقتنعت أن الملل يبطش بالدماغ ... حرفياً ؟
لنعد إلى سؤال مقدمة المقال ، لو خيرت بين الشعور بالألم والشعور بالملل .. أيهما ستختار ؟
في دراسة حديثة كان المشارك في التجربة يوضع في غرفة لمدة تتراوح بين 6 إلى 15 دقيقة فقط ، وليس في الغرفة إلا زر يصعق بالكهرباء من يضغطه .
وطلب الباحثون من المشاركين يسلوا أنفسهم بأفكارهم خلال هذه المدة ، أو بإمكانهم صعق أنفسهم أن أرادوا !! .
ولك أن تتخيل أن 76% من الرجال و25% من النساء المشاركين في التجربة صعقوا أنفسهم عوض الشعور بالملل !!!.
رغم أن جميعهم أخبروا الباحثين قبل التجربة أنهم على استعداد لدفع المال مقابل تجنب الصعق بالكهرباء .
فضلوا الشعور بالألم على الشعور بالملل ... أ رأيت إلى أي مدى تكره أدمغتنا هذا الشعور ؟!
والملل ليس فقط عدم المشارك بأي نشاط كما هو الحال في التجربتين السابقتين ، بل هو عدم انجذابك وتمتعك بما تقوم به ... مجرد انخراطك في أمر لا تستلطفه سيصيبك بالملل .
ولعلك سيدي القارئ بعد أن عرفت فظاعة الملل تظنني سأدعوك لتجنبه حباً لك وحرصاً عليك ... كَلا ، أرجوك اشعر بالملل . ( بس ترى أحبك والله 🥰 اشفيك استحيت 😜)
عندما يتسلل الملل إلى دماغك يُفقدك التركيز ، ويجعلك تجول بأفكارك يميناً وشمالاً بحثاً عما يمتعك ، كالتقلب بين البرامج الاجتماعية وما أشبه ، ولا شك أن ذلك سينقذك من الشعور بالملل ، لكنك ستخسر الكثير في حينها ... وهنا مربط الفرس .
في تجربة قاموا بإعطاء المشاركين مجموعة من المهام المملة المختلفة ، كقراءة دليل الهاتف مثلاً ، ثم طلبوا منهم بعد انجاز المهمة أن يكونوا مبدعين ويبتكروا أكبر قدر من الأفكار لما يكمن عمله بكوب من البلاستيك .
وكانت النتيجة أن الأشخاص الذين قاموا بالمهام الأكثر مللاً كانوا أكثر ابداعاً من أولئك الذين لم يعانوا الكثير من الملل .
أي أن الملل حفز قدرة أدمغتهم على التفكير والابداع ... نعم كثير من الملل يُردي الدماغ ، لكن بعض الملل يحفز الدماغ على الإبداع .
الشعور بالملل رسالة دماغية مفادها أنك لا تتشارك مع العالم المحيط بك بالشكل المناسب ، ويخبرك بأنه قادر على الإبداع والتفكير ... فقط قم باستثماره .
في دراسات أخرى أظهرت النتائج أن الملل يجعلك أكثر إيثاراً وإنسانية ، فالإنسان عندما يغزوه الملل يشعر بأنه خائب ومشتت ، وقد يجعلك ذلك تتساءل ما الذي تفعله بحياتك وإلى أي طريق تسير وما الهدف من وجودك ؟ .
في دراسة للباحثة دكتورة الصحة النفسية السيدة Iris Anda Ilies قادت فيها مجموعة من المشاركين إلى الشعور بالملل ، ثم حدثتهم عن التبرع للجمعيات الخيرية والتبرع بالدم ، فكان المشاركون الأكثر تمللاً هم الأكثر إيثاراً وتبرعاً .
وفي استطلاع للرأي في أمريكاً ، أكثر من 81% من المتبرعين بالدم ، كانوا يقولون أنهم تبرعوا بالدم لأن لديهم وقت فراغ!! ، وهذه نسبة كبيرة جداً تدعوك لإعادة تصورك عن الشعور بالملل . ( ولأكن معك صادقاً خطرت ببالي فكرة المقال وأنا متملل أثناء تبرعي بالدم )
أي فرصة القيام بأعمال قيمة - ولو كانت غير ممتعة - أثناء شعور بالملل أكبر مما لو لم تكن كذلك ... الملل يقودنا للتفكير بحياتنا فيعطيها هدفاً ومعنى .
في دراسة لدكتور علم النفس بنيامين بايرد benjamin baird أكد أن الأشخاص الذين يشعرون بالملل عند قيامهم ببعض المهام البسيطة ، ويشردون بأذهانهم أثناء ذلك ، كثيراً ما يفكرون في المستقبل وينغمسون في التخطيط الذاتي عند تمللهم من تلك الأنشطة .
أي عند شعورك بالملل قد يحاول عقلك أن يهرول إلى هاتفه - مثلاً - للبحث عن ما يسيله ... ونعم أنت بذلك تخفف لحظة من الملل ، لكنك تحرم نفسك من المزيد من الأفكار المبدعة والروح الإنسانية ، وتُضيِّـع عليها إعادة تقييمها لمستقبلها وخططها ، لأن الأدمغة المستهلكة دائماً بالمحفزات والتسلية من النادر أن تفكر في ذلك .
وحينها ستكون كالذي يصعق نفسه باستمرار ليتجنب الشعور بالألم ، فيضر نفسه كي يتلافى ذلك الشعور .
عند شعورك بالملل لا تبحث عن جرعة من التسلية ، امنح نفسك دقائقاً من التفكير والتأمل ، تلك الدقائق ستغير الكثير من أفكارك وأهدافك ... وستضفي على تصرفاتك المزيد من الإنسانية .
ولكن إياك أن تُسلم دماغك إلى الملل الكلي دون تفكيرٍ وتأمل ، فإن دماغك إن لم يشغل نفسه بما ينفعه أو يسليه ، سيُلهي نفسه بنفسه بما يهوي به إلى حافة الجنون أو الأفكار السخيفة .. تماماً كما هو حال مهران ناصري .