Blog Layout

قبل أن تصعق نفسك ... أرجوك اشعر بالملل

سيدي القارئ لو خيرت بين الشعور بالألم والشعور بالملل .. أيهما ستختار ؟
في عام 1975م تخرج السيد "مهران ناصري" من جامعة برادفورد البريطانية وقرر العودة إلى وطنه إيران ، وما إن وصل إلى المطار استقبلته القوات الخاصة الإيرانية واقتادته إلى السجن ، ومارست عليه أنواع التعذيب ، لاشتراكه في مظاهرات مناهضة لشاه إيران في بريطانيا .
وبعد أشهر من السجن خرج مهران وطلب اللجوء من عدة دول أوربية ، ولم تقبله سوى بلجيكا ، والتي بقي فيها عدة سنوات .
بعد ذلك قرر العودة إلى بريطانيا عن طريق مطار شارلي ديغول الفرنسي ، لكن حظه العاثر سَلَّطَ عليه لصاً سرق أوراقه الثبوتية أثناء رحلته ، فلما وصل إلى مطار هيثرو في لندن ، رفضته السلطات البريطانية وقررت إرجاعه إلى مطار شارلي ديغول الفرنسي لعدم حمله أي أوراق رسمية .
السلطات الفرنسية أبقته في صالة الترانزيت في المطار كي تنظر في موضوعه ، وقد طال مكوثه هناك ... لقد بقي في المطار 18 عام كاملة !!! .
تأقلم السيد مهران على حياة صالة الترانزيت ، كان يقوم يومياً من النوم في الساعة الخامسة فجراً ليستحم في دورات المياه ، ويمارس نشاطه اليومي كالاستماع إلى الراديو وقراءة الكتب وكتابة مذكراته والقيام ببعض الأعمال اليدوية التي تُكسبه المال لشراء الطعام أو الملابس .
وفي المطار التقى السيد مهران بالكاتب البريطاني أندرو دونكين ، والذي ساعده على تحويل مذكراته إلى كتاب نُشر في العديد من دول العالم وتُرجم إلى لغات مختلفة ، وقد صُنعت منه عدة أفلام سنيمائية كالفيلم الفرنسي "ضائع في الترانزيت" وفيلم "ذا تريمينال" للقدير توم هانكس .
الكتب والأفلام أربحت السيد مهران الكثير من الأموال ، والتي جعلته يتكاسل عن الأنشطة التي كان يقوم بها لكسب المال ، وذلك ما جعل الملل يتسلل إلى دماغه ، فانتكست صحته العقلية !! ، وبدأ يُسمي نفسه "السير ألفريد" ، ولا يلتفت إلى كل من يناديه مهران ، بل ونسي لغته وهويته الإيرانية .
وفي عام 1999م منحته السلطات الفرنسية حق اللجوء إليها ، إلا أنه رفض ذلك وبقي في المطار ، لأن السلطات كتبت في أوراق اللجوء أنه إيراني ، بينما مهران كان يرى نفسه بريطانياً !! .
توالت الأيام المملة على مهران مخلفة فيه الكثير من الاضطرابات النفسية ، وفي عام 2007 وبعد أن انهارت صحته وجن جنونه وافقت فرنسا على إدخاله إلى مركز رعاية للاجئين في باريس ، ولا يزال فيه وعمره اليوم 75 عاماً .
السنوات العشر الأولى التي استثمر فيها مهران عقله لكسب المال والكتابة حافظت على قواه العقلية ، بينما المال الذي شجعه على الكسل قاده إلى حافة الجنون إذ سَلَّمه إلى الملل ليفتك به .
ولا تظن سيدي القارئ إنني أبالغ حين أقول لك أن الملل فتك بقواها العقلية ... إنه أسوأ مما تتصور ، إليك هذه الدراسة .
قام دكتور علم النفس والأعصاب السيد دونالد هيب Donald Hebb بتجربة مثيرة على مجموعة من الأشخاص الأصحاء نفسياً وعقلياً ، إذ يوضع المتطوع للتجربة في غرف محدودة المسافة منعزلة عن الناس والأصوات ، وبإضاءة معدمة ، وبيده قفازات كي لا يشعر بملمس أي شيء حوله .... أي ملل تام لا يمكن لعقله أن يتمتع بأي من حواسه .
بعد سويعات قليلة من سيطرة الشعور بالملل ظهرت على المتطوعين أعراض القلق والتوتر ، ثم انتابتهم بعد ذلك بعض الهلاوس ، فأحدهم ادعى رؤية غابات مليئة بالحيوانات ، وآخر رأى بشراً لونهم أصفر ، ومن رأى مظاهرات تقوم بها نظارات شمسية ، ومنهم من سمع أصوات طيارات حربية تحلق فوق رأسه ، ومنهم من شعر بآلام في يديه كأنه تعرض لإطلاق نار ، وأحدهم قال : رأيت دماغي كأنه كرة من القطن يخرج من رأسي ويطير في أرجاء الغرفة .
بعد خروجهم من تلك العزلة المملة طُلب منهم حل بعض المسائل الحسابية وتشكيل بعض الأشكال في المكعبات ، إلا أنه كان هناك تدهور شديد في قدرتهم العقلية وعجزوا عن ذلك .
وقد سألهم السيد دونالد عن رأيهم حول الأشباح والأرواح الشريرة ، فكان بعض المتطوعين يجيبون بأنهم يشعرون بها ويخافون من ظهورها ويعتقدون بوجودها ، رغم أن كثيراً منهم - كما يقول أقاربهم - لم يكن يؤمنون بها قبل التجربة . ( وايي لك واحد الملل لاعب بمخه ويقول لك التطعيم مؤامرة .. عطوني عقاااال 😒)
فهل اقتنعت أن الملل يبطش بالدماغ ... حرفياً ؟
لنعد إلى سؤال مقدمة المقال ، لو خيرت بين الشعور بالألم والشعور بالملل .. أيهما ستختار ؟
في دراسة حديثة كان المشارك في التجربة يوضع في غرفة لمدة تتراوح بين 6 إلى 15 دقيقة فقط ، وليس في الغرفة إلا زر يصعق بالكهرباء من يضغطه .
وطلب الباحثون من المشاركين يسلوا أنفسهم بأفكارهم خلال هذه المدة ، أو بإمكانهم صعق أنفسهم أن أرادوا !! .
ولك أن تتخيل أن 76% من الرجال و25% من النساء المشاركين في التجربة صعقوا أنفسهم عوض الشعور بالملل !!!.
رغم أن جميعهم أخبروا الباحثين قبل التجربة أنهم على استعداد لدفع المال مقابل تجنب الصعق بالكهرباء .
فضلوا الشعور بالألم على الشعور بالملل ... أ رأيت إلى أي مدى تكره أدمغتنا هذا الشعور ؟!
والملل ليس فقط عدم المشارك بأي نشاط كما هو الحال في التجربتين السابقتين ، بل هو عدم انجذابك وتمتعك بما تقوم به ... مجرد انخراطك في أمر لا تستلطفه سيصيبك بالملل .
ولعلك سيدي القارئ بعد أن عرفت فظاعة الملل تظنني سأدعوك لتجنبه حباً لك وحرصاً عليك ... كَلا ، أرجوك اشعر بالملل . ( بس ترى أحبك والله 🥰 اشفيك استحيت 😜)
عندما يتسلل الملل إلى دماغك يُفقدك التركيز ، ويجعلك تجول بأفكارك يميناً وشمالاً بحثاً عما يمتعك ، كالتقلب بين البرامج الاجتماعية وما أشبه ، ولا شك أن ذلك سينقذك من الشعور بالملل ، لكنك ستخسر الكثير في حينها ... وهنا مربط الفرس .
في تجربة قاموا بإعطاء المشاركين مجموعة من المهام المملة المختلفة ، كقراءة دليل الهاتف مثلاً ، ثم طلبوا منهم بعد انجاز المهمة أن يكونوا مبدعين ويبتكروا أكبر قدر من الأفكار لما يكمن عمله بكوب من البلاستيك .
وكانت النتيجة أن الأشخاص الذين قاموا بالمهام الأكثر مللاً كانوا أكثر ابداعاً من أولئك الذين لم يعانوا الكثير من الملل .
أي أن الملل حفز قدرة أدمغتهم على التفكير والابداع ... نعم كثير من الملل يُردي الدماغ ، لكن بعض الملل يحفز الدماغ على الإبداع .
الشعور بالملل رسالة دماغية مفادها أنك لا تتشارك مع العالم المحيط بك بالشكل المناسب ، ويخبرك بأنه قادر على الإبداع والتفكير ... فقط قم باستثماره .
في دراسات أخرى أظهرت النتائج أن الملل يجعلك أكثر إيثاراً وإنسانية ، فالإنسان عندما يغزوه الملل يشعر بأنه خائب ومشتت ، وقد يجعلك ذلك تتساءل ما الذي تفعله بحياتك وإلى أي طريق تسير وما الهدف من وجودك ؟ .
في دراسة للباحثة دكتورة الصحة النفسية السيدة Iris Anda Ilies قادت فيها مجموعة من المشاركين إلى الشعور بالملل ، ثم حدثتهم عن التبرع للجمعيات الخيرية والتبرع بالدم ، فكان المشاركون الأكثر تمللاً هم الأكثر إيثاراً وتبرعاً .
وفي استطلاع للرأي في أمريكاً ، أكثر من 81% من المتبرعين بالدم ، كانوا يقولون أنهم تبرعوا بالدم لأن لديهم وقت فراغ!! ، وهذه نسبة كبيرة جداً تدعوك لإعادة تصورك عن الشعور بالملل . ( ولأكن معك صادقاً خطرت ببالي فكرة المقال وأنا متملل أثناء تبرعي بالدم )
 أي فرصة القيام بأعمال قيمة - ولو كانت غير ممتعة - أثناء شعور بالملل أكبر مما لو لم تكن كذلك ... الملل يقودنا للتفكير بحياتنا فيعطيها هدفاً ومعنى .
في دراسة لدكتور علم النفس بنيامين بايرد benjamin baird أكد أن الأشخاص الذين يشعرون بالملل عند قيامهم ببعض المهام البسيطة ، ويشردون بأذهانهم أثناء ذلك ، كثيراً ما يفكرون في المستقبل وينغمسون في التخطيط الذاتي عند تمللهم من تلك الأنشطة .
أي عند شعورك بالملل قد يحاول عقلك أن يهرول إلى هاتفه - مثلاً - للبحث عن ما يسيله ... ونعم أنت بذلك تخفف لحظة من الملل ، لكنك تحرم نفسك من المزيد من الأفكار المبدعة والروح الإنسانية ، وتُضيِّـع عليها إعادة تقييمها لمستقبلها وخططها ، لأن الأدمغة المستهلكة دائماً بالمحفزات والتسلية من النادر أن تفكر في ذلك .
وحينها ستكون كالذي يصعق نفسه باستمرار ليتجنب الشعور بالألم ، فيضر نفسه كي يتلافى ذلك الشعور .
عند شعورك بالملل لا تبحث عن جرعة من التسلية ، امنح نفسك دقائقاً من التفكير والتأمل ، تلك الدقائق ستغير الكثير من أفكارك وأهدافك ... وستضفي على تصرفاتك المزيد من الإنسانية .
ولكن إياك أن تُسلم دماغك إلى الملل الكلي دون تفكيرٍ وتأمل ، فإن دماغك إن لم يشغل نفسه بما ينفعه أو يسليه ، سيُلهي نفسه بنفسه بما يهوي به إلى حافة الجنون أو الأفكار السخيفة .. تماماً كما هو حال مهران ناصري .

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بقية المقالات
Share by: