Blog Layout

أنت رائع ... ولكن

سيدي القارئ .. لنقم بتجربة ، أرجو منك متفضلاً أن تجاوب على هذه الأسئلة ، ولتكن الأجوبة من 1 إلى 10 .
إلى أي مدى تُقيم نفسك ذكياً ؟
إلى أي مدى تعتبر نفسك ظريفاً مضحكاً ؟
إلى أي مدى ترى نفسك محبوباً لدى الآخرين ؟
إلى أي مدى تظن نفسك خلوقاً ؟
حسناً ... تذكر أجوبتك ، سنحتاجها لاحقاً .
في وضح نهار التاسع عشر من إبريل عام 1995م دخل رجل يدعى آرثر ويلر إلى أحد البنوك وأشهر سلاحه في وجه المصرفيين ثم سطا على الأموال وهرب ، ولم يكن مقنعاً كالبروفيسور في مسلسل لكاسا دي بابيل ، بل كاشفاً وجهه.
( صورة المقال لآرثر أثناء السرقة )
ثم ذهب إلى بنك مجاور ، وسلب أمواله أيضاً ، وقبل خروجه من الباب لَوَّحَ بيده إلى كاميرات المراقبة بكل وقاحة .

انتشرت صورته في الأخبار وشاشات التلفاز ، وأصبح المطلوب الأول في المدينة ، وبعد سويعات قليلة عثرت الشرطة على منزله وألقت القبض عليه .

أثناء اعتقاله كان آرثر متعجباً مفزوعاً من وصول الشرطة وتعرفهم عليه . ( عفواً كابتن يعني سارق بنوك بدون قناع ... الي تبيهم يطقون بابك طلبات كنتاكي مثلاً 😜 )

أثناء التحقيق معه أخبر آرثر الشرطة أنه مصدوم لأنه وضع خطة محكمة جداً كي لا يتعرفوا عليه ... لقد دهن وجهه بعصير الليمون !! .

في الابتدائية تعلم آرثر أنه بإمكانه استخدام عصير الليمون كحبر سحري ، تكتب به على ورقة ولا يمكن رؤيته إلا إذا قمت بتسخينها ، وظن أنه بدهن وجهه بعصير الليمون سيكون مخفياً ولن تتمكن الشرطة من معرفته !! . ( لا والنبي يا شيخ !! 😕 )

ظنت الشرطة أن آرثر مخمور أو مجنون ، ولكن بعد الفحوصات النفسية تبين أنه لم يتعاطى المخدرات ولا يشكو من أي جنون ، هو مجرد شخص يرى نفسه ذكياً ويؤمن بأفكاره .

انتشرت قصته في الصحافة ، فأثارت اهتمام عالم النفس البروفيسور دافيد دانينغ David Dunning ، وتعجب إلى أي مدى قد ينخدع الإنسان بمستوى ذكائه ، وقرر أن يدرس هذه الحالة ويجري بعض التجارب .

قَـدَّمَ السيد دافيد اختباراً لبعض الطلاب الجامعيين في المنطق وقواعد اللغة الإنجليزية وحس الفكاهة ، وبعد الاختبار سألهم عن النتيجة التي يتوقعوها .

غالبية الطلبة رَجَّحوا أنهم سيحصدون على نتيجة تتراوح بين 60 إلى 80% ، إلا أن الحقيقة وبعد تصحيح الاختبارات تبين أن السواد الأعظم من الطلبة كانت درجاتهم تتراوح بين 10 إلى 40% .

أي أن غالبية الطلبة بالغوا في تقديرهم لذكائهم ومعرفتهم ، وظنوا أنهم يمتلكون الكثير من الظرافة التي افتقروا لها بالحقيقة .

وبعد أن أُعطي الطلبة المتوهمون نتيجتهم المستحقة سألهم السيد دافيد عن عدد الطلبة الذي يظنون أنهم قد حصدوا درجات أعلى منهم .

ليتوهم الطلبة أيضاً ويجيبوا أنهم لا شك أفضل من 50 إلى 60% من غيرهم !! .

الطلبة في التجربة - والبشر عموماً - يميلون إلى المبالغة في تقدير قدراتهم ومهاراتهم ، ويظنون أنهم أفضل مما هم عليه في الواقع ، وخاصة ذوي القدرات والكفاءات المنخفضة ، إذ أن هناك نقطة عمياء في إدراكهم تحجب عنهم رؤية حقيقة ذواتهم .

فدماغهم الذي قَصُرَ عن تطوير مهاراته قَصُرَ أيضاً عن معرفة ذاته ، أو كما يقول البروفيسور دافيد : " إذا كنت غير كفء لا يمكنك أن تعرف أنك غير كفء ، فالمهارات الدماغية التي تحتاجها للتفكير ورفع الكفاءة هي بالضبط ذاتها المهارات التي تحتاجها لتعرف أصلاً ما هي الكفاءة " .

أي كلما كان الإنسان أجهل كلما كانت ثقته في نفسه أكبر ، لأن جزءاً من جهله هو جهله بجهله في حد ذاته .

الملفت في دراسة السيد دافيد أن الطلبة الذين حصلوا على درجات أعلى من 80% كانوا يتوقعون بعد الاختبار أنهم سيحصلون على درجات تتراوح بين 50 إلى 60% ، أي أن المميزين حقاً كانوا يرون أنفسهم أقل مما هم عليه في الواقع.

بعد ذلك أجريت تجربة أخرى على الأساتذة في أرقى الجامعات ، وسألوهم هل ترى نفسك أنك من بين أفضل 25% من الأساتذة ؟

70% منهم قالوا أنهم حتماً من بين الأفضل !! ، وهذا توهم منهم بلا شك .... أي حتى النخبة المثقفة قد تقع في فخ "وهم التفوق" أيضاً ، فالذكي فعلاً قد يبالغ في مستوى ذكائه .

والسارق آرثر كان نموذجاً حاداً لهذا الوهم ، ظَنَّ أنه أذكى من غيره ، وأنه اكتشف السر الذي خفي عن الآخرين ، وباستطاعته سرقة البنوك دون أن تكتشفه الشرطة ، وإلقاء القبض عليه شَكَّلَ له صدمة هدمت ثقته الزائفة بنفسه .

لنعد الآن إلى أسئلة مطلع المقال ( شوف سيدي القارئ مبدئياً أنا آسف 😇)

من تلك الأسئلة الأربعة ... كم سؤالاً أجبت عنه بـ6 أو أكثر ؟ هل فعلاً تستحق هذا التقييم أم لديك "وهم التفوق" ؟

في دراسة لطيفة أحضر السيد دافيد 600 شخص من مختلف طبقات وطوائف المجتمع الأمريكي ، وشرح لهم انحرافات التفكير وأن البشر عادة ما يعانون من وهم التفوق ، وفسر لهم هذا الأمر وأطلعهم على الدراسات والتجارب .

كم شخص من هؤلاء تعتقد أنه اعترف بوقوعه في هذا الوهم ؟

85% من هؤلاء أكدوا جازمين أنهم حتماً لا يعانون من وهم التفوق ، و 15% قالوا أنهم ربما وقعوا فيهم وربما لا ، وواحد فقط من أصل 600 قال نعم أنا وقعت فيه .

واحد فقط فكر ملياً ليرى نفسه - بكل تواضع - على حقيقها ويعترف بأنه متوهم في قدراته ومميزاته وأنه دون المستوى الذي كان يراه عن نفسه . ( أنت اعترف وخلك الواحد مالي 😜 )

ارجع بذاكرتك ... كم نقاش واختلاف في الرأي قد خضت فيه وظننت أن الطرف الآخر أغبى منك ، وأن الحقيقة غابت عنه وظفرت أنت بها ؟

في دائرتك الوظيفية كم شخصاً شعرت أنك أجدر منه بالمديح والامتيازات التي حصل عليها لأنك أفضل منه وأكفأ ؟

أ لا تظن أنك قد تكون مخطئاً في نظرتك الدونية لهم ... وأنك متوهم بمستواك وقدراتك ؟

مهلاً ...أظن أن دماغك الآن بدأ يستحضر الذكريات التي كنت فيها مميزاً وأفضل من غيرك حقاً ، وقدمت بها أداءً يضاهي ما يقوم به الآخرون ... يريد أن يبرأ ساحتك . ( وعبالك راح أهده 😈 )

حسناً ... إليك هذه الدراسة .

في عام 2015م نشرت الجمعية الأمريكية لعلم النفس دراسة أجريت على 300,000 إنسان ، لتكشف أن الأشخاص الذين يستخدمون الإنترنت كوسيلة للبحث عن المعلومات ويستخدمون google ، كانوا يرون أنفسهم أفهم من الكثيرين وأعلم مما هم عليه بالواقع ، وأن ألاعيب المؤامرات التي تحاك بالظلام لن تنطلي عليهم ... لأن المعرفة ووسائلها بين أيديهم .

لك أن تتخيل أن مجرد تعيينك للسيد قوقل مستشاراً شخصياً يوقعك في وهم التفوق !! ، فلا تظن أنك في منجى عن ذلك .

صحيح أن دماغك يروي لك الذكريات التي تفوقت فيها ، ويذكرك بالكتب التي قرأتها والبرامج الوثائقية التي حضرتها وما أشبه ، ونعم قد تكون رائعاً مميزاً لكن دون ما تظنه عن نفسك ... فتواضع .

ورحم الله الفيلسوف ابن خلدون حين قال : العلم ثلاثة أشبار من تعلم الشبر الأول تكبر ، ومن تعلم الشبر الثاني تواضع ، ومن تعلم الشبر الثالث علم أنه لا يعلم .

ولعلك تتساءل سيدي القارئ لماذا تريد أدمغتنا أن تنظر للحياة بهذا الوهم .. لماذا لا ترى الواقع كما هو ؟

أحضر علماء الأعصاب أُناساً لا يشتكون من أمراض نفسية إلى مختبرهم ، وأخضعوهم لأشعة وظائف الدماغ FMRI ليروا المناطق الدماغية المسؤولة عن وهم التفوق ، فكانت منطقة الفص الجبهي الإنسي أبرز تلك المناطق ، وكلما زاد نشاط تلك المناطق زاد وهم صاحبها .

وبالمقابل تحاول منطقة القشرة المخية الجبهية في الدماغ أن تخلق توازناً وتقلل الوهم كي نرى الحياة بشيء من واقعها فنطور من أنفسنا ، وكلما زاد نشاط هذه المنطقة كلما كنا أكثر واقعية .

ولكن ما قد لا يخطر على بالك سيدي القارئ أن مرضى الاكتئاب هم من تنشط لديهم هذه المنطقة التي تقلل الوهم.

أي مرضى الاكتئاب المتشائمون عادة من الحياة هم من يرون الحقيقة بكل وضوح كما هي .

وأظنك فهمت الآن لماذا تريد أدمغتنا أن نحيى بهذا الوهم ، لأن الواقع ثقيل جداً على مشاعرنا ، وقد يدخلنا باكتئاب يثبط من عزيمتنا أو ينهي حياتنا ، لذا فالدماغ يفضل أن يعيش مخدوعاً مبتسماً ، على أن يحيى كئيباً ويرى الواقع كما هو .

وليس من المنطق أن أُطالبك سيدي القارئ أن تبتعد عن هذا الوهم في كل مواقف الحياة ، فعقلك غير مخول أصلاً لهذا .. لكن تواضع يرحمك الله .

إن اعتزازنا بأنفسنا وثقتنا المطلقة بها قد يأتي لها بالويلات ... تماماً كما حصل مع آرثر ، وبينما نقدنا لأنفسنا والتفكير بمستواها الحقيقي ومحاسبتها على تقصيرها وأخطائها ، مع تشجيعها على التطور يزيد من مهاراتها ويقودها للنجاح .

تذكر دائماً أن الأفضل لا يرون أنفسهم كذلك ، وحدهم الجهال يفعلون ... الأفضل ينتقدون أنفسهم ويطالبونها بالمزيد .

أضف لذلك أننا ككائنات اجتماعية نتوهم أحياناً أننا محبوبون ، وأن الشرذمة التي تسيء معاملتنا أو تكرهنا تفعل ذلك لأنها تحسدنا نظراً لأفضليتنا فكل شجرة مثمرة محاربة ، فنركض إلى برامج التواصل الاجتماعي ونكتب فيها عبارات تلميح كـ"القافلة تسير والكلاب تنبح" .

بينما الواقع ليس هناك كلاب ولا قطط ولا قافلة .. هناك عبيط يسيء التعامل مع الآخرين فكرهوه وحاربوه ، وتوهمه جعله يزداد طغياناً وكفراً ومنعه من محاسبة النفس وتطويرها وتحسين علاقته بالآخرين .

ورحم الله الإمام علي ابن أبي طالب حين قال : إياك أن ترضى عن نفسك فيكثر الساخط عليك .

إذن سيدي القارئ أرجو أن تكون "واحدي" الذي سيعترف بأن دماغه يزيف له الواقع ، وأرجو أن يجعلك ذلك ممن يحاسب نفس ويتفكر في نواقصها وعيوبها ، ويسعى إلى تطويرها ، فالدماغ يريد بكسله أن يوهمك بأنك جيد فلا ترهق نفسك بالتطوير ، وروحك تقاوم كسله ... وآمل أن تنتصر روحك .
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٤ مايو ٢٠٢٤
ليست الطيور على أشكالها تقع دوماً، ستوقعك الحياة على طيورٍ لست تَعرِفها وأشكالٍ لا تـتقبلها، وترى نفسك رغم ذلك مجبوراً عليها... وها أنا رأيتني أخوض في حوار مع جارتني في الطائرة، امرأة بريطانية، رغم أنني لست ذلك الشخص الذي يهوى الانغماس في حوارات مع الغرباء، لكن ما أحبه شيء وما ستفرضه الحياة شيء آخر. بينما أنا غارق في تركيزي أقرأ كتاباً سألتني: "لماذا على غلافه صور للدماغ؟"، أجبتها: "لأنه يشرح طريقة تفكير الإنسان ولماذا يتعصب لأفكاره"، وليتني لم أقل ذلك.... شرعت تُحدثني عن جاراتها المتحيزات لأفكارهن، وبدأت تبث شكواها منهن وكأنه مكتوب على جبهتي "تفضل واشتك إليه الحياة". حاولت بلطف أن أنهي الحوار، ونصحتها بالنسخة الإنجليزية من الكتاب، ففيه كيفية التعامل معهن... إلا أنها واصلت الثرثرة واستمرت في النميمة، تـتحدث وتحاول أن تضع تفاصيلاً تظنها مثيرة للمستمع، بينما قلبي متملل تكاد تسمع شتائمه من خلف أضلاعه لولا باقية أدب حياء. وبعد أن مَـنَّ الله عليَّ بسكوتها... تسلل إلى ذهني سؤال "لماذا يثرثر الناس عن الناس ويمارسون النميمة؟!"، وهذا ما أود أن أحدثك عنه سيدي القارئ. في بادئ الأمر عليك أن تعرف أن النميمة تصرف بشري اجتماعي متأصل فينا. لو سألت أي إنسان عن النميمة (الحش)، فهو غالباً ما سيذمها ويعتبرها فعل سيء، لكن الجميع تقريباً يفعل ذلك، ففي دراسة للدكتورة آنا ماريوت Anna Marriott لاحظت ودرست فيها السلوك البشري، وجدت أن البشر يميلون بشدة للنميمة، فوفقاً للدراسة كان الذكور يقضون -في المتوسط- 55% من وقت حديثهم في النميمة، بينما النساء 67% -في المتوسط-. وفي بحث مميزة للدكتورة الرائعة Xiaozhe Peng نُشر عام 2015م، درست فيه من خلال أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ (FMRI) أدمغة المتطوعين أثناء خوضهم في النميمة سواء بأصدقائهم أو بالمشاهير أو بالناس عموماً، وقد أظهرت الأشعة نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي من أدمغتهم، وهي ذات المنطقة التي تمنحنا القدرة على ممارسة السلوكيات الاجتماعية المعقدة والاندماج مع المجموعة. أي أن الدماغ يرى النميمة فعل يُقربك ممن حولك ويدمجك مع المجتمع، وعلقت الدكتورة Xiaozhe على هذه النقطة قائلة "إن النميمة مرتبطة برغبتنا في أن ينظر الآخرون إلينا بشكل جيد ويتقبلوننا فنتأقلم اجتماعياً، بصرف النظر عما إذا كان هذا سيتحقق فعلاً ويعكس ما نشعر به أو ينقلب السحر على الساحر وينظروا لنا بسوء". ولو استرجعت ذاكرتك سيدي القارئ في آخر حواراتك الشيّقة مع أصدقائك، لا شك أنك ستـتذكر أن من أمتع أجزاء حديثكم هو ذلك الجزء الذي تحدثتم فيه عن الآخرين... أليس كذلك يا حمامة السلام؟ 😁 والصدمة ليس فيما فات من البحث... مهلاً، كشفت أشعة الدماغ أن النواة المتكئة وبقية نظام المكافأة في الدماغ ينشط ويستجاب للنميمة -وبالأخص التي نتحدث فيها حول المشاهير-، بل كان نظام المكافأة في الدماغ ينشط أثناء النميمة أكثر مما ينشط في حال الاستماع لحديث الناس عنك بالخير. وإن كنت لا تعرف نظام المكافأة هذا... فهو ذات النظام الذي ينشط عند ممارستك الجنس أو أكلك لطعام لذيذ بعد جوع أو كسبك مبلغ من المال، وهنا الصدمة... هكذا يستلذ دماغك بالنميمة. ولكن صبراً... حتى وإن كانت النميمة متأصلة فينا فهذا لا يعني من قريب أو بعيد أنها تدل على الاستقرار النفسي أو أنها شيء طبيعي. أثبتت العديد من البحوث أن الأشخاص الذي يقضون جزءاً من محادثاتهم اليومية في النميمة -وبالأخص السلبية منها- يعانون بالفعل من تدني احترام الذات.... فليس هناك أتعس من أن يشغل المرء وقته ببؤس الآخرين. في دراسة لدكتورة علم النفس جيني كولي Jenny Cole طلبت من 140 مشاركاً كتابة وصف إيجابي أو سلبي حول شخصية عامة عرضتها عليهم، ثم قامت باختبارٍ وجلسةٍ نفسية لقياس مدى احترامهم لذواتهم، ورأت أن الأشخاص الذي كتبوا وصفاً سلبياً كانوا يعانون من احتقار للذات. وفي ذات الدراسة طلبت من 112 آخرين أن يكتبوا وصفاً عن شخص ما يعرفونه تماماً، ثم اختبرتهم نفسياً أيضاً، ورأت الدكتورة جيني أن الأشخاص الذي كتبوا نميمةً سلبية في أقاربهم أو أصدقائهم المقربون يعانون بشدة ملحوظة من تدني احترام الذات.... وهذا لا يدع مجالاً للشك بأن الخوض في النميمة مرتبط تماماً بتدني احترامنا لأنفسنا. أضف لذلك أن خوضك في النميمة -التي ستلتذ بها- قد يكون أحياناً محاولة لهروبك من نقاشات جدية عليك طرحها لحل مشاكلك العالقة. في دراسة لجامعة Northwestern University درس القائمون عليها أكثر من 100 من الأزواج، وخلصت الدراسة أن الأزواج الذين يميلون للتحدث عن الأزواج الآخرين وكيف يديرون حياتهم غالباً ما تكون حياتهم الزوجية سيئة تـتخلـلها العديد من الخلافات، وتكون هذه الحوارات طريقة لتجنب حوارات ستنتهي بالعصبية والقيل والقال والفشل في معالجة مشاكلهم الفعلية واختلاف وجهات نظرهم. وكما تقول السياسية الأمريكية البارزة إليانور روزفلت: "العقول العظيمة تُناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث، والحمقى يتكلمون عن الأشخاص". ولكن ليس التحدث عن الآخرين سيء بشكل مطلق، فأحياناً تنبيه المجتمع من سوء أحدهم هو إصلاح وخير للمجتمع، كتوعية الناس من عمليات نصب مالي يقوم بها أحدهم مثلاً. بل قد تكون النميمة في أحدهم وسيلة لتوعيته ومحاولة لهدايته بعد أن يتم اقصاءه مجتمعياً ويرى كراهية الناس له نظراً لسلوكه المشين، ففي دراسة للبروفيسور ماثيو فاينبرغ Matthew Feinberg أحضر مجموعة من المشاركين للمختبر للقيام بلعبة ما، وتم تقسيم المشاركين لمجموعات، وفي اللعبة كان لدى كل واحد من أعضاء المجموعة مبلغ من المال، وإما يحتفظ به لنفسه أو يتبرع بجزء منه أو كله لصندوق المجموعة، التي إن خسرت اللعبة سيتبخر المال، وإن كسبت اللعبة سيتضاعـف المبلغ ثم يتم تقسيمه مرة أخرى بالتساوي على أعضاء المجموعة، ويستطيع كل فرد من المجموعة معرفة المبلغ الذي تبرع به الآخرون، ويستطيعون في كل مرة يلعبون بها القيام بتصويت وطرد فرد من المجموعة. كانت النميمة التي يقوم بها أفراد المجموعة قبل كل لعبة مفيدة إذ أنها وضحت للآخرين من هو الأناني وبالتالي نبذوه وصوتوا لطرده، ثم زاد التعاون والتضحية فيما بينهم وبالتالي كسبوا المزيد من المال. أضف لذلك أن الأنانيون الذي تم طردهم والحاقهم بمجموعة أخرى تغير سلوكهم وأصبحوا أكثر تعاوناً وتضحية للمجموعة الجديدة. وأرجو ألا يستغل الإنسان النمام هذه الدراسة عذراً لنميمته ويخرج بهيئة المصلح، فالله جل علاه يطلع على شخصيته ونيته الحقيقية لا التي ينظر لها الناس. وفي الإسلام عشرات الأحاديث التي تقدح في النمام وتـتوعده بالعقاب، فعن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله وعن الناس". ويقول عليه السلام في موضع آخر: "محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة". لذا قبل أن يخوض أحدهم في حديث سلبي عن الآخرين عليه أن يسأل نفسه بإنصاف وصدق/ هل ستساعد هذه النميمة الآخرين حقاً وتوعيهم ونيتي فيها الخير؟ هل أقوم بهذا الحديث بدافع الحقد أو الحسد أو العداء أو تسلية المستمعين ببؤس الآخرين؟ هل لا أملك خياراً آخر سوى النميمة؟ وهل هي ضرورية الآن؟ كيف سأشعر لو شارك أحدهم هذه المعلومات والحوارات عني أنا؟ والأجوبة ستدعوك لإكمال الثرثرة من عدمها، فـفن عدم النميمة الدال على احترام الذات هو الذكاء في معرفة متى يجب أن تشارك هذا الحوار ومع من ولماذا؟ والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وليس هناك أروع من أن يترك الإنسان النميمة ويتحدث عن الأفكار.... مهلاً... كأني ابتدأت المقال بنميمة عن جارتي في الطائرة.... من الواضح أني لست حمامة سلام 😜، حسناً نيتي خيرة وأنتم لا تعلمون من هي. 😁
بقية المقالات
Share by: