سيدي القارئ .. لنقم بتجربة ، أرجو منك متفضلاً أن تجاوب على هذه الأسئلة ، ولتكن الأجوبة من 1 إلى 10 .
إلى أي مدى تُقيم نفسك ذكياً ؟
إلى أي مدى تعتبر نفسك ظريفاً مضحكاً ؟
إلى أي مدى ترى نفسك محبوباً لدى الآخرين ؟
إلى أي مدى تظن نفسك خلوقاً ؟
حسناً ... تذكر أجوبتك ، سنحتاجها لاحقاً .
في وضح نهار التاسع عشر من إبريل عام 1995م دخل رجل يدعى آرثر ويلر إلى أحد البنوك وأشهر سلاحه في وجه المصرفيين ثم سطا على الأموال وهرب ، ولم يكن مقنعاً كالبروفيسور في مسلسل لكاسا دي بابيل ، بل كاشفاً وجهه.
( صورة المقال لآرثر أثناء السرقة )
ثم ذهب إلى بنك مجاور ، وسلب أمواله أيضاً ، وقبل خروجه من الباب لَوَّحَ بيده إلى كاميرات المراقبة بكل وقاحة .
انتشرت صورته في الأخبار وشاشات التلفاز ، وأصبح المطلوب الأول في المدينة ، وبعد سويعات قليلة عثرت الشرطة على منزله وألقت القبض عليه .
أثناء اعتقاله كان آرثر متعجباً مفزوعاً من وصول الشرطة وتعرفهم عليه . ( عفواً كابتن يعني سارق بنوك بدون قناع ... الي تبيهم يطقون بابك طلبات كنتاكي مثلاً 😜 )
أثناء التحقيق معه أخبر آرثر الشرطة أنه مصدوم لأنه وضع خطة محكمة جداً كي لا يتعرفوا عليه ... لقد دهن وجهه بعصير الليمون !! .
في الابتدائية تعلم آرثر أنه بإمكانه استخدام عصير الليمون كحبر سحري ، تكتب به على ورقة ولا يمكن رؤيته إلا إذا قمت بتسخينها ، وظن أنه بدهن وجهه بعصير الليمون سيكون مخفياً ولن تتمكن الشرطة من معرفته !! . ( لا والنبي يا شيخ !! 😕 )
ظنت الشرطة أن آرثر مخمور أو مجنون ، ولكن بعد الفحوصات النفسية تبين أنه لم يتعاطى المخدرات ولا يشكو من أي جنون ، هو مجرد شخص يرى نفسه ذكياً ويؤمن بأفكاره .
انتشرت قصته في الصحافة ، فأثارت اهتمام عالم النفس البروفيسور دافيد دانينغ David Dunning ، وتعجب إلى أي مدى قد ينخدع الإنسان بمستوى ذكائه ، وقرر أن يدرس هذه الحالة ويجري بعض التجارب .
قَـدَّمَ السيد دافيد اختباراً لبعض الطلاب الجامعيين في المنطق وقواعد اللغة الإنجليزية وحس الفكاهة ، وبعد الاختبار سألهم عن النتيجة التي يتوقعوها .
غالبية الطلبة رَجَّحوا أنهم سيحصدون على نتيجة تتراوح بين 60 إلى 80% ، إلا أن الحقيقة وبعد تصحيح الاختبارات تبين أن السواد الأعظم من الطلبة كانت درجاتهم تتراوح بين 10 إلى 40% .
أي أن غالبية الطلبة بالغوا في تقديرهم لذكائهم ومعرفتهم ، وظنوا أنهم يمتلكون الكثير من الظرافة التي افتقروا لها بالحقيقة .
وبعد أن أُعطي الطلبة المتوهمون نتيجتهم المستحقة سألهم السيد دافيد عن عدد الطلبة الذي يظنون أنهم قد حصدوا درجات أعلى منهم .
ليتوهم الطلبة أيضاً ويجيبوا أنهم لا شك أفضل من 50 إلى 60% من غيرهم !! .
الطلبة في التجربة - والبشر عموماً - يميلون إلى المبالغة في تقدير قدراتهم ومهاراتهم ، ويظنون أنهم أفضل مما هم عليه في الواقع ، وخاصة ذوي القدرات والكفاءات المنخفضة ، إذ أن هناك نقطة عمياء في إدراكهم تحجب عنهم رؤية حقيقة ذواتهم .
فدماغهم الذي قَصُرَ عن تطوير مهاراته قَصُرَ أيضاً عن معرفة ذاته ، أو كما يقول البروفيسور دافيد : " إذا كنت غير كفء لا يمكنك أن تعرف أنك غير كفء ، فالمهارات الدماغية التي تحتاجها للتفكير ورفع الكفاءة هي بالضبط ذاتها المهارات التي تحتاجها لتعرف أصلاً ما هي الكفاءة " .
أي كلما كان الإنسان أجهل كلما كانت ثقته في نفسه أكبر ، لأن جزءاً من جهله هو جهله بجهله في حد ذاته .
الملفت في دراسة السيد دافيد أن الطلبة الذين حصلوا على درجات أعلى من 80% كانوا يتوقعون بعد الاختبار أنهم سيحصلون على درجات تتراوح بين 50 إلى 60% ، أي أن المميزين حقاً كانوا يرون أنفسهم أقل مما هم عليه في الواقع.
بعد ذلك أجريت تجربة أخرى على الأساتذة في أرقى الجامعات ، وسألوهم هل ترى نفسك أنك من بين أفضل 25% من الأساتذة ؟
70% منهم قالوا أنهم حتماً من بين الأفضل !! ، وهذا توهم منهم بلا شك .... أي حتى النخبة المثقفة قد تقع في فخ "وهم التفوق" أيضاً ، فالذكي فعلاً قد يبالغ في مستوى ذكائه .
والسارق آرثر كان نموذجاً حاداً لهذا الوهم ، ظَنَّ أنه أذكى من غيره ، وأنه اكتشف السر الذي خفي عن الآخرين ، وباستطاعته سرقة البنوك دون أن تكتشفه الشرطة ، وإلقاء القبض عليه شَكَّلَ له صدمة هدمت ثقته الزائفة بنفسه .
لنعد الآن إلى أسئلة مطلع المقال ( شوف سيدي القارئ مبدئياً أنا آسف 😇)
من تلك الأسئلة الأربعة ... كم سؤالاً أجبت عنه بـ6 أو أكثر ؟ هل فعلاً تستحق هذا التقييم أم لديك "وهم التفوق" ؟
في دراسة لطيفة أحضر السيد دافيد 600 شخص من مختلف طبقات وطوائف المجتمع الأمريكي ، وشرح لهم انحرافات التفكير وأن البشر عادة ما يعانون من وهم التفوق ، وفسر لهم هذا الأمر وأطلعهم على الدراسات والتجارب .
كم شخص من هؤلاء تعتقد أنه اعترف بوقوعه في هذا الوهم ؟
85% من هؤلاء أكدوا جازمين أنهم حتماً لا يعانون من وهم التفوق ، و 15% قالوا أنهم ربما وقعوا فيهم وربما لا ، وواحد فقط من أصل 600 قال نعم أنا وقعت فيه .
واحد فقط فكر ملياً ليرى نفسه - بكل تواضع - على حقيقها ويعترف بأنه متوهم في قدراته ومميزاته وأنه دون المستوى الذي كان يراه عن نفسه . ( أنت اعترف وخلك الواحد مالي 😜 )
ارجع بذاكرتك ... كم نقاش واختلاف في الرأي قد خضت فيه وظننت أن الطرف الآخر أغبى منك ، وأن الحقيقة غابت عنه وظفرت أنت بها ؟
في دائرتك الوظيفية كم شخصاً شعرت أنك أجدر منه بالمديح والامتيازات التي حصل عليها لأنك أفضل منه وأكفأ ؟
أ لا تظن أنك قد تكون مخطئاً في نظرتك الدونية لهم ... وأنك متوهم بمستواك وقدراتك ؟
مهلاً ...أظن أن دماغك الآن بدأ يستحضر الذكريات التي كنت فيها مميزاً وأفضل من غيرك حقاً ، وقدمت بها أداءً يضاهي ما يقوم به الآخرون ... يريد أن يبرأ ساحتك . ( وعبالك راح أهده 😈 )
حسناً ... إليك هذه الدراسة .
في عام 2015م نشرت الجمعية الأمريكية لعلم النفس دراسة أجريت على 300,000 إنسان ، لتكشف أن الأشخاص الذين يستخدمون الإنترنت كوسيلة للبحث عن المعلومات ويستخدمون google ، كانوا يرون أنفسهم أفهم من الكثيرين وأعلم مما هم عليه بالواقع ، وأن ألاعيب المؤامرات التي تحاك بالظلام لن تنطلي عليهم ... لأن المعرفة ووسائلها بين أيديهم .
لك أن تتخيل أن مجرد تعيينك للسيد قوقل مستشاراً شخصياً يوقعك في وهم التفوق !! ، فلا تظن أنك في منجى عن ذلك .
صحيح أن دماغك يروي لك الذكريات التي تفوقت فيها ، ويذكرك بالكتب التي قرأتها والبرامج الوثائقية التي حضرتها وما أشبه ، ونعم قد تكون رائعاً مميزاً لكن دون ما تظنه عن نفسك ... فتواضع .
ورحم الله الفيلسوف ابن خلدون حين قال : العلم ثلاثة أشبار من تعلم الشبر الأول تكبر ، ومن تعلم الشبر الثاني تواضع ، ومن تعلم الشبر الثالث علم أنه لا يعلم .
ولعلك تتساءل سيدي القارئ لماذا تريد أدمغتنا أن تنظر للحياة بهذا الوهم .. لماذا لا ترى الواقع كما هو ؟
أحضر علماء الأعصاب أُناساً لا يشتكون من أمراض نفسية إلى مختبرهم ، وأخضعوهم لأشعة وظائف الدماغ FMRI ليروا المناطق الدماغية المسؤولة عن وهم التفوق ، فكانت منطقة الفص الجبهي الإنسي أبرز تلك المناطق ، وكلما زاد نشاط تلك المناطق زاد وهم صاحبها .
وبالمقابل تحاول منطقة القشرة المخية الجبهية في الدماغ أن تخلق توازناً وتقلل الوهم كي نرى الحياة بشيء من واقعها فنطور من أنفسنا ، وكلما زاد نشاط هذه المنطقة كلما كنا أكثر واقعية .
ولكن ما قد لا يخطر على بالك سيدي القارئ أن مرضى الاكتئاب هم من تنشط لديهم هذه المنطقة التي تقلل الوهم.
أي مرضى الاكتئاب المتشائمون عادة من الحياة هم من يرون الحقيقة بكل وضوح كما هي .
وأظنك فهمت الآن لماذا تريد أدمغتنا أن نحيى بهذا الوهم ، لأن الواقع ثقيل جداً على مشاعرنا ، وقد يدخلنا باكتئاب يثبط من عزيمتنا أو ينهي حياتنا ، لذا فالدماغ يفضل أن يعيش مخدوعاً مبتسماً ، على أن يحيى كئيباً ويرى الواقع كما هو .
وليس من المنطق أن أُطالبك سيدي القارئ أن تبتعد عن هذا الوهم في كل مواقف الحياة ، فعقلك غير مخول أصلاً لهذا .. لكن تواضع يرحمك الله .
إن اعتزازنا بأنفسنا وثقتنا المطلقة بها قد يأتي لها بالويلات ... تماماً كما حصل مع آرثر ، وبينما نقدنا لأنفسنا والتفكير بمستواها الحقيقي ومحاسبتها على تقصيرها وأخطائها ، مع تشجيعها على التطور يزيد من مهاراتها ويقودها للنجاح .
تذكر دائماً أن الأفضل لا يرون أنفسهم كذلك ، وحدهم الجهال يفعلون ... الأفضل ينتقدون أنفسهم ويطالبونها بالمزيد .
أضف لذلك أننا ككائنات اجتماعية نتوهم أحياناً أننا محبوبون ، وأن الشرذمة التي تسيء معاملتنا أو تكرهنا تفعل ذلك لأنها تحسدنا نظراً لأفضليتنا فكل شجرة مثمرة محاربة ، فنركض إلى برامج التواصل الاجتماعي ونكتب فيها عبارات تلميح كـ"القافلة تسير والكلاب تنبح" .
بينما الواقع ليس هناك كلاب ولا قطط ولا قافلة .. هناك عبيط يسيء التعامل مع الآخرين فكرهوه وحاربوه ، وتوهمه جعله يزداد طغياناً وكفراً ومنعه من محاسبة النفس وتطويرها وتحسين علاقته بالآخرين .
ورحم الله الإمام علي ابن أبي طالب حين قال : إياك أن ترضى عن نفسك فيكثر الساخط عليك .
إذن سيدي القارئ أرجو أن تكون "واحدي" الذي سيعترف بأن دماغه يزيف له الواقع ، وأرجو أن يجعلك ذلك ممن يحاسب نفس ويتفكر في نواقصها وعيوبها ، ويسعى إلى تطويرها ، فالدماغ يريد بكسله أن يوهمك بأنك جيد فلا ترهق نفسك بالتطوير ، وروحك تقاوم كسله ... وآمل أن تنتصر روحك .