مرحباً بك بـيـن حكاياتي
نحن في ورطة حقيقية... قلبك أم عقلك يجب أن يتخذ القرار؟
قد لا أُقدم لك حلاً في هذا المقال، لكنني لن أسرق وقتك دون جدوى... سأشرح لك كيف تُدار الأمور في دماغك، وأنت من عليه أن يخترع الحل.
هل سمعت بإمبراطورية "خوارزم" من قبل؟ غالباً لا.... والسبب لأنها مُحيت من الوجود.
كانت من أهم إمبراطوريات العصور الوسطى أروعها بنياناً وأكثرها ثراءً وتقدماً في العلوم، ومركزاً للثقافة الإسلامية، تمتد من الهند جنوباً إلى أطراف روسيا والبحر الأسود، وإلى الخليج العربي غرباً، ضامة كل دول آسيا الوسطى.
في عام 1217م تلقى إمبراطور خوارزم الشاه علاء الدين رسالة من جاره حاكم إمبراطورية المغول جنكيز خان مكتوب فيها "أنا سيد أرض مشرق الشمس، بينما تحكم أنت تلك الأراضي التي تغرب فيها الشمس، دعنا نبرم معاهدة من الصداقة والسلام".
كان جنكيز خان قد وَحَّـد شمال الصين وكل الدويلات المحيطة بإمبراطوريته، مقاتل شرس لا يُستهان بقوته، خاض حروباً دموية لبناء إمبراطوريته، وقد كان عند كتابة هذه الرسالة قد بلغ الستين من العمر، وكبر على القتال ويريد قضاء آخر سنوات حياته في الراحة والاستجمام بعد ذلك العمر الطويل على صهوات الجياد، محاولاً تنمية تجارة إمبراطوريته وكسب مودة جيرانه.
بعث جنكيز عدة مراسيل إلى علاء الدين، محملة بالهدايا، وقد أرسل ذات مرة كتلة ذهبية ضخمة جداً، ومعها رسالة مكتوب فيها: "لدي رغبة كبيرة في العيش في سلام معك، يجب أن أراك وجهاً لوجه يا بني".
لم يستلطف علاء الدين رسائل جاره، وشعر وكأنه يستصغره بنعته بني وحاكم أرض المغرب، لذا كان علاء الدين كارهاً لشخص جنكيز غير آبه بالقيام بالتجارة معه رغم ما ستحققه من الانتعاش الاقتصادي والثروة لكِلا الطرفين، وهذا ما كان يفكر به جنكيز بكل منطقية.
أرسل جنكيز مبعوثـه الشخصي، إلى خوارزم مع قافلة ضخمة جداً تضم 450 تاجراً مسلماً من اليغور و500 جمل يجرون عربات محملة بأروع البضائع والمعادن الثمينة.
وصلت القافلة إلى إحدى مدن خوارزم، فاستبشر تجارها الذين سيتمكنون أخيراً من اقتحام السوق الصيني وتبادل التجارة مع المغول، إلا أن حاكم تلك المدينة أمر جيوشه بقتل كل من في القافلة، وسرق كل ما فيها، متحججاً أنه اشتبه بهم أنهم جواسيس.
صدم خبر مقتلهم العالم فكيف تقتل جيوش مسلمة تجاراً مسلمين لم يرتكبون ذنباً!!!
جنكيز رغم امتعاضه الشديد مما حصل قرر إعطاء علاء الدين فرصة ثانية، فأرسل ثلاثة مبعوثين، أحدهم مسلم واثنان من المغول، وطلبوا من علاء الدين أن يضع لدم المسلم حرمة وللتجارة احتراماً، فيُعاقب الجناة ويرجع السلع إلى أصحابها، ويدفع دية قتل المسلم للمسلم، كي يحل السلام.
هل اتخذ علاء الدين قراراً منطقياً لحقن الدماء وإنماء التجارة؟ كلا... غالبته مشاعر الغرور والخيلاء فقتل المبعوث المسلم، وحرق لحية المغوليين وأعادهما إلى جنكيز خان مذللين مشوهين.
فما كان من جنكيز إلا أن أرسل رسالة أخيرة إلى علاء الدين مكتوب فيها: "استعد للحرب أنا قادم".
ولعلك تعرف الآن بقية التاريخ....
لقد أعمى الحقد قلب جنكيز ومحى تلك الإمبراطورية من الوجود، فأباد أي مدينة تقف في وجهه ولا تريد الاستسلام، حارقاً بيوتها قاتلاً كل من يتنفس فيها حتى الكلاب والقطط، لكنه ترك المساجد دون أي يلمسها احتراماً لدماء اليغور الذين قُتلوا في بادئ الأمر، والذين قاتلوا في صفوف جيشه أيضاً.
مات جنكيز خان... لكن أكمل أبناؤه وأحفاده سلسلة القتل وتخريب البلدان وعاثوا في صفحات التاريخ فساداً وصبغوها بالدماء، إلى أن ضعفت إمبراطوريتهم وتلاشت.
لماذا كل هذا؟ لأن هناك أحمق يُدعى علاء الدين عوضاً أن يتبع عقله والمنطق السليم في معاهدة الصداقة والتجارة راح يتبع مشاعره وغروره، والذي خَلف في قلب جنكيز مشاعر مقيتة أخرى أعمته عن أي صوت للعقل وأصبح وحشاً لا يمكن احتواءه.
وأنت سيدي القارئ... هل تتبع قلبك أم عقلك في غالبية قراراتك؟
في الحقيقة -ومن ناحية علمية- القرارات العاطفية تُدار في الدماغ في الفص الجبهي لا القلب، بينما القرارات العقلانية في اللوزة الدماغية وبقية مناطق صنع القرار في الدماغ، ولا يوجد في الدماغ زِرَين (عاطفة – منطق) يمكن لنا ضغط أحدهما عندما نفكر في اتخاذ القرار... الدماغ لا يجري وفق هذه الطريقة.
غالبية البشر عندما يكونون في منطقة الهدوء وبعيداً عن الأزمات والهيجان العاطفي تكون قراراتهم مَـيّـالةً للمنطق تجري وفق المبادئ العليا والأخلاقيات، وما إن يتعرضون لاستثارة عاطفية حتى يتبدل الأمر غير الذي كان، وينجرفون نحو القرارات العاطفية إلا من رحم ربي وقاوم مشاعره واتبع المنطق.
في دراسة أجراها عالم الاقتصاد السلوكي الرائع دان آريلي Dan Ariely أحضر لمختبره مجموعة من الطلاب الأذكياء المميزين في الجامعة، فيوضع الطالب في غرفة لوحده ثم يتم سؤاله بعض الأسئلة -من خلال شاشة كمبيوتر- حول القرارات التي سيتخذها عندما تُعرض عليه إمكانية الدخول في علاقة عاطفية قد لا تحتوي على مقدار من الأمان، بل لربما تسبب له مشاكل اجتماعية أو حتى صحية كبعض الأمراض.
جميع الطلبة أجابوا بمنطق ورجحوا عدم خوضهم في تلك العلاقات إلى حد ما.
بعد أسبوع يُؤتى بذات الطلبة إلى المختبر مرة أخرى، ويُسأل بذات الكيفية أسئلة تشبه إلى حد كبير أسئلة المرة الأولى، ولكن هذه المرة قبل الأسئلة يتم إثارته عاطفياً وتهييج شعور الشهوة لديه من خلال بعض المحتويات التي تُعرض له في الغرفة.
في خضم النشوة تغيرت أجوبة الطلبة بشكل مدهش، أصبح لديهم رغبة في الانخراط في مجموعة من الأنشطة المنحرفة وخوض تلك العلاقات، وتبدلت أجوبتهم بمقدار 72% نحو الأسوأ.
لم يعودوا أولئك المنطقيون... لقد طاشت أدمغتهم بفعل تلك المشاعر المتهيجة، وهذا هو حال غالبية البشر، وسواء كانت المشاعر نبيلة أو مبتذلة حتماً ستُـغير من قراراتنا بشكل لا يُصدق، فحين نظن أننا سنختار العقل والمنطق دوماً ستأتي لحظات ونضعف أمام عاطفتنا فنختار ما تُمليه علينا، أول لعل عاطفتنا تُؤثر على قراراتنا المنطقية دون أن نشعر.
وإليك هذه الدراسة التي قمت بها في الكويت عند مساعدتي لأحد طلبة علم النفس في كتابة رسالته للماجستير.
في أحد المجمعات التجارية استوقفنا 50 شخصاً توالياً للمشاركة في الدراسة، في بادئ الأمور نقوم بسؤالهم خمس أسئلة حول المنتج الوطني، ويمكنهم الجواب من 1 إلى 10، هل هم راضون عن جودة تلك المنتجات وسعرها، وهل سيقررون يومياً الاكتفاء بالمنتج الوطني، وهم على استعداد لشرائها عوضاً عن المنتج الأجنبي لو فُرضت عليها المزيد من الضرائب وبالتالي يرتفع سعرها، بعد إجابتهم على تلك الأسئلة، نخوض معهم بعض الأحاديث الجانبية -أقل من خمسة دقائق- حول الغزو العراقي الغاشم وكيف قاومهم بعض أبناء هذا الوطن بكل شجاعة وقدموا الشهداء، وكيف أننا ككويتيون نعشق تراب هذا الوطن الذي يجمعنا.... وكنا نحاول بذلك إثارة روح الوطنية والأخوة فيهم.
بعد ذلك نسألهم خمس أسئلة أخرى شبيهة إلى حد كبير بالأسئلة الأولى مع تغيير بعض مفرداتها وصيغة السؤال، وأظنك رجحت أن جوبتهم قد تغيرت فعلاً.... وأنت محق.
قبل الحديث الجانبي كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 4.5، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 3.8، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 3.5.
أما بعد الحوار الجانبي.... إليك هذه الصدمة، كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 7.6، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 8.2، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 6.1.
كل هذا التغيير في ظرف خمس دقائق من الوطنية!!!!!
حسناً.... إليك الصراحة، أنا شرير بعض الشيء، ولم أتوقف بالتجربة عند هذا الحد، لقد عدتها مرة أخرى مع 50 شخص آخرين، وسألتهم ذات الأسئلة ولكن هذه المرة كان حديثي الجانبي يدور حول خبث بعض التجار في الكويت وجشعهم والمبالغة بالأسعار، وكيف أفسد التجار السياسة ومجلس الأمة وكيف يختلسون الأموال ويستخدمون "الواسطة" للظفر بالمناقصات دون وجه حق... وكنت بذلك أريد إثارة الضغينة والشحناء وبعض العداوة.
في الأسئلة الخمسة الأولى كانت متوسط الإجابة شبيه جداً بالمرة الأولى (4.5/ 3.9/ 3.4)، ولكن بعد هذا الحديث الجانبي وإعادة الأسئلة لك أن تتخيل الأجوبة..... كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 2.1، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 0.9، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 0.2.
مضحك كيف تتلاعب بالإنسان مشاعره وكيف بحديث عاطفي جانبي ممكن أن تُـغير من قراراته وقناعاته دون وعي منه بذلك.
وللأسف لم يفكر أحد من هؤلاء المئة شخص بعجلة الاقتصاد والتنمية وكيف أن تشجيع المنتج الوطني سينصب لاحقاً في مصلحة المشتري... وهذا ما يقوله علم الاقتصاد.
ولنفرض الآن سيدي القارئ أنك قررت أن تكون كل قراراتك القادمة مبنية على العلم والمنطق وبعيدة كل البعد عن العواطف الجياشة والمشاعر المتأججة، هل حقاً ستلتزم بها؟
على الأرجح الجواب هو "لا" فأدمغتنا ليست بهذا المقدار من الانضباط.
غالباً نحن البشر -وللأسف- عندما نقوم باتخاذ قرارات عاطفية نتمسك بها بشدة ونسعى جاهدين للحفاظ عليها والقيام بها وندافع عنها بشراسة، بينما لو اتخذنا قرارات عقلانية منطقية فإننا سنكون أقل التزاماً بها، ولا ندافع عنها بذات الشراسة التي تكون مع القرارات العاطفية، وقد لا نكملها على أحسن وجه، هذا إن أكملناها أصلاً.
أقاما الدكتورين سام ماجليو – تالي رايش Sam Maglio – Taly Reich مجموعة من الدراسات والتجارب لملاحظة الناس بعد اتخاذهم للقرار، وفي إحدى التجارب طلبا من بعض المشاركين اختيار واحدة من ثلاث كاميرات رقمية بناءً على التحليل العقلاني لمجموعة من الخصائص التقنية والمميزات، وطُلب من البعض الآخر استخدام عواطفهم وشعورهم البديهي للاختيار دون إرهاق أدمغتهم بالتفكير.
في اليوم التالي يقوما القائمَـين على التجربة بنقد اختيارات المشاركين واقناعهم بأنهم اتخذوا الاختيار الأسوأ، وكانت النتيجة أن من اتخذوا قرارات عاطفية شعروا بندم أقل ودافعوا عن اختيارهم بصلابة، على عكس العقلانيين شعروا بندم أكبر دون دفاع مستميت عن اختيارهم.
في تجربة أخرى لهما طَـلبا من المشاركين حل الألغاز وفق العاطفة أو المنطق أيضاً، وكان الأشخاص الذين يحلوها وفق مشاعرهم ويخطؤون يحاولون مرة أخرى -أو أكثر- البحثَ عن الحل الصحيح، بينما من يحلوها وفق المنطق ثم يفشلون غالباً ما يتوقفون عند ذلك الحد.
أي أن القرارات العاطفية هي التي نتحمس بشدة للقيام بها والدفاع عنها، على النقيض تماماً عندما يتعلق الأمر بالقرارات المنطقية.
وهذه معضلة حقيقية... فإما قرارات عاطفية غير مستقرة ولا رزينة تتبدل مع تغير مشاعرنا، والتي -كما ترى- أنها قد تتقلب يومياً، نلتزم بها كلياً وندافع عنها، أو قرارات حكيمة وعقلية، ولكن لن نكون مخلصين جداً لها ولا مصرين عليها إلا بمقدار كبير من الانضباط النفسي وجهاد المشاعر، وهذا ليس بالأمر السهل.
إن محاولة ضبط النفس والالتزام كلياً بالمنطق في قبال المشاعر يحتاج منا طاقة نفسية كبيرة وحكمة وأخلاقاً ومقداراً من الوعي، وهذا لا شك سيعود نفعه على حياتك بشكل رائع، ولكنه كفاحٌ ثقيلٌ على النفس في جُل الأوقات، في حين لا أسهل من الانجراف خلف تيار المشاعر والاستسلام كلياً للعواطف التي تقلب بنا حيث ما تشاء، ومن المرجح ألا تكون فعالة جداً لجودة حياة الإنسان بل العكس.
وكثيراً ما يحلو لأدمغتنا خداعنا بأننا اليوم -ونظراً للظروف- سنتخذ قرارات عاطفية فلا طاقة نفسية تعيننا على الصراع مع الذات، على أن نتخذ القرارات المنطقية لاحقاً عندما تهدأ وتطيب الأيام، لكن الحياة -وكما ترى- للأسف لا توفر الكثير من الرفاهية والراحة ولن تجلب لنا هذه الأيام، فأي ظرف تتجاوزه سيأتي بعده آخر وهكذا دواليك.... إنها صعبة جداً وتستنزف منا الكثير من الصبر والطاقة النفسية، وستبقى كذلك على الدوام.
لنعد إلى سؤالنا الأول.... "هل قلبك أم عقلك يجب أن يتخذ القرار؟"
أظنك فهمت كيف تدار الأمور في دماغك، وعرفت كيف أن مشاعر تعبث بقراراتنا سواء شعرنا بذلك أم لا، فتفضل في اتخاذ الحل الأنسب لك.... وتيقن كلما زادت إرادتك في محاربة مشاعرك، كلما كانت حياتك أنجح.
عن نفسي أقول كل أمانيي تتوق للقرارات العقلانية... لكن هل سأقوم بذلك دوماً، لا أظن فالإنسان أوهن من ألا تلهو به مشاعر، وأضعف من أن يقاومها كلياً... لا تبالغ في رزانتك ستبقى إنساناً.
Created with GoDaddy Arabic Website Builder