سيدي القارئ ...
هل ستعطي عيدية للأطفال في هذا العيد ؟ أم أنك بعمر يسمح لك بأخذها ؟ أم أنك كبرت على العيدية وتريد قرضاً 😜؟
اشتهر خلفاء الدولة الفاطمية باهتمامهم في الاحتفال بالمناسبات الدينية ، كشهر رمضان وعيد الفطر وذكرى المولد النبوي .... إلخ ، وكثير من هذه الاحتفالات أصبح لها ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع وعاداته ، كفانوس رمضان مثلاً.
ومن أوجه الاحتفالات التي قام بها الفاطميون بمناسبة عيد الفطر هي "العيدية" ، وأول من بدأ ذلك الخليفة "المعز لدين الله الفاطمي" ، والذي كان في صبيحة العيد يهب الأموال لقراء القرآن لختمهم إياه في شهر رمضان ، ثم يقف على شرفة قصره وينثر الأموال على الرعية الذين أتوا لقصره كي يُعايدوه ... وكان يُسمونها التوسعة .
وتأصل هذا الاحتفال "العيدية" بالمجتمع الإسلامي وأصبح عادة ، لأن النبي صلوات الله عليه وآله اهتم بنشر البهجة في العيد أصلاً .
فهل "العيدية" بهجة للأطفال فقط ، كونهم المستفيد الأول منها ، أم هي سعادة لمانحها أيضاً ؟
إليك الجواب من منظور العلم ...
قبل أن نفتح محفظتك ونتحدث عن المال ... كُن واثقاً أن تخصيص جزء من وقتك ومجهودك لمساعدة الآخرين وخدمتهم سيمنحك السعادة .
عالم الاجتماع السيد كريستيان سميث Christian Smith قام بدراسة تتبع فيها 2000 أمريكي من أعراق وثقافات مختلفة في 12 ولاية أمريكية على مدار خمس سنوات ، وتتبع عادات الانفاق وأنماط الحياة لـ40 عائلة أمريكية ، لدرجة أنه كان يذهب مع بعضهم إلى المتاجر والبقالة .
وبعد خمس سنوات كانت نتيجة الدراسة أن الأشخاص الذي كانوا يشعرون بسعادة عارمة ويصفون أنفسهم على أنهم "مبتهجين" هم الأشخاص الذين كانوا يخصصون 5.8 ساعات شهرياً - أو أكثر - من أجل مساعدة الآخرين ، والانخراط في نشاطاتٍ خيرية اجتماعية .
بينما الأشخاص الذين كانوا يشعرون بالاكتئاب ووصفوا أنفسهم بأنهم "غير سعداء" هم الأشخاص الذين كانوا يخصصون نصف ساعة - أو أقل - من وقتهم شهرياً من أجل مساعدة الآخرين أو للنشاطات الخيرية .
لنفتح محفظتك الآن ولنتحدث عن المال ....
السيد كريستيان قام بدراسة أخرى على شريحة أكبر من الأمريكيين ، وكان يقارن بين تبرعهم وشعورهم بالسعادة أو الاكتئاب .
وكانت حصيلة الدراسة أن الأمريكيين الذين يتبرعون بأكثر من 10% من مدخولهم السنوي نادر ما يعانون من الاكتئاب أو لا يعانون منه أصلاً ، وغالباً ما يتمتعون بصحة جيدة ، وأيضاً هم أشخاص ناجحون في علاقاتهم العاطفية وأكثر استقراراً من غيرهم .
إذن ... فالدراسة تقول بصريح العبارة أن إعطاء المال يمنح صاحبه السعادة ، إنها ترجمان لقول الله سبحانه وتعالى : {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ} .
وُ رُبَّ بخيل لا يريد منح العيدية يقول : صحيح أن إعطاء المال للآخرين يمنح صاحبه السعادة ، لكن دون أدنى شك سيمنح صاحبه سعادة أكثر إن صرفها على نفسها ومتعه اليومية .
هذا القول مجرد سخافة ليس إلا ....
أجرى الباحث في مجال العلوم الاجتماعية الدكتور ميشيل نورتن Michael Norton دراسة في جامعة هانوفر الكندية ، إذ ذهب للطلاب و وزع عليهم أظرفاً فيها بعض المال – بعض الأظرف 5 دولار وبعضها 20 دولار – ، مكتوب في نصفها قبل حلول الخامسة مساءً أنفقها على نفسك ، وفي النصف الآخر مكتوب قبل الخامسة مساءً أنفقها على شخص آخر.
المجموعة التي أنفقت المال على نفسها بعضهم اشترى قهوة وبعضهن اشترين مكياجاً وهكذا ، والمجموعة الأخرى التي أنفقتها على أشخاص آخرين اشتروا القهوة لزملائهم أو اشتروا الهدايا لمن يحبون أو أعطوها لفقراء .
كانت كثير من عمليات الشراء متشابهة إلا أن نصفهم اشتراها لنفسه والآخرين اشتروها لغيرهم ، وحصيلة الدراسة هذه أن الذين أنفقوا المال على غيرهم كانوا سعداء جداً بما فعلوا ، واستمرت سعادتهم لأيام ، بينما الذين أنفقوا المال على أنفسهم وبحلول العاشرة مساء اختفت سعادتهم وكأن شيئاً لم يكن .
وتساءل السيد ميشيل هل ستكون النتائج مشابهة لو أقيمت ذات التجربة في الدول الفقيرة وعلى أشخاص مدقعين فقراً .
ذهب الدكتور ميشيل إلى أوغندا وأعاد التجربة ، فكانت النتيجة متشابهة أيضاً ... والأكثر سعادة هم من بذلوا الأموال لأجل الآخرين رغم أنهم لا يملكون شيئاً .
وكان أسعد شخص في تجربة أوغندا – واستمرت سعادتها لسنوات بعد التجربة – هي امرأة أعطيت مبلغ 15 دولار أمريكي ، فرأت في الطريق صديقتها وبيدها طفلها المصاب بالملاريا ، فأعطتها المال لشراء الأدوية له نظراً لعدم قدرة أمه على شراء الدواء ، ولإنقاذها حياة طفل بريء كانت أسعد من غيرها بهذا العمل .
هنا ترى أن السعادة المترتبة على مساعدة الآخرين كانت أطول عمراً من السعادة بشراء شيء تحبه .
لذا إعطاء الأطفال "العيدية" ورؤية الابتسامة تعلو محياهم أفضل بكثير من تبذيرها على متع الحياة اليومية .
السيد كريستيان سميث نشر كتاباً بعنوان "مفارقة الكرم - The Paradox of Generosity" وتحدث عن التجارب التي في مطلع المقال .
وقد أجرى مسحاً دماغياً "FMRI" على الأشخاص الكرماء ، وقد لاحظ السيد كريستيان أنه عندما يبذل الكرماء أموالهم من أجل الآخرين أو يتبرعون بها للجان الخيرية فإن منطقة "المكافأة في الدماغ – Reward system" تتحفز أثناء قيامهم بذلك .
وهذه هي ذاتها المنطقة التي تتحفز لدى الإنسان عند تناوله الطعام بعد شعوره بالجوع ، أو بعد ممارسته الجنس ، أو تعاطي المخدرات أو الحصول على هدف بعد تعب واجتهاد ... إنها المنطقة التي يسري بها الدوبامين فتُشعر صاحبها بالمتعة وتحقيق الغاية .
أي إن البذل والعطاء لا يمتع صاحبه روحياً فقط ، إن أعصاب الدماغ تنتشي عند قيامها بذلك .
لذا يصح لي القول إن إعطاء العيدية ليس مجرد عادة اجتماعية ، إنها راحة نفسية وفُسحة دماغية ونشوة عصبية تمنح صاحبها سعادة .
والخبر الغير سعيد للبخيل هنا ، أن السيد كريستيان يقول في كتابه : "يجب أن يكون الكرم ممارسة مستدامة وليس حادثاً عرضياً كي يؤثر على الدماغ بسعادة مترسخة" .
ولعلك سيدي القارئ تسأل إن كان الكرم والعطاء يُسعد صاحبه ، فلماذا لا يكون كل الناس كرماء ؟!!
يقول السيد كريستيان تعقيباً على هذا السؤال : الناس يعتقدون أنهم لا يملكون الوقت والمال الكافي لمساعدة الآخرين ، والبعض يخاف من أن يمر بضائقة مالية مستقبلاً ، ولا يدركون أنه مفيد لهم نفسياً ، ويمنحهم المزيد من الطاقة لممارسة الحياة بسعادة ونشاط وبالتالي تتحسن جودة حياتهم عموماً ، أي أن البخل جزء منه جهل وجزء منه خوف وانعدام أمن .
وأعقب على كلام السيد كريستيان وأقول إن المسلم لا يجب أن يشعر بانعدام الأمن والخوف ، فالله جل علاه ضمن له الحسنة بعشر والدينار في سبيله بعشر أيضاً .
لذا سيدي القارئ لا تبخل على صحتك النفسية ... اعطهم العيدية لسعادتك .