مرحباً بك بـيـن حكاياتي
قبل أن أروي لك حكاية اليوم هبني أن أسألك
هل طعامك المفضل اليوم هو ذاته طعامك المفضل قبل عشر سنوات؟
هل صديقك المقرب اليوم هو ذاته صديقك المقرب قبل عشر سنوات؟
هل ما تؤمن به من مبادئ اليوم تُشبه تماماً ما كنت تعتقد به قبل عشر سنوات؟
تذكر أجوبتك.... وإليك الحكاية.
في عام 1923م وكعادته كان الروائي الشهير فرانس كافكا يسير في إحدى حدائق برلين عائداً إلى المنزل، إلا أنه هذه المرة رأى فتاة صغيرة في الحديقة تجهش بالبكاء، فلم يمتلك قلبه الرقيق إلا أن هرع إلى مساعدتها.
الطفلة كانت قد أضاعت للتو دميتها في الحديقة، ولتهدئتها ساعدها كافكا أولاً بالبحث عنها في أرجاء الحديقة، لكنه لم يجدها... ولعل طفلة أخرى قد وجدتها وأخذتها، ولكنه كان أعطف من أن يواجهها بالحقيقة.
فابتكر كافكا كذبة لمواساتها، وأخبرها أنها يجب ألا تقلق فلعل الدمية ذهبت في رحلة ما، ولا شك أنها سترسل لها رسالة تُخبرها عن حالها، وقال لها أنه ساعي بريد وسيتكفل بإحضار الرسالة، لذا واعد الطفلة في اليوم التالي في نفس التوقيت والمكان كي يُسلمها رسالةً من الدمية.
كافكا الكاتب المبدع بدأ بكتابة الرسائل على لسان الدمية، وعلى موعده في اليوم التالي سَـلَّـم رسالةً إلى الفتاة مكتوب فيها: "من فضلك لا تحزني علي، لقد ذهبت في رحلة لرؤية العالم، سأكتب لك عن مغامراتي".
ولمدة ثلاثة أسابيع كان كافكا يكتب رسائل الدمية يومياً ويسلمها إلى الطفلة أثناء عودته إلى المنزل مروراً بالحديقة، واصفاً فيها مغامراتها وما تمر به من مواقف، فكانت الطفلة تستمتع بقراءتها بشغف لمعرفة ما في العالم من مغامرات.
بعد ذلك اشترى كافكا دمية جديدة وأهداها إلى الطفلة على أنها دميتها المسافرة، نظرت لها الفتاة مستغربة... "هذه لا تشبه دميتي"، فأهداها كافكا رسالة مكتوب فيها "لقد غيرتني رحلاتي".
احتضنت الطفلةُ الدميةَ وعادت بها إلى المنزل مسرورة.... وتوفي كافكا بعد ذلك الموقف بسنة تقريباً بعمر يناهز الـ40 عاماً.
كبرت الطفلة... وبعد سنوات من ذلك الموقف وعندما كانت تُقلب دمية الطفولة المسافرة اكتشفت أن هناك رسالة محشوة في شق بسيط في جسد الدمية لم تُلاحظه من قبل، وكان كافكا قد كتب فيها "كل ما تحبه ستخسره في النهاية، ولكن سيعود الحب بشكل مختلف في آخر المطاف".
سيدي القارئ... إلى أي مدى غيرتك رحلاتك في الحياة؟ هل ما زلت تشبه نفسك التي كانت قبل عشر سنوات؟
أظنها قد غيرت بعضاً منك ولم تعد ذلك الشخص...
ما أود أتحدث به معك اليوم سيدي القارئ هو أننا في كل مرحلة عمرية من حياتنا نتخذ قرارات تؤثر على حاضر الشخص الذي سنكون عليه في المستقبل، ويحدث أحياناً أننا نندم على بعض قراراتنا التي اتخذناها سابقاً ونتحمل تبعاتها، كأن تقضي نسخة أحدهم الثلاثينية بعض أيامها في المحاكم للطلاق من زيجة قررتها نسخته العشرينية، أو كبالغ يدفع أموالاً لإزالة وَشمٍ وضعته نسخته أيام المراهقة... وهلم جراً.
ولكن مهلاً.... لماذا؟! أ لم يكن لدينا عقل حينها؟! أ لسنا ذات الشخص مع اختلاف الأعمار؟
الإجابة بكل بساطة أننا كدمية كافكا... لقد غيرتنا رحلات الحياة على مر الأيام، وليس كل ما كان يُناسبك بالأمس قد ينفعك لغدٍ، ولعل شيئاً مما كنت مقتنعاً به البارحة سترفضه اليوم.
إن الحياة تقوم بتغييرنا باستمرار دون أن نُلاحظ، لذلك غالباً ما نكون غير قادرين على التنبؤ بمدى التغير الذي سيطرأ على سمات شخصياتنا في المستقبل، فنقرر لها ما ستعيشه في الغد وفق سماتنا اليوم... وهنا تكمن المشكلة، فنندم على بعض فعلاتنا القديمة لأن ما أصبحنا عليه اليوم لا يتفق بالرأي كلياً مع ما كنا عليه في الماضي.
وللتوضيح أكثر... إليك هذه الدراسة.
نشر علماء النفس -دانيال جلبرت، تيموثي ويلسون، جوردي كويدباخ- دراسة بعنوان "وهم نهاية التاريخ"، أجروها على 7 آلاف شخص تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 68 عام.
طلبوا من نصف المشتركين في الدراسة أن يُسجلوا نظرتهم الحالية لطباعهم الشخصية، وقيمهم التي يؤمنون بها، والأشياء التي يفضلوها، وكيف كانت هذه الأشياء قبل عشر سنوات.
وطلبوا من النصف الآخر أن يسجلوا أيضاً نظرتهم الحالية لطباعهم الشخصية، وقيمهم التي يؤمنون بها، والأشياء التي يفضلوها، ولكن طُـلب منهم أن يتوقعوا ما سيبدون عليه بعد عشر سنوات من الآن.
بناء على إجابة كل المشتركين في الدراسة حسب الباحثون الثلاثة نسبة ومستوى التغير لكل فئة عمرية خلال عشر سنوات، فقارنوا من هم في 18 من العمر مع من هم في الـ28، والـ28 مع الـ38 .... وهلم جراً.
لاحظ الباحثون أن المشتركون الأصغر سناً يتغيرون أكثر على هذه الأصعدة الثلاثة، أما بعد الخامسة والخمسين فالتغير يصبح أبطأ فأبطأ لكنه لا يتوقف.
بَـيـدَ أنَّ النقطة الأهم في الدراسة هي إن جميع المشتركين الذين طُلب منهم أن يتوقعوا ما سيبدون عليه في المستقبل، كانوا يتوقعون تغيراً طفيفاً جداً في طباعهم وقيمهم وما يفضلونه، بينما الواقع -مقارنة بنسبة من سجلوا تغيرهم في السنوات العشر السابقة- أن الحياة تُغير الناس أكثر مما يظنون.
إننا كبشر نعتقد متوهمين أننا قد وصلنا إلى نهاية تاريخنا في النضج، فننظر لأنفسنا على أنها الآن بأفضل نسخة منا ولن تتغير كثيراً في المستقبل على ما نحن عليه الآن.
انظر إلى هذا...
الخط العلوي -في الصورة أعلاه- يُمثل التغير الذي حدث بالفعل -مع مرور الأيام- لقيمنا وما نؤمن به، والخط الذي تحته يُمثل التغير المتوقع، ولاحظ الفرق الشاسع سيدي القارئ بين ما نتوقع تغيره وبين التغير الذي حدث لنا بالواقع على مستوى المبادئ والقيم.
وهنا أيضاً ستلاحظ الفرق بين ما حدث من تغير بالفعل على طباعنا الشخصية، وبين ما نتوقع حدوثه، وهنالك فرق أيضاً.
وهنا التغير الذي حدث على تفضيلاتنا اليوم -ما نُفضله سواء من موسيقى أو أصدقاء أو طعام أو أو..-، وبين ما نتوقع تغيره في المستقبل وهناك فرق كبير بينهما.
الكثير ممن في العشرينات من العمر توقعوا أن أطعمتهم المفضلة اليوم ستكون ذاتها بعد عشر سنوات من الآن، لكن من كانوا في الثلاثينات أكدوا أن هناك تغير حدث بالفعل على ذائقتهم، وما يفضلونه اليوم مختلف شيئاً ما عما كان قبل عشر سنوات.
إن عدم إدراك حجم التغير الذي سيطرأ علينا يجعل بعضاً من قراراتنا المستقبلية غير حكيمة ومن الوارد جداً أن نندم عليها.
في دراسة أخرى سُئل العديد من الناس من متوسطي الدخل عن المبلغ الذي من الممكن أن ينفقوه لشراء هدية بعد عشر سنوات من الآن لعيد ميلاد صديقهم المفضل في الوقت الحالي، فكان متوسط الجواب هو 150 دولار، بينما سألوهم عن المبلغ الذي قد يبذلونه لشراء هدية عيد ميلاد لصديقهم الذي كان مفضلاً لديهم قبل عشرة سنوات فكان الجواب 70 دولار فقط!!
المنطق يقول إن الأمر واحد ويجب أن يكون هناك تقارب بين المبلغين وليس الضعف!!، فمن الوارد جداً أن يكون صديقك المفضل شخص آخر بعد عشر سنوات من الآن، لكن نحن البشر -وبالأخص من هم في منتصف العشرينات وما بعدها- نعتقد أننا وصلنا لمرحلة من النضج لن تتغير معها شخصياتنا وتفضيلاتنا كثيراً، وهذا ما سيجعلنا نندم لاحقاً... لأن رحلات الحياة ستغيرنا دون أدنى شك.
وفي دراسة شهيرة بعنوان "مواليد لوثيان" تم دراسة ما يقرب من ثلاثة آلاف مولود في مدينة لوثيان الإسكوتلندية ولدوا بين عام 1921 وعام 1947، وتم تتبع هؤلاء المواليد على مدار حياتهم ومعرفة الكثير من تفاصيلهم ووظائفهم وتعليمهم وما إلى ذلك.
القائمين على الدراسة أجروا مجموعة من الاختبارات على هؤلاء المواليد في مراحل مختلفة من حياتهم، كاختبارات الشخصية والذكاء غيرها.
لاحظ الباحثون أن هناك تغير ملحوظ في شخصياتهم ومبادئهم وتفضيلاتهم بمختلف مراحلهم العمرية، بل حتى مستوى الضمير لديهم أصبح أعلى، وتحملوا المسؤولية أكثر من ذي قبل مع تقدمهم بالعمر.
يقول رينيه موتوس Rene Mottus أحد أهم الباحثين القائمين على دراسة مواليد لوثيان حالياً: "يعتقد الكثير من الناس أنهم سيصبحون أكثر لطفاً وتعاوناً وتنظيماً وطاعة مع تقدمهم بالعمر، وهذا صحيح، فإن مثل هذه التغيرات هي الأكثر شيوعاً بين العينات التي تم دراستها.
والناس تصبح أكثر تقبلاً وضميراً واستقراراً عاطفياً مع مرور الوقت، وصحيح أن هناك تغيرات تصبح بالاتجاهات المعاكسة لدى البعض، لكن يبقى التطور الإيجابي هو الأكثر شيوعاً."
أحياناً نحاول بجد التفكير في المستقبل والاستثمار فيه، فنتخذ قرارات مستقبلية معتمدين بذلك على اختياراتنا وتفضيلاتنا الحالية في مواقف تحتاج منا بُعد نظر، كالزواج والعمل وشراء المنزل وما إلى ذلك من أشياء، وحتماً إدراك أننا سنتغير مستقبلاً يجعل القرار أكثر حكمة.
في بريطانيا أُقيمت دراسة على المتزوجين حديثاً، ممن كانت تربطهم علاقة حُب قبل الزواج، وسألوهم فور زواجهم عن احتمال طلاقهم في المستقبل، فأجابوا جميعاً بأنهم حتماً لن يتفرقوا مستقبلاً وسيستمر زواجهم، رغم أن نسبة الطلاق في بريطانيا 40%، أي أن بين كل خمسة أزواج تنتهي علاقة اثنان منهم بالطلاق.
الأزواج في الدراسة السابقة رجحوا احتمالية الاستمرار وفقاً لمنظورهم وتفضيلاتهم اليوم... وهذا ما سيجعل اثنان من كل خمسة منهم يندمون لاحقاً.... نعم من تختاره اليوم قد يكون شريكاً مثالياً لك هذه الفترة، لكن رحلات الحياة ستُغيرنا، وهذا ما لم يكن في حسبانك.
كذلك العمل والمنزل وغيرها من قرارات مستقبلية، يجب أن تدرك دائماً أنك ستصبح كدمية كافكا.. شخصاً آخراً، وهذا سيزيد من منطقية وصواب قراراتك المستقبلية... ولكن قد لا يفلح ذلك دوماً وقد تندم عليها بشدة.
إذن ما الحل؟ كيف أتخذ قرارات مستقبلية دون أن أتجرع ألم الندم؟
أولاً يجب أن تتقبل أيها الإنسان أنك مهما اجتهدت في محاولة التنبؤ بالمستقبل واتخاذ القرار الأفضل لن يفلح ذلك دائماً، الأمر كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} وهذا نظراً لمحدودية قدراتنا التفكيرية.
ولكن مهلاً.. هناك حل... ماذا لو اتخذت قرارتك وفقاً لقواعد ثابتة لا تتغير على مر الزمان؟
إن اتخاذ قرارات مبنية على أُسس راسخة كالدين أو الأخلاق الحسنة أو العلم -والتي لا تتغير إلا للأفضل على مر السنين- يجعل قراراتك مرضية ولن تندم عليها... أو بأسوأ حال ستكون أقل ندماً مما لو اتخذتها على تفضيلات شخصية.
فتلك الأسس ستكون سلوى لك وتخفيفاً عليك، بل غالباً ستشعر بالرضا عليها، فالشهيد الذي اتخذ قراراً بالموت في سبيل الله وقرر إنهاء مستقبله تماماً لن يتذمر بل سيكون مسروراً.
كذلك جيفارا الثائر الشجاع الذي نادى بمبادئ العدل والمساواة والحياة الكريمة للإنسان، كان يشعر بالرضا التام على ما اتخذه من قرارات حتى آخر لحظات حياته وقتله في سبيل ذلك.
وقراراتك المستقبلية الاقتصادية أو المادية لو اتخذتها على علم ودراية أو دراسة جدوى مثلاً، ثم فشلت بسبب ظروف الحياة، ستحزن بالتأكيد.... ولكن ستعشر بشيء من الرضا بداخلك لأنك تعلم أنك قمت بكل شيء ممكن لإنجاحها... فعلت ما بوسعك، وستكون درساً مفيداً للقرارات التي ستليها.
وهلم جراً على أمثلة مثل هذه...
قراراتنا التي نبنيها على تفضيلاتنا وسماتنا الشخصية اليوم، هي أكثر قرارات نندم عليها بألم وحرقة مستقبلاً، بينما القرارات ذات الأسس الراسخة تكون أفضل حالاً وأوفر حظاً بالنجاح، وبحالة الفشل -لا قَدَّر الله- تكون أخف على مشاعرنا وألطف على قلوبنا... ورغم ذلك سيبقى الألم جزءاً أصيلاً من هذه الحياة مهما حاولنا تجنبه، ولكن وكما يقول المثل المصري "قضا أخف من قضا".
سيدي القارئ أرجو أن تكون كلماتي اليسيرة هذه أكدت لك أن التغير هو الشيء الوحيد الثابت في الحياة، وأن رحلات الحياة ستغيرك دون أدنى شك، وأرجو أن تعود بذاكرتك لقراراتك التي ندمت عليها بشدة وبألم، ستجدها قطعاً قرارات بُنيت على تفضيلات شخصية تغيرت مع مرور الأيام وليست على أسس راسخة... لعل ذاكرتك في هذا تكون درساً لك في قرارات المستقبل.
وكما قال كافكا في رسالته الأخيرة "كل ما تحبه ستخسره في النهاية، ولكن سيعود الحب بشكل مختلف في آخر المطاف"، وأقول تعقيباً عليه: ما بُني على أساس حسن سيعود لك نفعه وخيره في نهاية المطاف، وإن لم يكن في هذه الدنيا سيكون بعدها.. لكنه حتماً سيعود يوماً... وإن أخفق في فترة ما.
دِمت بود... وأتمنى لك مستقبلاً جميلاً يليق بلطف قلبك.
Created with GoDaddy Arabic Website Builder