مبروك ... سأهديك علبة نوتيلاً لقراءتك مقالي ، ولك الاختيار ، إما علبة متوسطة الحجم تحصل عليها الآن ، أو علبة كبيرة بعد أسبوعين عند المقال القادم .
ماذا ستختار ؟ ( احتفظ بالإجابة .. سنعود لها بعد المقال)
حسناً ... لنبدأ المقال .
في تركيا في القرن الثامن عشر كان هناك رجل بسيط يدعى "خير الدين كججي" متوسط الدخل يتمنى أن ينجح بتحقيق حلمه المتمثل ببناء مسجد في قريته الواقعة بحي الفاتح .
وهذا حلم بعيد المنال نوعاً ما ، فرجل بهذا الحال المادي أنى له المال لبناء المسجد ؟!
فمدخوله الشهري قد يوفر له حياة كريمة ، لكن لن يسعفه للادخار وشراء الأرض وبناء المسجد .. إلا أن السيد "خير الدين" كان له رأي آخر .
بدأ السيد "خير الدين" بتوفير كل قُرشٍ يمكن توفيره ، وخاصة تلك الأموال التي يدفعها في الطعام ، وكان عندما يدخل السوق ويرى أصناف الطعام كاللحم والفواكه وما أشبه وتنازعه نفسه على شرائها ، كان يقول لنفسه "حسناً .. كأني أكلت" ثم يدخر سعرها لبناء المسجد .
ولمدة عشرين عام كان خير الدين يكتفي بالأرز فقط ، أما بقية الأصناف "فكأنه أكلها" ، واستطاع بذلك شراء أرض وبنى مسجداً عليها من أموال "كأني أكلت" ، فقرر أن يسمي المسجد "كأني أكلت" ، وهو مسجد قائم إلى يوم الناس هذا ويقصده السواح من أرجاء العالم .
( صورة المقال هي صورة المسجد )
وقُبَيل سنوات زرت المسجد وقرأت في لوحاته أنه تعرض لأضرار بالغة إبان الحرب العالمية الأولى ، فقام أهل القرية حينها بجمع التبرعات لإعادة ترميمه ، واللطيف أن أهل القرية دفعوا أموالهم التي خصصوها لأصناف الطعام والشراب واكتفوا بالأرز والماء لمدة شهرين ، "فكأنهم أكلوا" ، ثم نجحوا في ترميمه .
وإليك هذا السؤال ...
ما الفرق بين "خير الدين" الذي استطاع تحقيق حلمه ببناء المسجد ، وبين العاجزين عن تحقيق أحلامهم ؟
في أواخر الستينيات قام عالم النفس السيد والتر ميشيل Walter Mischel بتجربة على 600 طفل تتراوح أعمارهم بين 4 أو 5 سنوات ، إذ يدخل الطفل إلى غرفة فيها طاولة وكرسي فقط ، فيجلس فيها لوحده ويتم تخييره بين أن يأكل قطعة حلوى المارشملو الآن ، أو ينتظر 15 دقيقة في الغرفة لوحده ليحصل على قطعتين عوض القطعة .
ثلثي الأطفال عجزوا عن الانتظار ، وأكلوا القطعة قبل انتهاء المدة ، بينما ثلث فقط انتظر تلك المدة وكسب قطعتي مارشملو .
التجربة كانت بسيطة تريد قياس قوة الأطفال في مقاومة المتع الفورية ، وكان يجب أن تنتهي عند هذا الحد ، بَـيدَ أن السيد والتر بدأ بمتابعة الأطفال لمدة تقارب الخمسين عاماً ، في المدرسة والجامعة والوظيفة وحياتهم المهنية والصحية وغير ذلك .
ليكتب بعدها نتائج دراسته في كتابه الرائع الصادر عام 2014 م "اختبار المارشملو The Marshmallow Test" .
السيد والتر أكد في كتابه أن الأطفال الذين انتظروا 15 دقيقة وأكلوا قطعتي المارشملو حصدوا على درجات أعلى في الثانوية ، وأكملوا دراساتهم الأكاديمية ، وتميزوا في وظائفهم ، وكانت نسبة السمنة لديهم أقل ، ولم يدمنوا المخدرات أو الكحوليات ، وحياتهم العاطفية والأسرية والاجتماعية كانت أكثر استقراراً ، وكانوا أكثر نجاحاً في حياتهم من أولئك الذين أكلوا قطعة المارشملو ولم ينتظروا .
حتماً القطعة الثانية من المارشملو لم تصنع في الكعبة لتضع فيهم كل هذه البركة 😜 ، الأمر وما فيه يتعلق بـ "ضبط النفس".
الأطفال الذين انتظروا كان لديهم القدرة على ضبط النفس والتحكم بها ومقاومة المتع الفورية لكسب متع لاحقة أعظم ... وهذا سر النجاح .
لنأخذ الدراسة على سبيل المثال ..
لو أردت الدخول إلى كلية أكاديمية مرموقة فإنه يتوجب عليك أن تضبط نفسك وتستقطع – على مدار العام – من وقتك الذي تخصصه للراحة أو مشاهدة التلفاز والخروج للتنزه وما أشبه من أشياء تمنحك متع فورية ، وتبذله في المذاكرة التي ستسعدك نتائجها عند قبولك في الكلية لاحقاً .
وهكذا هلم جراً ...
في كل نقطة مفصلية بين تحقيق أحلامك ونجاحك في الحياة وبين عجزك وفشلك ستجد ضبط النفس وتأجيل المتع الفورية لمتع لاحقة أكبر هو الخط الفاصل بينهما ، فكلما كنت أكثر ضبطاً لنفسك كلما كنت أكثر نجاحاً في الحياة .
لذا إن أردت النجاح تفضل واضبط نفسك واكبح جماح متعها ... تماماً كما هو الحال مع السيد "خير الدين" الذي أجل متع شهوة الطعام لمدة عشرين سنة وبالتالي نجح في تحقيق حلمه ببناء المسجد رغم بساطة حاله .
وفي محاضرة لبروفيسور الاقتصاد السلوكي السيد دان آريلي Dan Ariely سأل الجمهور : سأهديكم علبة شوكولاتة ، فهل تقبلون بنصف علبة الآن ، أم تنتظرون أسبوعاً لتحصدوا على علبة كاملة ؟
غالبية الجمهور اختاروا نصف علبة يحصلون عليها اليوم على علبة كاملة بعد أسبوع .
ثم خيرهم مرة أخرى بين نصف علبة يحصلون عليها بعد سنة ، أو علبة كاملة يحصلون عليها بعد سنة وأسبوع ، والجمهور بأجمعه اختار علبة بعد سنة وأسبوع !! .
لأن التخيير الأول كان منافسة بين المتع الفورية واللاحقة ، وهو ما يفشل فيه الغالبية ، بينما المفارقة الثانية كانت في المتع اللاحقة وهنا نجح الجميع .
ولأكن معك صادقاً سيدي القارئ .. الحياة ليست سهلة ، إنها صعبة جداً .. إنها مرهقة ، تتطلب الكثير من ضبط النفس كي تنجح فيها . ( إلا إذا عندك واسطة ... انسى كلامي 😜)
وإن كنت سيدي القارئ تتذبذب بين ضبط النفس وبين الانصياع للمتع الفورية ... إليك هذه الخطة التي قد تحفزك على المزيد من ضبط النفس :
" غداً أجمل"
بروفيسورة علم الاجتماع السيدة رينيتا راي ranita ray في كتابها the making of teenage service class تتحدث عن ملحوظة مهمة في حياة المراهقين ، إذ أن السواد الأعظم منهم لا يدخرون أموالهم التي يحصلون عليها لبناء مستقبل أفضل ، بل يفضلون انفاقها في حينها على شراء الوجبات والقهوة أو الهواتف الحديثة ، أي ينفقونها على جرعات فورية من هرمون الدوبامين للشعور بالنشوة والسعادة .
وعللت السيدة رينيتا ذلك بعدم ثقة الشباب في المستقبل ، وعليه فهم يفضلون أن يشعروا بالسعادة الآن عوضاً عن تأجيلها للمستقبل الذي قد يكون سوداوياً .
كذلك الرائعين أبهيجيت بانيرجي و إستير دوفلو كتبا في كتابها "اقتصاد الفقراء Poor economics" أن في الثمانينات كانت بعض القرى الهندية تعاني من الجوع ، وعندما زاد دخل هذه القرى لم تتحسن طردياً معها هذه المشكلة ، بل بقيت تشكو من الجوع ، لأن الفقراء فيها عوضاً عن أن ينفقوا أموالهم لشراء الخبز والبقوليات مثلاً والتي ستكفيهم لثلاث أو أربع وجبات ، كانوا يشترون اللحوم التي ستكفيهم لوجبة واحدة فقط وسيمكثون جياعاً بقية اليوم .
لأنهم يشتغلون مقابل الأجر اليومي ، ولا يدرون إن كانوا سيحصلون على عمل في الغد أم لا .. لذا فهم يفضلون لحم في اليد على عشر بقوليات على الشجرة ، ويفضلون متعة اللحم في وجبة واحدة على الفول في ثلاث وجبات .
الحياة المريرة التي يعيشها الفقراء تجعلهم تحت ضغط نفسي متواصل ، وهو ما يزيد من افراز هرمون القلق الكورتيزول في الدماغ ، والذي يؤثر بدوره على منطقة الفص الجبهي المسؤولة عن كبح القرارات المندفعة ، وبالتالي من المتوقع جداً أن لا يتخذوا قرارات منطقية على المدى الطويل ، فدماغهم لا يمتلك مقومات ذلك أصلاً ، فيختاروا متعة اليوم على أمل الغد .
وفي دراسة أخرى للدكتور إلدار شافير Eldar Shafir عام 2013م اكتشف أن الضغط الذي ينصب على الدماغ بسبب المشاكل المادية وعدم ثقته بالمستقبل يتسب بانخفاض ذكاء الدماغ في الـIQ بمعدل 13 نقطة .
أي أن عدم الثقة بالمستقبل وانعدام الأمل يقلل من ذكاء الشخص ، فلا ترتجي منه حينها قرارات منطقية أو ذكية ، وترقب منه اندفاع غير محمود .
وفي تجارب للسيد أبهيجيت بانيرجي كان يرفع فيها القلق من المستقبل عن بعض العائلات الفقيرة في الهند ويضمن لها دخلاً ثابتاً ، فكانت تلك العائلات تتخذ قرارات حكيمة فيما يخص تعليم الأطفال وتغذيتهم وما أشبه ، أي عندما وثقوا أن غداً أجمل .. أصبحت حياتهم أجمل فعلياً .
وأظنك فهمت الآن لماذا قال الإمام علي عليه السلام : " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً " ... العمل والنجاح في الدنيا يتطلب ثقة في المستقبل .
إذن سيدي القارئ .. ستضعك الحياة يومياً في مفترق طرق بين النجاح والمتع الفورية ، وضبطك لنفسك وتحكمك بها وتأجيلك للمتع الفورية سيمنحك النجاح ومتعة أكبر في نهاية المطاف ، ورحم الله سيدي الصادق عليه السلام حين قال : كم من صبر ساعة قد أورثت فرحاً طويلاً ، وكم من لذة ساعة قد أورثت حزناً طويلاً .
وكِلانا يعلم سيدي القارئ أن هذا الصبر ليس بالسهل ، لكن تذكر عند ذلك المفترق أن غداً أجمل ... أن المستقبل أفضل ، اسرح بخيالك في كل منعطف وتصور الغد بإشراقه الأروع ، ذلك سيخفف عليك لا محالة وسيحفزك لمزيد من ضبط النفس .
وتذكرها عني دائماً " أكثر الطرق النجاح اختصاراً ... تفاءلوا بالخير تجدوه " .
حسناً لنعد إلى علبة النوتيلاً ... تريد أن أهديك علبة أو نصف علبة ؟
أصلاً أنت متنان روح سو دايت وخل عنك الكاكاو 😒 😝.