مرحباً سيدي القارئ ... هل هناك واجبات وأعمال مطلوب منك القيام بها لكنك أجلتها وجلست لتقرأ هذا المقال؟
سواء كنت متيماً في الفن أم لم تكن ... لا شَـكَّ أنك سمعت يوماً بـ"ليوناردو دافنشي" ، وابداعاته الرائعة "العشاء الأخير" و"الموناليزا" وغيرها ، ولعله يتبادر إلى ذهنك أن هذا الرائع كان لا يتخلى عن فرشاته ويداه ملطختان بالألوان ويقضي الساعات بالرسم والتلوين .
وآسف لإحباطك لكنه لم يكن كذلك ، بل كان يُؤجل الكثير من أعماله ، مشتت التركيز لا يُحسن إكمال شيء ، فرغم أن ليوناردو بدأ العمل في الفن منذ مطلع شبابه وتوفي بعمر يناهز الـ67 إلا أنه لم يُنجز في حياته سوى 15 عملاً فنياً فقط !!!
فمثلاً عندما تعاقدت معه كنيسة لرسم لوحة "عذراءٌ على الصخور Virgin on the Rocks" طلب منه القساوسة أن يُسلم اللوحة بعد سبعة أشهر بأقصى حد ، لتُعرض في عيد ذكرى حمل السيدة العذراء عليها السلام ، إلا أنه تأخر قليلاً عن الموعد .... وسَلَّم اللوحة بعد 25 سنة فقط . ( ما أدري ليش زعلو منه ... يعني عشان تأخر عليكم 24 سنه وخمس شهور كبرتوا الموضوع ؟ يعني الواحد ما ينشغل !! 😛)
وفي جداريته الرائعة "العشاء الأخير" تعاقدت معه كنيسة سانتا ماريا في ميلانو لرسمها خلال شهر فهي مجرد رسم جانبي لغرفة طعام الرهبان ، والحمد لله كان ملتزماً بعض الشيء في الوقت وأتم رسمها بعد ثلاثة سنوات . ( وأمي تزعل إذا تأخرت عليها 4 ساعات ... تعالي شوفي ليوناردو حجيه 😒)
ويقول الراهب والكاتب ماتيو بانديلو في وصف ليوناردو أثناء عمله على تلك الجدارية :
"كان يصل إلى الكنيسة ويصعد إلى السقالة لبدء العمل ، في بعض الأحيان كان يعمل ويرسم دون توقف حتى للأكل أو الشرب .... لكنه - في أوقات كثيرة أخرى - كان يمضي يومين أو ثلاثة أو أربعة أيام دون أن يلمس فرشاته .... و رأيته أيضاً يأتي إلى الكنيسة ويصعد إلى السقالة ويلتقط فرشاته ويضرب ضربة واحدة أو اثنتين ثم يبتعد مرة أخرى ."
أما أشهر لوحاته "الموناليزا" فإن أحد تجار الحرير طلب من ليوناردو رسم زوجته " ليزا جوكوندو" احتفالاً بشرائهم لبيت جديد في إيطاليا ، ورغم صغر اللوحة ( 77 سم × 53 سم ) إلا أنه استمر في رسمها 19 عاماً ثم مات ولم يكملها ولم يُسلمها إلى التاجر ، واحتفظ بها ملك فرنسا في قصره لينتهي بها المطاف اليوم في متحف اللوفر في باريس . ( 19 سنه !!! تطلقوا وجرجرها بمحاكم الأسرة وأنت للحين ما عطيته اللوحة 😒)
مات ليوناردو وترك خلفه عشرات الأعمال الغير مكتملة ، والتي اضطر أصحابها إلى الاستعانة بفنانين آخرين لإكمالها كلوحة "تمجيد المجوس ليسوع The Adoration of the Magi" .
ليوناردو كان يعلم تماماً أنه لو أنجز أعماله في وقتها فإنه سيكسب المزيد من المال وسينجز العديد من اللوحات الأخرى وسيملئ التاريخ إبداعاً ، إلا إنه - وبكامل إرادته - كان يُؤجل أعماله لسنين طويلة دون عذر حقيقي يمنعه من ذلك ، وكما ينقل المؤرخ الإيطالي جورج فازاري أن ليوناردو عندما كان على فراش الموت طلب من البابا التوبة لأنه على حد تعبيره : "قد أساء إلى الله والبشر بفشله في ممارسة فنه مثلما كان يتوجب عليه أن يفعل" .
فلماذا فعل ذلك ؟! ولماذا نحن أيضاً نؤجل قيامنا ببعض الأعمال التي نعلم تمام العلم بأن قيامها سينصب في مصلحتنا وتركها سيُسبب لنا المتاعب ؟ أ ليس الإنسان بطبيعته العاقلة يسعى خلف مصلحته ؟
كما تعلم أن هذا التصرف يُسمى "التسويف" ، والذي يُعرِّفه عالم النفس وليام كناوس Wiliams Knaus بأنه : الانشغال والتشتت الذي يسبق قيامنا بمهامنا الرئيسية المراد إنجازها ، مقنعين أنفسنا بإمكانية تأجيل إنجازها إلى وقت لاحق ، والذي ينتج عنه ضياع الوقت وعدم إنجاز المهام .
ولا شك سيدي أنك تدرك الآثار السلبية للتسويف بعد أن يُطبق الوقت خناقه ، فالقلق والتوتر والشعور بالذنب يخيمون حينها على دماغ المسوف ، أو يُعرضه للتوبيخ والاستنقاص على أقل تقدير ، ناهيك عن كونه سبباً للفشل في المهام الوظيفية أو الدراسية ، وهذا ما ينتج عنه في نهاية المطاف الإصابة بالاكتئاب ... لكننا مستمرون في القيام به .
لست أنا وأنت فقط ... بل العالم أجمع يُسوِّف ، إنها طبيعة بشرية ، ففي دراسة إحصائية لدكتور علم النفس - المختص في مجال التسويف - بيرس ستيل Piers Steel أجراها على الآلاف من طلاب الجامعات ، رأى السيد ستيل أن 90% من الطلبة يعانون من التسويف في حياتهم الأكاديمية ، وغالباً ما يخسرون هدوءهم النفسي بسبب ضيق الوقت عند المذاكرة للامتحانات أو تسليم البحوث وما أشبه .
والتسويف لا يعني بالضرورة ترك أعمالٍ مرهقةٍ ثم الاسترخاء والانبطاح على الكنبة لمشاهدة الأفلام مثلاً ، بل يكون أحياناً بترك أشياء تحبها والانهماك في أنشطة أخرى قد تكون أثقل منها لكنها ليست ذا أولوية .
ولا تعتقد سيدي القارئ أننا نُسوِّف الأعمال بشكل عشوائي ، بل إننا في الحقيقة نُسوِّف أعمالاً محددة ، وأولها هي أعمال عادية سهلة إلا أنها تثمر نتائجها بعد فترة من الزمن ، إذ لا تحصل على مكافأة فورية لدى القيام بها ، ولا يترتب عليها أيضاً عقاب لحظي عند إهمالها .
أما ثانيها فهي أعمال حساسة مطلوب منا أن نثبت جدارتنا في أدائها وقد يعتمد تقييمنا على إنجازها .
وأظنك يا سيدي تنتظر الآن أنك أكتب لك حلاً للتسويف ... حسناً لنؤجل ذلك إلى الأسبوع القادم 😌 . ( لا تخز 😅 ترى دافنشي أَجَّــل 25 سنة وعادي حطو رسوماته بالمتحف 😒 )
يبدأ الحل يا سيدي من فهم لماذا نحن البشر نُسوف أصلاً .
في بحث أجرته مجموعة من علماء النفس البيولوجي من جامعة Ruhr Bochum الألمانية ، تفحص العلماء عن طريق جهاز الأشعة الدماغية FMRI دماغ 264 شخص ، ولاحظوا أن الأشخاص الذين يعانون من التسويف تكون اللوزة الدماغية amygdala لديهم نشطة أكثر من الأشخاص الذين لا يُعانون من ذلك .
والوظيفة الأساسية للَّوزة الدماغية هي تحديد المخاوف التي قد يتعرض لها الإنسان وتهدد حياته أو تقلل من جودتها ... وهذا يعني باختصار أن الخوف أحد أبرز الأسباب التي تدعو الإنسان للتسويف .
ولأن الإنسان يخاف من الفشل في الأعمال التي سيتم تقييمه عليها تراه يُماطل في تأديتها ، فيُؤخرها دون عذر حقيقي لذلك ، وحتى إذ ما كَـشَّـر الوقت عن أنيابه يداهم الإنسان خوف آخر وهو الخسارة أو التوبيخ مثلاً فيضطر إلى تأدية الأعمال المعلقة .
ويخاف الإنسان أحياناً من مواجهة أو الاعتراف بمحدودية قدراته وبساطتها ، فتراه مثلاً يُسوِّف المذاكرة لآخر يوم قبل الاختبار ، فإذا ما فشل في حصد درجات مرضية يرمي بالمسببات على ضيق الوقت وليس على قدراته الذهنية المتواضعة ... فالاعتراف بتدني القدرات أمر يتطلب شجاعة نفسية كبيرة .
والأمر لا يقف عند اللوزة الدماغية ، ففي بحث عن علم الأعصاب والتسويف يقول الدكتور "ستيورات لانغفيلد Stuart Langfield" : أن الجهاز الحوفي في الدماغ limbic system والذي يسعى وراء المتع الفورية ويتجنب الألم يعمل بسرعة كبيرة جداً ، بحيث يتعذر على القشرة الأمامية الجبهية العقلانية – المسؤولة عن التدبر والمنطق – اللحاق به ومواكبة اندفاعاته ... إنها معركة بين الغريزة والعقل ، لذلك عندما نسوِّف نخدع أنفسنا أحياناً بحجج واهية كي لا نخرج بمظهر الحمقى بيننا وبين أنفسنا .
وهذا أيضاً يعني بكل بساطة أن أدمغتنا مصممة للتلذذ بالمتع الفورية أكثر من كونها تعمل لأهداف بعيدة المدى ، لذلك عندما يتعين علينا القيام بمهام تحصد نتائجها بعد تكرارها كثيراً على مدار أيام وشهور كالمذاكرة أو الرياضة فإن أدمغتنا تميل إلى تسويفها وتـتجه إلى متع فورية أخرى كتصفح البرامج الاجتماعية أو اللعب .
وفي دراسة للدكتورة Wenwen Zhang وزملائها نُشرت في مجلة Nature العلمية ، لاحظ القائمون على التجربة ضعف نشاط مناطق من الفص الجبهي مسؤولة عن التعبير عن الذات واحترامها .
ولكي لا أُدخلك سيدي القارئ في دهاليز الأعصاب يمكننا القول ببساطة أن الأشخاص الذين لا يتوقعون الكثير من أنفسهم أو يستحقرونها يعانون من التسويف ، فيقينهم بضعف قدراتهم وفشلهم يدعوهم لتأجيل العمل ، فالحافز الذي يقودهم للعمل هش جدا لا يدفعهم إلى التحدي وإثبات ذواتهم .
ولعل المسوف عندما يقرأ ما سبق يقول في قرارة نفسه إنه رائع ومنتج لولا لوزته الدماغية وجهازه الحوفي ... ولكن ليس هكذا تورد الإبل يا عمرو .
إن أدمغتنا قابلة للتكيف والتغير والتعايش مع الواقع المحيط بها ، وفي دراسة من جامعة ستوكهولم السويدية أظهرت أن الأشخاص الذين اتبعوا النصائح – التي سأسردها عليك – لمدة 10 أيام فقط تغير نشاط لوزتهم الدماغية وجهازهم الحوفي ، وتحسن أداءهم في مشكلة التسويف ... فإليك تلك النصائح .
1- لا تفعل شيئاً
قبل أن تبدأ بأي عمل قمت بتأجيله لا تفعل أي شيء ، لا تتصفح البرامج الاجتماعية أو تشاهد التلفاز أو تقرأ كتاب ، فقط اجلس واسرح بخيالك في العمل الذي تريد القيام به ، فإن هناك حداً لكمية المعلومات من العالم الخارجي التي يمكن لأدمغتنا معالجتها في جلسة واحدة ، وعند امتلاء أماكن المعالجة في الدماغ فإن نظام الانتباه يتدخل ويتخذ قرار بشأن ما سيركز عليه .. وحتماً لن يكون ما قمت بتسويفه ، فأنت أجلته أصلاً لثقله على دماغك .
2- قَـسِّـم المهمة المطلوبة إلى أجزاء محدودة
المهام الكبيرة تُشعرنا بالخوف واحتمالية الفشل ، والدماغ لن يتحمل تخصيص وقت طويل لها ... فهو يريد المتع الفورية ، لذلك قَـسِّـم المهام الكبيرة إلى مهام صغيرة ، ولكل مهمة وقت بسيط مخصص ، وبعد انتهاء كل قسم خُذ قسطاً من الراحة .
وعندما تنجز كل جزء يسير منها ستشعر بلذة الإنجاز والثقة بالنفس وستتشجع للقيام ببقية الأجزاء ، وأرجوك أن لا تصبح مثالياً وتحاول القيام بالأمور التي سَوَّفتها جرعة واحدة ... دماغك غير مصمم لذلك ، والتغيير الحقيقي ليس درامياً ... إنه خطوة بسيطة تعقب خطوة .
3- العالم ليس وردياً ... إنه تراجيديا
العالم يا سيدي ليس مكاناً مثالياً ، ونحن لسنا آلات ، والأمور التي نُسوفها كثر ، فلا تفكر الآن بالقيام بكل الأشياء التي سوفتها ، الحياة ليس إنتاجاً فقط ... لدينا مشاعر وطاقة نفسية محدودة ومصاعب ومشاكل و و و ، لذلك أرجو أن تختار شيئاً واحداً للقيام به و دع البقية ليوم آخر .
وكما يقول مارك توين : لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد إن كان بإمكانك تأجيله لبعد الغد .
وهذه ليست نصيحة سلبية .. إنها فقط واقعية .
4- الأحبة
صدق أو لا تصدق .... الأحبة حلاً !! ، وكما يقول سيغموند فرويد : كم يكون المرء شجاعاً عندما يتأكد من أنه محبوب .
قد نقلل من قدراتنا ، ونبخس حق أنفسنا ، ونخاف من المواجهة ، ولكن الإنسان عندما يتأكد من كونه محبوباً يصبح شجاعاً فيتلاشى كل ذلك ، أضف لذلك أن الأحبة يعززون من ثقتنا في أنفسنا وقدراتها ، لذلك عندما تريد القيام بأمر سوفته كثيراً ناقشه بكل صراحة مع من تحب ... إن دعمهم النفسي سيقودك لذلك . ( إذا كنت تحب نسرة وتحبطك .... أهو دأني لو فلحت 😛)
وختاماً سيدي القارئ أقول ... لا تُقيم نفسك وفقاً لمقدار إنتاجيتك ، فالحياة والعمل شيء وروحك شيء آخر ، قد يراك الناس الذين انغمسوا في ماديات الحياة أنك قليل الإنتاج فاشل ، لكن روحك أجمل بكثير من وصفهم.
فحتى ليوناردو دافنشي لم أختره كمثال عبثاً ... فهذا المسوف الذي نعته كل أهل زمانه بالمهمل الكسول ، هو اليوم يتربع على عرش عصر النهضة الأوربية .. وسيخلد التاريخ اسمه رغم أنوفهم .
لا تكتئب الحياة ليست إنتاجاً فقط . ( بس قوم سو الشغل الي أنت مأجله أنا مو كاتب مقال عشان حضرتك تتربع وتقعد وما تقوم تسوي شي ... يلا قوووووووووم 😒 )