سيدي القارئ ...
لو أردت شراء مكنسة كهربائية مثلاً ، هل تفضل التسوق في متجر ضخم يعرض خمسين نوع من المكانس ، أو متجر آخر يعرض خمسة أنواع فقط ؟ وفي أيمها ستشعر بالرضا عن ما قمت بشرائه ؟
فَـكِّـر ملياً .. ثم جاوب .
يُروى في حكايات العرب قديماً أن صياداً يُدعى "خراش" خرج يومياً لصيد الظباء ، فحمل جعبة سهامه وتنقل في أرجاء الغابة بحثاً عنها ، بَـيدَ أنَّـه لم يظفر بشيء طول النهار ، فلما أرهقته كثرة المشي استراح تحت شجرة لينعم بقيلولة تعيد له نشاطه .
استيقظ "خراش" على صوت قطيع من الظباء يدور حوله ، وما كان يلاحقه منذ ساعات الصباح الأولى يقف الآن بين يديه ، فاستل سهماً ليقتل ظبياً ، لكنه كلما صوب على واحد قفز أمامه آخر أسمن منه وأكبر ، فيترك الذي بين عينيه ويتحول إلى صاحبه .
وهكذا كان يتنقل من واحدٍ إلى آخر حتى فرت جميع الظباء ، وعاد إلى بيته خائباً دون صيد وأنشأ يقول :
تَكاثَرَت الظِباءُ على خَراشٍ * فَما يَدري خَراشُ ما يَصيدُ
ما الذي جعل "خراش" يعود إلى بيته جائعاً دون صيد ؟ الظباء كانت أمامه والقوس بيده ؟!!!! أين الخطأ ؟
هذا ما سأحاول لفت انتباهك له ...
تسعى المجتمعات المعاصرة إلى تحسين حال المواطنين وزيادة رفاهيتهم ، وذلك عن طريق منحهم المزيد من الحريات الفردية .
فالفكر السائد ينص على أن لو كان للإنسان حرية التصرف والاختيار فهو حتماً سيختار لنفسه الأشياء التي من شأنها أن تزيد من رفاهيته ومتعه الشخصية وترفع من جودة حياته .
وهذا يعني كلما كثرت الاختيارات كلما زادت الحريات ، ورافقها في ذات الوقت المزيد من الرفاهية .
بَـيْـدَ أنَّ العلم لا يتفق مع هذا الفكر ، فكثرة الاختيارات تخلف شعوراً سيئاً وليس الرضا أو المتعة .
أولاً كثرة الاختيارات تصعب علينا الاختيار ولا تمنحنا ذلك الشعور المترف بالحرية ... بل قد يصل بنا الحال إلى العجز عن الاختيار .
أجرت بروفيسورة السلوك الاقتصادي السيدة "شينا لينقر sheena lyengar" تجربة ، ووضعت في أحدى محلات السوبر ماركت ركناً إعلانية يتضمن 6 أنواع من المربى ، فرأت أن 40% من المتسوقين وقفوا ونظروا لها و 30% من هؤلاء الناظرين اشتروا منها ، ولكنها عندما وضعت 24 نوع رأت أن 60% من المتسوقين تفرجوا عليها ، إلا أن 4% من الناظرين فقط أشتروا منها .
وذلك حسابياً يعني أن فرصة الشراء كانت 6 أضعاف عندما كانت عدد أنواع المربى أقل .
وفي دراسة أخرى أقامتها البروفسورة "لينقر" على صناديق التوفير والادخار لدى البنوك الأمريكية ، وكانت الدراسة تشمل أكثر من مليون مواطن أمريكي ، رأت أن البنوك كلما قَدّمت صناديق أكثر كلما كان عدد المشاركين فيها أقل ، والعكس صحيح ، فالبنوك التي تقدم صندوقين ادخار وتوفير أو ثلاثة فقط كان المشتركين فيها 70% من عملاء البنوك ، بينما البنوك التي قدمت 60 صندوق ادخار وتوفير كان عدد المشتركين فيها 14% فقط من عملائهم !!! .
أي كلما زادت الاختيارات قل انتقاء الناس لأحد هذه الاختيارات .
ويقول بروفيسور علم النفس "باري شوارتز Barry schwartz" تعقيباً على هذه التجارب : مع كثرة الاختيارات المتعددة المتاحة يجد الناس صعوبة في اختيار أي شيء ، ويحاولون تأجيل قرار الاختيار لوقت لاحق للحفاظ على كل الخيارات المتاحة ، إلا أن التأجيل يتبعه التأجيل ... وبالتالي فإن العجز عن اتخاذ القرار أحد عواقب كثرة الاختيارات .
ثانياً تعدد الاختيارات يقلل من رضانا وقناعتنا بما اخترناه .
في كتابه الرائع "معضلة الاختيار" يقول البروفيسور "باري شوارتز " لو دخلت إلى متجر يبيع مئة نوع من تتبيلات السلطة ، ثم اخترت نوعاً واحداً ولم يكن لذيذاً ، سيكون حينها من السهل على دماغك أن يتصور أنه كان بإمكانه اختيار واحد آخر ولا شك أنه ألذ مما اخترته .
وهنا البدائل - التي تخيلت أنه كان بإمكانك الحصول عليها - ستدفعك للندم والشعور بعدم الرضا على ما قمت باختياره في حال لم يكن الاختيار مثالياً .
أي كلما كثرت الاختيارات كلما سهل على دماغنا الندم وعدم الرضا .
ويضيف السيد "باري" أن كثرة الاختيارات تؤدي إلى رفع توقعات الناس حول تلك الاختيارات وبالتالي تقل قناعتهم بنتيجة اختياراتهم حتى وإن كانت جيدة .
لنعد إلى مثال المكنسة الكهربائية ...
لنفرض أنك تريد شراء مكنسة كهربائية لكنس المنزل وتنظيفه من الغبار وما يقع على الأرض ، فتدخل إلى متجر ضخم وتقرر شراء مكنسة تقليدية ذات جودة جيدة سعرها مثلاً 20 دك ، فتجد أن هناك مكنسة تنظف الغبار وتشفط السوائل سعرها 30 دك ، وهناك مكنسة لاسلكية سعرها 50 دك ، وتجد مكنسة دائرية صغيرة تعمل بالذكاء الصناعي وتكنس المنزل لوحدها وسعرها 180 دك .
المكنسة التي اخترتها تمثل السعر العادل وستؤدي الوظيفة المطلوبة ، إلا أن كثرة الاختيارات المتاحة رفعت من توقعاتك حول المكنسة المثالية ، وبالتالي ستشعر أنك اخترت المكنسة الأدنى بين كل الاختيارات المتاحة ، ولن تشعر بالرضا عن قرارك على الرغم من أنه اختيار مناسب لك .
إن أدمغتنا تفكر بطريقة "الفرصة البديلة" أي عندما تختار شيئاً ما فإن أدمغتنا لن تنظر فقط إلى ما ستتمتع به باختيارك ، بل ستفكر أيضاً بما خسرته بتركك لبقية الاختيارات ... دماغك سيتذكر كل المميزات التي لم تحصل عليها وهذا مؤلم لشعورك وقناعتك .
لذا يقول البروفيسور "باري" : سر السعادة في التوقعات المتواضعة التي توفرها قلة الاختيارات .
و"خراش" الذي لم يكن أمامه أي خِيارٍ طوال النهار عجز دماغه عن القرار بعد تعدد الاختيارات ، ولنفرض أنه اختار ظبياً واصطاده فحتماً لن يشعر بالرضا التام عن صيده فلقد كان هناك قطيع كامل غير الذي في يديه .
حياتنا أقعد من أمثلة التسوق التي ذكرتها أو من ظباء خراش ، فاختياراتنا هي شخصيتنا ومسار حياتنا ، ويومياً نعيش مئات القرارات والاختيارات ... نحن نختار من نحب ومن نصاحب ، نختار ما سنكون عليه في المستقبل ، نختار ما ندخر وما نصرفه وكيف سيكون يومناً .. وهكذا هلم جراً .
ولأنها الحياة ... فلا شك أن بعض قراراتنا لن تكون مثالية ، وهنا ستكون مفارقة الاختيارات المحدودة .
لو اخترت أمراً سيئة بين مئة فستشعر بخيبة أمل وإحباط ... فلقد كان هناك بدائل عدة وبإرادتك اخترت السيء ، وستتهم نفسك بالتقصير في التأمل والتفكير ببقية الاختيارات ، وهذا ما سيخلف شعوراً سيئاً جداً واكتئاب .
بينما لو اخترت اختيار سيء بين ثلاث اختيارات مثلاً فمن المجرح أنك ستنسب ذنب القرار السيء إلى الاختيارات في حد ذاتها ، وهذا سيخفف العبء عن ضميرك وشعورك ، وبالتالي ستشعر بالمزيد من السلام النفسي .
والأسوأ من هذا أن يتغلب الخوف من عدم انتقاء أفضل خِيار ، فينتج عنه عدم اتخاذ قرار أصلاً ، لنكون عرضة لما تفرضه علينا الحياة فقط مُسَـيَـرين غير مُخَيَـرين .
لذا كي لا تكون عرضة للإحباط في مختلف تجارب الحياة قلل من توقعاتك حول مثالية الاختيارات وذلك بتقليل عدد الاختيارات في الحياة .
يقول جل علاه : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } .
لا تنظر إلى كثرة الاختيارات على أنها مزيد من الرفاهية والترف المادي ، الشعور بالرضا نابع من قلة الاختيارات وليس كثرتها ، فلا تنشغل في الاختيارات البديلة وما ستخسره في حال تركها ، فَـكِّـر فقط فيما ستستمتع به بالذي بين يديك .
السر السعادة في القناعة وقلة الاختيارات يا خراش .